< رفيقي في الرحلة كان المرحوم الكاتب الصحفي جمال كمال، من احد اهم المحررين العسكريين، والذي وافته المنية قبل ان يبدأ مرحلة جني الثمار <
في حياة كلنا منا ذكريات عديدة، مرتبطة بالشهر الفضيل شهر رمضان في زمن الطفولة، كيف بدأ خطواته الاولي في عالم العبادة والصيام، ليدخل عالم الكبار من أوسع أبوابه، ويحصل علي اعتراف بذلك من محيطه العائلي الأب والام والأخوات، وكيف يتفاخر بذلك وسط أقرانه الصغار، الذكريات تمتد إلي الافطار في مكان غير متوقع، نتيجة لظروف طارئة او عمل مفاجئ، فرض علينا ان نخرج عن عاداتنا، في الحرص علي الإفطار بين أفراد الاسرة، او زملاء العمل او مجموعة الأصدقاء.
ولن انسي ما حييت صيامي في العاصمة السعودية الرياض، عندما فرضت علي الظروف ان أكون وحيدا بدون أسرتي، فكان اليوم الاول صعبا بعيدا عن « اللمة «، وهي احد مستلزمات رمضان، ووصل الامر إلي انني كنت أنتظر اي دعوة علي الافطار من أحد الأصدقاء او من اي جهة من الجهات، بعيدا عن الإفطار وحيدا، او في احد المطاعم التي تخلو من اي شعور بالحميمية. ولن انسي احد ايام رمضان في صيف عام ١٩٨٦ فهو الأطول بين كل ايام صومي طوال عمري، والحكاية بدأت بتكليف سريع للسفر إلي العراق، لتغطية إحدي المعارك الدائرة بين العراق وايران، والتي استمرت ثماني سنوات، المناسبة نجاح القوات العراقية في تحرير الفاو، بعد قيام الإيرانيين بالاستيلاء عليها لعدة أشهر وكنا في شهر رمضان، أهمية المناسبة هي من دفعتني إلي القيام بها، وقضاء ايام من رمضان خارج مصر، وهو امر صعب علي النفس، موعد إقلاع الطائرة كان غريبا بعد الإفطار بأقل من ساعتين، استلزم الامر ان أفطر لقيمات وأنا واقف، وبعدها ذهبت إلي المطار وانا أمني نفسي بإفطار شهي في الطائرة، وكانت اول المفاجآت غير السارة تأخر وصولها من بغداد عدة ساعات، وتوالت بعدها المفاجآت وكلها غير سارة، فبعد ركوبنا لم يكن بها اي اثر لوجبة العشاء لأستكمل به إفطاري، وانتقلت الأمنية إلي السحور في الفندق، وكان «مريديان بغداد» علي اعتبار ان الرحلة بالوصول إلي الفندق تستغرق أربع ساعات، وسنكون علي موعد من السحور، والذي لم يكن علي أجندة الفندق، وكنا في الساعات الاولي من يوم الجمعة، فاعتقدت ان جدول اعمال الرحلة يتضمن راحة يوم الجمعة، لنبدأ عملنا يوم السبت، ويبدو ان رحلة المفاجآت غير السارة لن تنتهي، فالبرنامج الموضوع من المشرفين من الاعلام والجيش يفرض علينا ان نلتقي في بهو الفندق بعد نصف ساعة من وصولنا، للسفر بالطائرة العسكرية إلي احد مطارات الجنوب.
