«من غير المعقول أن نتصور مؤامرة وراء كل حدث أو واقعة.. ولكن هناك ما يؤكد أن ما يحدث ليس مصادفة»
لابد أن أعترف بأن لديَّ ميلاً شخصياً للتعاطف مع الجهود المبذولة من البعض لإقناع البعض الآخر، بعبثية الأخذ بالتفسير التآمري للأحداث السيئة والوقائع السلبية التي تهبط علينا وتمسك بخناقنا فجأة ودون سابق إنذار أو تحسب، سواء تلك التي تحدث في المنطقة العربية بصفة عامة، أو التي نتعرض لها في مصر بصفة خاصة.
وفي إطار المصارحة الكاملة يصبح من الواجب واللازم أن أمد مساحة الاعتراف، إلي القول بمحاولتي المستمرة للقبول بالمنطق القائل، بأنه ليس معقولاً أن نتصور وراء كل مشكلة نتعرض لها، وخلف كل مصيبة تحط علينا، متآمراً يخطط ويرتب لهذه المشكلة ويُعد لتلك المصيبة،..، كما أنه ليس من المعقول أيضا افتراض أو تصور وضع القوي العظمي في العالم موضع الاتهام بالتسبب في كل ما نتعرض له من مشاكل، وما يلم بنا من مصائب في عالمنا العربي ومصر بالذات.
ولكن،..، عليَّ أن أعترف أيضاً، بأنه رغم هذا الميل وبالرغم من هذه المحاولات، إلا أن القراءة الموضوعية للأحداث والوقائع الجارية علي الأرض في نطاقنا الإقليمي بصفة عامة، وعالمنا العربي علي وجه الخصوص، ومصر بالذات، لا تساعد علي الإطلاق في استبعاد الأخذ بالمنطق القائل بوجود مؤامرة وراء ما جري ويجري في هذه المنطقة المهمة من العالم،...، بل علي العكس من ذلك تماماً، هناك من المؤشرات والدلائل ما يؤكد ويُثبت وجود تخطيط مسبق وترتيب مُعد وراء كل المصائب والكوارث التي وقعت ومازالت تقع في المنطقة العربية ومصر أيضا.
معارك.. وقتال
وإذا ما ألقينا نظرة فاحصة علي ما يجري في عالمنا العربي من أحداث، وما يموج به من تطورات هذه الأيام ومنذ فترة ليست بالقصيرة، لوجدنا الصورة في مجملها لا تبعث علي التفاؤل، في ظل ما يكتنفها من غيامات وظلال وما ينتشر فيها من معارك واقتتال وتناحر وصراعات وصدامات مسلحة ودموية.
والمدقق بالنظر يجد أن العراق قد سقط في براثن التفكك الفعلي كدولة متماسكة وقوية، وأصبح علي شفا التقسيم إلي كيانات ثلاثة علي أسس طائفية وتنوعات عقائدية، قامت وترعرعت واشتعلت برعاية أمريكية منذ اللحظات الأولي للغزو والاحتلال الأمريكي لها، الذي كان بمثابة رأس الحربة وإشارة البدء في تخريب المنطقة كلها وليس العراق فقط، وذلك بتفكيك دولها وإشاعة الفوضي بها في إطار خطة منظمة وتخطيط مدروس ومستهدف.
أما سوريا وما يجري فيها من قتل وتدمير وإرهاب، فقد أصبحت مثالاً حياً للمأساة الإنسانية والدولية الكاملة، ودليلاً قائماً علي غيبة الحكمة وغياب الوعي بالمصلحة القومية والوطنية لدي جميع الفرقاء المتصارعين، بل ومثالاً حياً علي السقوط في شبكة ومنزلق التآمر الدولي علي الدول العربية، والذي استخدمت فيه وتورطت به أطراف وقوي عربية أيضا للأسف.
ليست مصادفة
وإذا ما انتقلنا بالنظر إلي بقية الخريطة العربية، سواء في اليمن أو ليبيا أو السودان أو لبنان، ومن قبلها الصومال، لوجدنا الأمر خليطاً من الاقتتال الداخلي والحروب الأهلية والصراعات المشتعلة، وكلها لا تبعث علي الأمل ولا تبشر بالخير، وخاصة في ليبيا التي أصبحت مرتعاً خصباً للإرهاب يهدد كل الدول المجاورة لها،...، ومصر في المقدمة.
