جاءت حبيبتي حقيقة كالأمل/ جاءت تحمل معها أضواء غَدِنا البسام/ آثرت منزلي ذا الغرفة الواحدة/ والأثاث الهَرِم/ علي وثير العيش/ إنها حقا بداية جميلة/ لأناس يحبون الشعب. هذه الكلمات مقتطف من رسالة وجدتها العروس في «الصباحية» من عريسها المناضل صلاح حسين، تحكي بعد أن مر العمر عن الحبيب المقتول بيد جبابرة الإقطاع، تقول:» باحط إيدي تحت المخدة كده لقيته كاتبلي جواب، معايا صورة منه»، وتوهمنا أنها تبحث عن الصورة بين الأوراق، لكنها تردد كلمات الخطاب- بعد ثلاثين عاما! عن ظهر قلب- وبعينين مغرورقتين بالدمع. تماما كدموعنا التي نحبسها الآن حزنا علي رحيل «أم الفلاحين»، المناضلة «شاهندة مقلد». كان زوجها، ابن عمتها، ولأن حياته كمناضل يدافع عن حقوق الفلاحين ضد فلول الإقطاع في مصر، بعد ثورة 1952، علي كف عفريت، ما بين اعتقالات وصراعات، رفضت الأم الزيجة: قائلة: « أنا حاقطع شاهندة ميت حتة/ وادي للكلاب حتة حتة/ ومش حادي لصلاح حتة»، لكن الحب جمع الأشلاء المُتخيلة، كما جمعت إيزيس أشلاء أوزوريس، وانتصر علي خوف الأم علي ابنتها، وتزوجا. الحكايات تحكيها الراحلة منذ سنوات في فيلم وثائقي، غير متداول في سينيمات مصر للأسف، اسمه: «أربع نساء من مصر»، أنتجه المركز القومي الكندي للسينما (1997)، وأخرجته المخرجة: تهاني راشد. الأربع نساء اللواتي يحكين حكاية وطن، وحكاية صداقة هن: «شاهندة مقلد، أمينة رشيد، وداد متري، صافيناز كاظم»، كل منهن بحجم وطن بكامله، كل منهن لها توجهاتها السياسية المغايرة للأخريات، بل المتضاربة، لكن حب الوطن كبطن الأم يسع العراك، والمعتقل يضيق عليهن في كل مرة اعتقلن فيها ويتسع بحبهن، ليلد أجيالا وراء أجيال، لا تفرقها الطرق، مهما تشعبت. بعد قتل الزوج (1966)، واصلت شاهندة نضالها مع الفلاحين، تعتقل حينا، وتخرج للحقول والنور لتربي، كأرملة، أبناء ثلاثة، ابتُليت بمقتل أحدهم في ظروف غامضة في موسكو، منذ بضع سنوات، كما ابتليت، قبلها، باستشهاد شقيقها في حرب الاستنزاف (1970)، «العمل الميداني»، لا الأفكار المُحلقة في الفراغ، كان طريقها، تغيير وعي البسطاء كان هدفا وضعته نصب عينيها حتي آخر لحظة في حياتها، في الستينيات وأثناء مرور موكب عبد الناصر بقرية «كمشيش»، حيث ولدت وكافحت، اعترضت الموكب، «ورميت نفسي ع العربية»، ولما حاول الأمن إبعادها، أصرت علي محادثته، وسلمته رسالة الفلاحين المحتشدين خلفها، تحكي أن «جيفارا»؛ إيقونة الثورات، كان يجلس إلي جواره، يحكون أنها قالت لجيفارا: «نحن فلاحي قرية كمشيش، سكان القرية الثورية». في عام 2012، كانت قد تجاوزت السبعين، حين خرجت في مظاهرة ضد حكم الإخوان المسلمين، أحدهم حين بدأت في الهتاف وضع يده علي فمها، كي تسكت! لم يكن يعرف أن الصورة «الشهيرة»، كانت كافية لتنتفض نساء مصر، فلاحاتها ومثقفاتها، كي تهز عروشهم، وهل يضع عاقل، يريد أن يحكم بلدا، يده علي فم من هي «شاهندة مقلد»، ليُخرسها بعد هذا العمر؟! كانت الصورة مضحكة ومبكية في آن، كما هي مضحكة ومبكية كلمات الشامتين في موتها. في صباح الأربعاء 1/6/2016، كتب تاريخ نضال المرأة المصرية، أجيالا بعد أجيال، رحيل «شاهندة مقلد»، عن 78 عاما، بعد حياة خاضتها بصلابة الفلاحين، الذين شبه صلاح جاهين القمح بهم: « القمح مش زي الدهب/ القمح زي الفلاحين»، رحلت من كانت تتلقي أغاني الشيخ إمام، بكلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم، لتؤنسها في زنزانتها: « ياشاهندة وخبرينا/ يا أم الصوت الحزين/ يا أم العيون جناين/ يرمح فيها الهجين/ إيش لون سجن القناطر/ إيش لون السجانين/ إيش لون الصحبة معاك/ ثوار البساتين». رحلت من اختلف معها الكثيرون، لكنها كانت قد نقشت محبتها كالوشم في قلوبهم وضمائرهم، يبكيها من عرفوها عن قرب، ومن لم يعرفها -شخصيا- مثلي، كمن «تيتم»، ويدعون لها ببداية جديدة، تليق «بأناس» أفنوا أعمارهم:»يحبون الشعب».