رفيقي في الرحلة كان المرحوم الكاتب الصحفي جمال كمال، من احد اهم المحررين العسكريين، والذي وافته المنية قبل ان يبدأ مرحلة جني الثمار، ولو امتد به العمر لكان احد اهم القيادات الصحفية لقربه من المؤسسة العسكرية، وإيمانه بمحورية دورها علي الصعيد الوطني، وكنا الاستثناء بين صحفيين عرب ومصريين، عندما اتفقنا معا علي الاستمرار في الصيام، رغم ان لدينا رخصة السفر للإفطار وكل الظروف المحيطة بنا، المهم انتهينا من عملنا في اجواء شديدة الحرارة، تصل في ذلك الوقت وكنا في يونيو او يوليو إلي قرب الخمسين درجة مئوية، وكانت الخاتمة لقاء مع الفريق ماهر عبد الرشيد احد اهم رجال القوات المسلحة العراقية، وقائد الفيلق الثالث، والذي جهز مأدبة غداء فاخرة للصحفيين والإعلاميين، لم يقاومها واستمر علي صيامه سوي عدد محدود من المرافقين العراقيين وجمال كمال وأنا، فأمر الفريق ماهر عبد الرشيد بتجهيز عبوات من الطعام للمجموعة الصائمة، فاعتذر جمال كمال بأدب، علي أساس اننا في طريقنا في رحلة العودة إلي بغداد، وكان له ما أراد، وذهبنا إلي القاعدة الجوية لاستقلال الطائرة، فقالوا لنا ان الأجواء أصبحت منطقة عمليات عسكرية، ولن تسمح للطائرة بالاقلاع، فغلبنا النوم في أماكننا حتي أذان المغرب لندخل في يوم ثانٍ، دون فطار مناسب او سحور وكنا بين خيارين، الخروج من القاعدة التي لا يتوافر فيها طعام سوي للعاملين بها، ولا تسمح باستضافة احد، مع عدم معرفة متي ستقلع الطائرة، او الانتظار لحين العودة إلي بغداد، وبعد مرور ساعات تم توفير سندوتشات لا تغني ولا تسمن من جوع قرب منتصف الليل، وكان اليوم الأطول الذي واجهنا فيه صعوبة الامتناع عن الطعام والشراب، ونحن نخوض غمار مهمة شاقة في يوم شديد الحرارة.
لقاء ووداع
دفتر الذكريات انفتح أمامي عن سنوات طويلة، في العمل في مجال الشئون العربية لمدة تتجاوز ٣٥ عاما كاملة، أتاحت لي التعرف عن قرب علي شخصيات عربية مهمة، وإقامة علاقات صداقة تجاوزت العلاقة بين صحفي ومصدر مع عدد من السفراء العرب في القاهرة طول تلك المدة، في مقدمة هؤلاء الشيخ خليفة الحارثي سفير سلطنة عمان بالقاهرة، والذي غادر القاهرة منذ ايام في طريقه إلي تولي مهمة جديدة يمثل فيها بلاده في الامم المتحدة، حيث خرج من الإطار العربي كسفير لبلاده في مصر، ومندوبها في الجامعة العربية، إلي سفير للسلطنة في الامم المتحدة. والشيخ خليفة الحارثي واحد من اهم الصداقات لي في المحيط الدبلوماسي العربي، تم تكليفه بالمهمة في نهاية عام ٢٠٠٩، حيث شهد احد اهم الفترات في تاريخ مصر، السنة الاخيرة من حكم مبارك وأيام ثورة ٢٥ يناير، وزمن المجلس العسكري وأيام حكم الاخوان، وفترة حكم عدلي منصور الانتقالية، والعامين الأولين من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي. يبدي الشيخ خليفة الحارثي اعتزازه بفترة عمله في القاهرة، التي مثلت له علامة بارزة في مساره الدبلوماسي، خاصة أنه يتميز بثقافة عالية، وقدرات متميزة والحرص علي الانفتاح علي المجتمع المصري بكل طوائفه، كثيرًا ما جمعتنا جلسات للحوار حول جميع الأمور، لم تكن للنشر، فشعاري الذي أتعامل به منذ عملي في الشئون العربية هو « للمجالس أسرار «، كما انني علي يقين بان صحفي الشئون العربية يعرف اكثر مما ينشر، توافق مع انتهاء مدة الشيخ خليفة، مغادرة كل من محمد العلمي سفير المغرب وضياء الدباس سفير العراق وسبقهم بفترة بسيطة، سفير لبنان الدكتور خالد زيادة، والإماراتي محمد نخيرة الظاهري، وهذه هي سمة العمل الدبلوماسي، لقاء ووداع.
