ألف رحمة ونور عليك يا غسان يا كنفاني. ولد في عكا بفلسطين 8-4-1936. واستشهد في بيروت 8-7-1972. ولأن الشيء بالشيء يذكر. فشهداء اليوم يذكروننا بشهيد الأمس. والاستشهاد أو الشهادة أعلي مراتب التضحية والفداء. وأنا لست في حاجة لأي أمر آخر حتي أتذكر غسان كنفاني. وأهرب إلي رواياته ومجموعاته القصصية وكتاباته النثرية لأستعيده. فالرجل حاضر بتألقه. والأهم حاضر بقصته الشخصية. ورغم قصر حياته الشديد الذي يبدو مثل لحظات البرق الخاطفة. فقد ترك الرجل تجربة أدبية شديدة الثراء. وتجربة صحفية لم يدرسها أحد حتي الآن علي الأقل في حدود علمي.
ما الذي يذكرني بغسان كنفاني الآن؟! كلما استشهد مصري في عرض البحر. وهو في الطريق إلي أوروبا. بحثاً عن فرصة عمل في رحلة خرافية لا توصل من يقوم بها إلي نقطة وصول. تذكرت رائعتك الروائية والقصصية: رجال في الشمس. التي تحكي تجربة فلسطينيين. كانوا يرغبون في السفر من العراق إلي الكويت. لم تكن هناك وسيلة غير أن يقوم سائق لوري عبارة عن فنطاس لنقل المياه. يقوم هذا السائق بتخبئتهم في فنطاس سيارة لنقل المياه.
عندما استغرق السائق وقتاً طويلاً في نقطة التفتيش الحدودية بين الكويت والعراق. يموت الذين تركوا أرض العراق. ولم يصلوا إلي حلم الكويت. عندما يكتشف السائق «أبو الخيرزان» وفاتهم. يسألهم صارخاً في البرية:
- لماذا لم يدقوا خزان المياه من داخله. لينبهوه حتي ينقذهم؟!.
مع أنه اشترط عليهم عندما ركبوا معه ألا يصدروا أي صوت. من لحظة تخبئتهم داخل الفنطاس. وإلا لن يصلوا إلي الكويت. وهي الرواية الفريدة لغسان كنفاني: رجال في الشمس. والتي حولها توفيق صالح - يرحمه الله رحمة واسعة - إلي فيلم سينمائي. أبيض وأسود عنوانه: «المخدوعون» مع أن عنوان غسان كنفاني يبدو أقرب للحكاية. ويعبر عنها بصورة أقرب للمأساة والمحنة التي يقدمها في روايته. ولكن إبداع توفيق صالح في فيلمه الجميل. الذي لم يعرض عرضاً جماهيرياً في مصر حتي الآن. وحُرِمَ أهل مصر الذين هم أهل توفيق صالح. من مشاهدة إبداعه السينمائي الموازي لإبداع غسان كنفاني الروائي. والذي لا يقل أبداً عبقرية سينمائية عن عبقرية غسان كنفاني الروائية.
المخدوعون يبدو أقرب إلي ما يجري في أرض الواقع الآن. فكم من مصري مخدوع يجري وراء حلم الثراء الذي يأتي من وراء الحدود؟ ويضيع عمره ولا يصل إلي هذا الثراء أبداً. إن عبقرية الإبداع الإنساني عندما لا يكتفي الكاتب برصد ما يجري. ولا ينظر إلي الماضي في غضب. ويستشرف المستقبل ويري الزمن الآتي. بكل تجلياته. حتي قبل أن يحدث. إن النبوءة أجمل تجليات الإبداع الأدبي. واختراق المستقبل. واستحضاره قبل أن يجيء سر من أسرار الإبداع. إن استشراف المستقبل في إبداع كنفاني كصاحب نص روائي. وإبداع توفيق صالح كصاحب فيلم سينمائي. أثر فينا كثيراً في العديد من الأحداث التي تجري في أرض الواقع. ويكفي أن أتحدث عن مسلسل الغرق المصري في البحار. عندما يحاول المصري الهروب من مصر إلي خارجها.
الذي يثير الأسي في النفس لحد الرغبة في البكاء. أن الشاب المصري الذي يرحل إلي أوروبا بحثاً عن العمل والأمل يدفع في هذه الرحلة مبلغاً من المال لو أنه أنفقه في عمل له في مصر حتي لو كان عملاً خاصاً لحلت مشاكله. ولتحققت له النجاة من الموت في عرض البحر. عرفت عندما سألت أن الحد الأدني الذي يدفعه الشاب للمهربين الذين يهربونهم إلي أوروبا يبدأ من 75 ألف جنيه. وأحياناً يزيد عن هذا المبلغ. والحد الأدني يمكن أن يفتح مشروعاً هنا في مصر يوفر لهذا الهارب من بلده حياة معقولة. بل ربما كانت مقبولة.
ما يخفف من الهم ما أقرؤه كثيراً في الفترة الأخيرة عن أن خفر السواحل وسلاح حرس الحدود بقواتنا المسلحة الباسلة يكتشفون كثيراً من هذه المحاولات ويلقون القبض علي الشباب قبل ان ينتقلوا من معلوم بلادهم إلي مجهول رحلة يمكن أن تقودهم إلي النهاية بدلاً من أن تأخذهم إلي بر الأمان. مع أنه لا أمان أبداً إلا هنا في مصر.
لن أتحدث عن حلول. ليس لوصول الإنسان للحظة من اليأس. لكن يشعر الإنسان أن الكلام عن الحلول لا يجد من يقرؤه ومن هو مستعد للتعامل معي رغم إدراكي الكامل أن كل المسئولين في مصر الآن حريصون علي حياة أي شاب مصري. لكن ما هو الحل؟ لا بد من حل لا يجعل الشاب المصري يفكر في الهجرة من بلده مهما كانت الظروف.