فجأة ودون سابق إنذار توحش الغلاء وخرج عن مساره الطبيعي وقفز بمعدلاته الموسمية التي اعتاد عليها الناس في مثل هذه الأيام في شهر رمضان الفضيل أعاده الله عليكم وعلي مصرنا الغالية بكل الخير والحب والوئام. صحيح أننا شعب أكول ولدينا نمط استهلاكي فوضوي غير رشيد لكن الأرقام المفزعة التي أتحفني بها الدكتور عادل عامر خبير التحكيم الدولي ومستشار الهيئة العليا للشئون القانونية والاقتصادية بالاتحاد الدولي لشباب الأزهر والصوفية في رسالته البريدية تؤكد أيضاً أن ارتفاع الأسعار هو أحد أسباب تلك الأرقام. يقول الخبير في رسالته إن طعام المصريين في رمضان يأتي في المرتبة الأولي من إنفاق الأسرة المصرية، وأن المصريين يأكلون خلال الأسبوع الأول من رمضان ما يقرب من 3,7 مليار رغيف و20 ألف طن فول و80 مليون دجاجة. بذلك تنفق الأسرة المصرية 45,9% من إجمالي ميزانيتها علي الطعام سنويا بمقدار 220 مليار جنيه، ويستحوذ شهر رمضان علي 25% من حجم الإنفاق بمقدار 32 مليار جنيه، أي في اليوم الواحد مليار وربع المليار جنيه !! معقول؟
طبعاً معقول لو أخذنا في اعتبارنا الارتفاع الجنوني في الأسعار قبيل شهر رمضان مع تزايد عدد السكان وارتباط الأسبوع الأول من الشهر الفضيل بالولائم والمآدب لصدقنا هذه الأرقام رغم قسوتها.
لن أتحدث اليوم عن ارتفاع أسعار السلع غير الأساسية المرتبطة برمضان وقد تحولت إلي سلع استفزازبة كالياميش وقمر الدين الذي عشت لأري اليوم الذي تباع اللفة الواحدة منه بخمسين جنيهاً. ولن أتحدث عن القفزات المهولة في أسعار اللحوم والدواجن التي كانت حتي وقت قريب سلعاً موسمية لا تقربها الأسر الفقيرة إلا في الأعياد وشهر رمضان بفضل فرض الزكاة والصدقات، فأصبحت اليوم أشبه بالمستحيلات بعد الارتفاع الهائل الأخير في أسعارها. لكن أن يصل الجنون إلي أسعار الأرز فهذه هي الكارثة التي تكشف الفشل الذريع في السياسات الحكومية ليس فقط علي مستوي العجز عن السيطرة علي الغلاء ولكن أيضاً في عدم التنبؤ بالأزمات والاستعداد لها قبل وقوعها خاصة في المواسم المرتبطة بالطعام. الأرز تحديداً يعتبر الطبق الرئيسي في كل الموائد المصرية، بل هو المكون الأساسي للطبق الوحيد المتكامل الذي يغني الأسر البسيطة غالباً عن قوائم الطعام المتنوعة وأقصد به طبق المحشي الذي «تبر» به الأسر محدودة الدخل «عيالها».
قبل سنوات قليلة شهدنا كارثة مشابهة حين قفزت أسعار فول التدميس بشكل جنوني قبيل شهر رمضان أيضاً ولم تهدأ حتي الآن. الفول أيضاً طبق رئيسي في رمضان وفي غيره من الشهور حتي إن الأشقاء العرب رغم عشقهم له يعايروننا به ويطلقون علينا لقب «الفوّالة».
مشكلتنا في مصر أنه حين يرتفع سعر إحدي السلع فإنه لا يتراجع أبداً حتي أننا نسينا مصطلح «تذبذب» الأسعار الذي يعني عالمياً ارتفاعها وانخفاضها، وأصبح كل ما نعرفه عن الأسعار هو «تحريكها» اسم الدلع للغلاء.
توحش الأسعار أطاح بكل محاولات الحكومة للسيطرة عليها، وأصبحت علاوة الجنيهات الثلاثة الأخيرة للفرد دعماً للمواد علي بطاقته التموينية مثار سخرية المواطنين لأنها ببساطة تساوي - وأحياناً تقل عن - الزيادة التي طرأت علي سلعة واحدة. فحين يرتفع سعر زجاجة الزيت التمويني أو كيلو الأرز مثلاً ثلاثة جنيهات يحق لك أن تتخيل كم ثلاثة جنيهات أخري يحتاجها الفرد المتمتع ببطاقة تموين لكي يعوض فارق السعر المتنامي بشكل يومي ويصبح السؤال أكثر إيلاماً حين يتصل الأمر بغير المشمولين بالدعم الغذائي الذين مهما ارتفعت دخولهم فإنها تتآكل نتيجة هذا الغلاء. ودائما تكون الشماعة التي نعلق عليها أزماتنا هي حلول الشهر الكريم.