ودفتر ذكرياتي تكشف أوراقه ان كثيرًا من السفراء العرب في القاهرة، بحكم كونها قلب العروبة النابض، إما جاءوا اليها بعد ان تولوا مناصب مهمة في بلادهم، او عادوا بعد تعيينهم وزراء، ومن أشهرهم الدكتور هاني الملقي رئيس وزراء الأردن الحالي، وهو العاشق لمصر، ولمَ لا وهو خريج هندسة الاسكندرية، جاء للقاهرة سفيرا بعد ان تولي إحدي الوزارات، وقضي فترة عمله الناجح ليتم تعيينه من جديد وزيرا للخارجية، ومنه إلي تعيينه مستشار للملك، ليعود من جديد سفيرا لبلده في القاهرة، ومنها إلي المسئول عن تنمية اقليم العقبة احد اهم المناطق الاقتصادية التي تعول عليها الأردن، حتي تم تعيينه منذ ايام رئيسًا للوزراء، ومن الأردن ايضا السفير نايف القاضي، الذي عين وزيرا للداخلية بعد انتهاء فترة عمله في القاهرة، ومن العراق سمير النجم الذي عين ايضا وزيرا للداخلية في زمن الرئيس صدام حسين بعد تولي مهام سفارة بلاده في القاهرة، والأشهر هو الدكتور نبيل نجم الذي عاش سنوات «ازدهار» العلاقات مع مصر في نهاية الثمانييات» وانحسارها» في بداية التسعينيات، وظل يتمتع بمحبة وثقة كل الذين تعاملوا معه، علي جميع المستويات، ولم تتغير معاملة الرئاسة المصرية له علي المستوي الشخصي، عندما عاد مندوبا لبلده في الجامعة العربية في زمن قطع العلاقات مع العراق، وعندما عاد إلي بغداد عين مستشارا لنائب الرئيس العراقي طه ياسين رمضان، ليعود اليها مقيما معززا مكرما في بلده الثاني وبين أهله.
وتتعدد اسماء الشخصيات العربية التي أشرفت علي العلاقات بين بلادها ومصر، بعد ان تولت مناصب وزارية في بلادها، وفي المقدمة منهم المغفور له بإذن الله هشام ناظر سفير السعودية السابق في القاهرة، وكان وزيرا للتخطيط وأحد ابرز من تولوا وزارة البترول في السعودية، والسفير احمد لقمان سفير اليمن في التسعينيات في القاهرة، وجاءها بعد ان تولي وزارة الشئون الاجتماعية، وبعدها تولي منظمة العمل العربية، وكان احد الأسماء المرشحة لتولي رئاسة الوزارة في اليمن، قبل خالد بحاح رئيس الوزراء السابق كمرشح توافقي، ومن اليمن ايضا الدكتور عبد الملك المنصور، وكان وزيرًا للثقافة، وتولي مهمة مندوب بلاده في الجامعة العربية، ومن ليبيا المرحوم ابراهيم البشاري مندوب ليبيا في الجامعة العربية، وقد سبق له ان تولي وزارة الخارجية والإعلام والمخابرات العامة، وغادر القاهرة ليتولي مهمة مدير مكتب العقيد معمر القذافي، قبل وفاته في حادث سير في ليبيا، ومنهم رشيد الحمد سفير الكويت السابق في القاهرة، الذي جاءها بعد توليه لوزارة التربية والتعليم في الكويت، ومنهم محمد نخيرة الظاهري السفير السابق للإمارات، وكان وزيرًا للعدل في بلده، وفي التسعينيات الدكتور مصطفي شريف وكان وزيرا للتعليم العالي في الجزائر، كما ان سفراء تونس قبل ثورة الياسمين كانوا يعودون من القاهرة، ليعينوا وزراء شئون خارجية.
قائمة من عرفتهم من الدبلوماسيين العرب تطول، ومنهم من دخل الدبلوماسية من باب الفكر والثقافة والإعلام، فقد عمل بالصحافة سفير المغرب محمد سعد العلمي والذي غادرنا منذ ايام، وكذلك عزيز ديحاني وكان صحفيا في جريدة الأنباء الكويتية، وتم تعيينه مندوبا لبلده في الجامعة العربية، ونجاحه ساهم في عودته السريعة إلي الكويت وكيلا لوزارة الخارجية، كما كان الدكتور خالد زيادة سفير لبنان في القاهرة احد رموز الثقافة العربية، وكذلك الدكتور مصطفي شريف سفير الجزائر الاسبق في القاهرة، وهو احد المتخصصين في الحوار مع الغرب، والآخر، اما ابرز الدبلوماسيين الشعراء فقد كان عيسي درويش سفير سوريا الاسبق في القاهرة، اما الاستثناء الوحيد لقاعدة تعيين دبلوماسيين عرب في القاهرة، فكان من نصيب السفيرة سلمي راشد سفيرة ليبيا في القاهرة، ومندوبها الدائم في الجامعة، الذي لقت كل تعاون من زملائها ومن الإعلاميين، وبعد ثورة فبراير في ليبيا تم تعيينها مندوبة لبلادها في الجامعة، ورفض عمرو موسي امين عام الجامعة العربية استلام أوراق اعتمادها، بعد تجميد عضوية ليبيا في الجامعة العربية.
ديلوج بدلا من المونولوج
«رياض النيل « من اهم الندوات الثقافية في مصر في الآونة الاخيرة، وصاحب الفضل في إقامتها واستضافتها في منزله بصورة شهرية، السفير الصديق احمد قطان سفير السعودية في القاهرة، وهو احد ابرز الدبلوماسيين العرب والسعوديين الذين عملوا في القاهرة، ساعده في ذلك تعامله مع مصر علي انها بلده الثاني، خاصة انه قضي بها فترات مهمة من شبابه، في سنوات التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي، وخدم في سفارة بلاده في واشنطن، في اهم فترات العلاقات بين أمريكا والسعودية، ومنها إلي القاهرة مندوبا لبلاده في الجامعة العربية، ومنذ عام ٢٠١١ جمع بين السفارة والمندوبية، وحافظ علي اعلي مستوي من العلاقات بين البلدين، في كل المراحل الصعبة والعاصفة، التي مرت بها خلال السنوات الخمس الماضية.
«رياض النيل « آخر إسهاماته الثقافية، حيث يلتقي رموز النخبة المصرية لمناقشة قضية من القضايا الفكرية والثقافية، او تكريم احد المثقفين، كما حدث مع الشاعر فاروق جويدة. ضيف الصالون الاخير كان الدكتور مصطفي الفقي، والقضية هي العلاقات المصرية السعودية رؤية للمستقبل، والدكتور الفقي احد المثقفين الموسوعيين، الذين لا تمل من حديثهم، يملك أدواته تمامًا، وفي عرضه للعلاقات تحدث عن التاريخ خاصة الصدامين الشهيرين في تاريخ البلدين، في عهد محمد علي، وقال ان الامر كان خاضعا لتنفيذ رغبات وأوامر الباب العالي في تركيا، ومصر كانت جزءًا من الامبراطورية العثمانية. والثاني في اليمن ودفع عبد الناصر اليه حزب البعث بشقيه في سوريا والعراق، ورغم ان مثل هذا الكلام يؤخذ منه ويرد عليه، الا انه تناول ضرورة ان يكون هناك دور للسعودية، في الضغط علي اثيوبيا لمراعاة المصالح المصرية في سد النهضة، وإنهاء مرحلة التنافس وبدء مرحلة من التكامل بين المؤسسة الدينية في مصر، ويجسدها الازهر، ومثيلتها في السعودية.
ما لم أقله في الندوة مع كثرة التعقيبات، ان العلاقات بين مصر والسعودية محكومة بوصية الملك المؤسس عبد العزيز لأبنائه، بالحفاظ علي علاقات متينة مع مصر، وقد التزموا بتنفيذ الوصية خير التزام، فماذا عن جيل الأحفاد، وأصبح هو الأساس في السلطة في السعودية، من خلال ولي العهد الامير محمد بن نايف، وولي ولي العهد الامير محمد بن سلمان، وقد يكون هذا الجيل لم يتعرف علي مصر بنفس صورة الآباء، وان كان يدرك مصالح المملكة في الحفاظ علي العلاقات الاستراتيجية مع مصر. كما لدي اقتراح للسفير احمد قطان، ماذا لو تحول رياض النيل من «مونولوج» يمثل حوارًا بين النخب المصرية في وجوده» إلي «ديلوج «بمشاركة مثقفين ونخب سعودية؟ ماذا لو اجتمع هؤلاء لمناقشة قضية مثل الرؤية المستقبلية للعلاقات بين البلدين، والتعاون بين القاهرة والرياض لملء الفراغ الاستراتيجي، الناتج عن انسحاب أمريكا من منطقة الشرق الأوسط، بعد ان فقدت الاهتمام به، او بحثت عن مصالحها في جنوب شرق آسيا كبديل، اعتقد ان مثل تلك المشاركة ستمثل رؤي وآراء مهمة يمكن ان تفيد صناع القرار في البلدين.