جلطة مرورية
الثلاثاء :
ساعة كاملة قضيتها مساء الثلاثاء السابق لشهر رمضان في ميدان التجنيد بمصر الجديدة. إنه يوم الحشر. جلطة مرورية أدت إلي شلل رباعي في كل محاور الميدان. تبحث عن إشارة مرور واحدة مضيئة فلا تجد. تفتش عن عسكري مرور واحد فلا تجد مع أن الميدان علي اتساعه وتعدد محاوره يحتاج لأكثر من جندي ينظم المرور. تبرع المارة لحلحلة الموقف باجتهاداتهم البدائية عديمة الخبرة بما في ذلك عدم التنسيق بينهم.. فالمركب اللي فيها ريسين تغرق، وكانوا أكثر من سبعة رؤساء لكل منهم رأيه اللي من دماغه فمن يسمح بالمرور في اتجاه معين يجد من يأتي ليوقفه ويحتار قائدو السيارات بين التعليمات المتضاربة للمجتهدين.
تسمع أحد ركاب السيارة المجاورة وهو يصيح « رمضان هو السبب.. الناس كلها في الشوارع استعداداً لرمضان»! لاحظ أن الواقعة حدثت قبل حلول رمضان بأسبوع تقريباً. المهم.. تنفك الأزمة بمنتهي البطء مثل قطرة المحلول المتساقطة في الوريد. ما علينا فُرجت. استطعت النفاذ بأعجوبة لكن ما أثار دهشتي الشديدة كان السيولة الواضحة بعد ذلك في شارع جسر السويس باتجاه روكسي. ثم كان ما أصابني بالذهول حين شاهدت ما لا يقل عن عشرة ضباط وجنود مرور متجمعين في الإشارة التالية ! عند تقاطع شارع القبة مع جسر السويس. ماذا يفعل كل هؤلاء هنا؟ ولماذا لا يوجد ولو ضابط واحد وجندي مرور في الإشارة السابقة ليفكك « المعجنة» هناك؟
ظلمنا رمضان واتهمناه، بينما كان السبب هم رجال المرور أو بالأحري عدم التخطيط المروري وتوزيع الجنود والضباط توزيعاً عادلاً علي الميادين. حتي في الطرق تتعامل أجهزتنا التنفيذية بالتمييز الفاضح. طوال الشهر الفضيل حين تزداد الكثافات المرورية إعلم أن رمضان ليس هو السبب. فستري العجب في العشر الأواخر ساعتها ستكون الشماعة هي الاستعداد للعيد.
سلالم النقابة
الأربعاء :
بالأمس حيرتني مسألة سمعة سلالم نقابة الصحفيين وانقسام الرأي العام حولها. المناسبة كانت تجمع عدد لا بأس به من الصحفيين في الإفطار الجماعي السنوي الذي تقيمه النقابة في شهر رمضان. هذا المكان يعتبره البعض واحة لحرية التعبير وملاذاً للمظلومين كي يرفعوا مظالمهم ويجأروا بشكاواهم لعل أصحاب الحل والعقد في البلاد يسمعونهم وينظرون في أحوالهم، بينما يعتبره البعض الآخر ومنهم من أهل النظام مكاناً سيء السمعة باعتبار أن سلالم النقابة هي المقر المختار لبعض نشاطات المعارضة ومأوي لمثيري الشغب ومكدري السلام الاجتماعي. حيرتني أيضاً مسألة الوضع القانوني لهذه السلالم التي تحولت بفعل السنين إلي هايد بارك رسمي ومعترف به علي الأقل في خلفية الذهنية الجمعية للمصريين. هل هذه السلالم جزء لا يتجزأ من مبني النقابة بحيث إن كل نشاط يتم علي درجاته تتحمل مسئوليته نقابة الصحفيين، أم أنها جزء خارج عن المبني لا ولاية أو سلطة للنقابة عليه؟
الكثيرون ــ حتي من أعضاء النقابة - لا يعرفون أنه لا سلطة ولا ولاية للنقابة علي غالبية الوقفات الاحتجاجية أو التظاهرات التي تقوم بها بعض الفئات أو الجماعات السياسية علي سلالم النقابة. ولا يعرفون أن نقابة الصحفيين لا تملك سلطة الموافقة أو الرفض لقيام تلك الوقفات علي سلالمها فهي حتي لا تُستأذن من أصحاب تلك النشاطات الذين يستخدمون سلالم النقابة ومدخلها مع أنهم يستغلون يافطة اسمها التي تتصدر المبني للتصوير تحتها وتسجيل المواقف وإجراء المقابلات التليفزيونية.
قد تكون هذه الحقيقة صادمة لمن يسمعها للمرة الأولي، فالواقع أنه منذ صدور قانون تنظيم التظاهر يتعين علي أصحاب الوقفات أو الراغبين في القيام بمسيرات الحصول علي موافقة أمنية من مديرية الأمن التابعين لها. وقد حلا لأصحاب هذه النشاطات والمظالم اختيار نقابة الصحفيين للقيام بنشاطاتهم علي مدخلها باعتبارها واحة الحريات وربما لما لاحظوه من انطلاق بعض المسيرات المعارضة المهمة التي دعت لها النقابة من مقرها إلي ميدان التحرير وقصر الاتحادية إبان حكم الإخوان والتي وصل عددها في تلك الفترة وحتي نهاية حكم الإخوان إلي 11 مسيرة شارك فيها جمهور النقابة وغيرهم من باقي طوائف الشعب. وربما يأتي اختيار أصحاب الوقفات لسلالم النقابة بعد صدور قانون التظاهر لموقعها المتميز في قلب القاهرة بشارع مزدحم بالسيارات والمارة بما يمنحهم زخماً إعلامياً مضافاً بخلاف التغطيات الإعلامية العادية. كذلك يبدو أن سلطات الأمن استراحت - بدورها - للموقع ذاته لأسباب تخصها ربما لسهولة السيطرة علي المكان وتطويقه عند الحاجة لو تصاعدت الأمور بشكل يفوق طاقة السلطات علي تقبل الأمر مع عدم تأثير تلك الإجراءات الأمنية علي حركة المرور في قلب العاصمة.
قد يعن لك التساؤل هنا عن دور النقابة فأجيبك: لا شيء!
وماذا عن مسئوليتها لو حدث أي تجاوز في تلك الفعاليات؟ فأجيبك أيضاً: لاشيء!
فالنقابة ليست لديها الأدوات والإمكانيات أو الوسائل لا لتأمين تلك الأنشطة ولا لصدها ومنعها من التجاوز. وكم من وقفات احتجاجية تمت علي السلالم دون أن يكون للنقابة دور أو رأي، ودون حتي أن تستأذن ـــ ولو ودياً - لا من أصحاب الوقفات ولا من أجهزة الأمن! لا تعجب فقد حدث هذا في الوقفات الاحتجاجية الرافضة لقانون الخدمة المدنية، ومن الشباب المتقدمين للتعيين في النيابة العامة وتم رفض تعيينهم، وفي الوقفة التي قام بها حاملو الماجيستير والدكتوراه وفي بعض الوقفات الفئوية التي قام بها عمال وفلاحون.
علي أن الضرر الواقع علي سمعة النقابة لدي الرأي العام أكبر بكثير من قدرتها علي احتوائه. ودعني أفاجئك بأن بعض هذه الوقفات جاءت لتناهض نقابتي الصحفيين والمحامين وقد حدث في وقفة المتظلمين من إلغاء نظام التعليم المفتوح أن أقاموا وقفتهم علي سلالم نقابة الصحفيين بتصريح من الأمن وتعرضوا بالسب والقذف للنقابتين بسبب موقفهما المعلن الرافض لنظام التعليم المفتوح. ولك أن تتخيل مشهد نقيب الصحفيين لدي دخوله مقر نقابته بينما تحاصره الهتافات المناوئة له من أصحاب وقفة التعليم المفتوح علي سلالم النقابة. ولك أن تتخيل المأزقين الأمني والأخلاقي لنقابة ترفع شعار حرية الرأي والتعبير تناصر المظلومين هل تضطر للمطالبة بتقييد حرية التعبير وبإخراس الأصوات انتصارا لكرامتها؟ أم تتحمل الأذي بكل أشكاله انتصاراً لمبادئ حرية التعبير والرأي مهما كان ذلك علي حساب سمعتها؟
لو صدقت النوايا أتمني ألا تقصر سلطات الأمن منح تصاريح الوقفات والتظاهر علي سلالم نقابة الصحفيين وحدها، وأن تنتقي مواقع أخري لها نفس الميزات التي تتمتع بها سلالم النقابة - وهي متوفرة - لتوزع عليها تصاريح الوقفات والتظاهرات كي تخفف عنها - إن أرادت - هذا الحمل الأخلاقي. ولا أظن أن ثمة مانعاً عملياً يحول دون التنسيق مع النقابة فيما يتعلق بالتصاريح الممنوحة لراغبي التظاهر بحيث تكون الأولوية للنشاطات التي تبادر بها النقابة وتدعو لها، ثم ما تدرسه النقابة وتقبله بما يتلاءم مع مواقفها وقناعات أعضائها. علي أن تبقي سلطة التأمين والتفريق خالصة من صلاحيات الأمن.
فلاحة كمشيش
الخميس :
هناك أشخاص حين تتعرف عليهم توقن أنهم رسموا لأنفسهم طريق الخلود، ولا يساورك أدني شك من فرط حيويتهم أن هذا الجسد يمكن أن يكل أو ينهزم. شاهندة مقلد كانت من هذا النوع البللوري المضيئ. كنت أسمع عنها كثيراً لكني قابلتها للمرة الأولي في أعقاب ثورة 25 يناير لإجراء حوار معها نشر في الأخبار. فقد كانت واحدة من علامات هذه الثورة مثلما كانت طوال حياتها. فقيدة الوطن كانت أيقونة لنضال المرأة المصرية ضد الظلم والاستبداد والاستعمار. هي أم الفلاحين ونصيرتهم. لم تتح لي الفرصة لتوديعها بما يليق بها لكني أدعو الله لك يا جميلة الروح بأن يتغمدك الله برحمته ويحسن مثواك.