وفي ذلك نري للأسف أن كل الشواهد والوقائع علي الأرض تدفعنا للقول بأنه من الخطأ الجسيم الظن بأن المصادفة هي السبب وراء ما نراه،...، بل علي العكس من ذلك تماماً، فإن هذه الشواهد وتلك الدلائل تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، بأن هذه النيران المشتعلة والحروب المستعرة والدماء النازفة علي الأرض العربية، وكل ما يجري ويدور عليها من نزاعات وخلافات وصلت إلي التقاتل بين أبناء الوطن الواحد، لم تحدث بمجرد الصدفة،...، بل وقعت بفعل مقصود وتخطيط مسبق وإعداد وترتيب قوي دولية وبمشاركة وتورط أطراف وأيد عربية وإقليمية أيضاً للأسف،..، وأن هذا المخطط بدأ التخطيط له وإعداده قبل الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق.
الصورة في مصر
وإذا كان واقع الحال علي الأرض العربية يشير في جملته وتفاصيله بإشارات قوية، إلي غياب الصدفة فيما جري ويجري لعالمنا العربي من مصائب وكوارث خلال السنوات القليلة الماضية، التي أدت إلي ما نراه الآن من انهيار لدول كانت قوية ومتماسكة، وسقوط لأخري كانت قائمة وصلبة،...، فإن الصورة أكثر وضوحاً وجلاء فيما تعرضت له مصر من أحداث ووقائع خلال السنوات الخمس الماضية، كادت أن تطيح بها وتحولها إلي بقايا دولة فاشلة، لولا عناية الله ورعايته، ويقظة الشعب وانتباهته، وصلابة الجيش وقوته، وإصراره علي الولاء للشعب وإنفاذ إرادته.
والمتابع فيما جرت به المقادير علي مصر طوال هذه السنوات، والمتأمل لما حدث، والمدقق في التحديات التي واجهتها ولازالت تواجهها، لابد أن يستوقفه بالقطع ذلك الكم الهائل والضخم من المشاكل والمصاعب والأزمات، التي توالت علي مصر وفرضت نفسها عليها خلال تلك الفترة الوجيزة والقليلة في عمر الزمن، وكلها تتطلب المواجهة الحاسمة وتستوجب أقصي درجات الحكمة وضبط النفس، حماية للدولة تماسكها وحفاظاً علي أمنها وسلامة مواطنيها ووحدة شعبها.
ما جري.. وما كان
وأي محاولة أمينة وجادة للرصد والتسجيل لما جري وكان في هذه السنوات، لابد أن تبدأ بالإشارة إلي حالة الفوضي والقلق والاضطراب، وغياب الأمن وغيبة الأمان والاستقرار، التي سادت البلاد طولاً وعرضاً خلال عامي ٢٠١١ و ٢٠١٢ والتي سلمت حكم وأمور البلاد ورقاب العباد إلي جماعة الإفك والضلال، وما تلا ذلك من محاولات متسارعة لمسخ وطمس الهوية المصرية، وإسقاط وتفكيك كل المقومات والركائز والأعمدة الرئيسية للدولة، وإحلال مفاهيم ونظم وكوادر وخلايا الجماعة محلها،...، وما رافق ذلك وتوازي معه خطوة بخطوة من استجلاب جميع شراذم وفصائل التطرف والإرهاب في العالم كله لزرعهم ولتوطينهم في مصر وفي سيناء بالذات، بالاتفاق والتآمر مع القوي العظمي، وتنفيذا لمخططها الساعي لإعادة رسم خريطة المنطقة في إطار الشرق الأوسط الجديد، والمتضمن لفصل سيناء عن مصر ودمجها مع قطاع غزة تحت إمرة حماس، لإقامة إمارة إسلامية متطرفة بها، تكون بمثابة النهاية للقضية الفلسطينية، وتنتهي بذلك مشاكل إسرائيل علي حساب مصر،...، وكاد أن ينجح هذا المخطط وذلك التآمر، وكاد أن يصبح حقيقة واقعة، تحت رعاية القوة الأعظم ومباركة أطراف وأجهزة مخابرات أوروبية وإقليمية أخري ومشاركة أطراف عربية أيضا للأسف الشديد، لولا عناية الله كما قلنا ولولا هبة الشعب ورفضه القاطع، وإصراره علي التخلص من الجماعة وحكمها الذي كاد أن يورد البلاد موارد التهلكة، ولولا انصياع الجيش لإرادة الشعب ووقوفه بجانبه في ثورة الثلاثين من يونيو، التي خلصت البلاد من حكم المرشد وجماعته وأنقذت الدولة والشعب.
الثلاثون من يونيو
وفي إطار الرصد والتسجيل، لابد أن يستلفت الانتباه بقوة ذلك الموقف الرافض، بل والمعادي أيضا من القوي الدولية وتابعها الإقليمي وذيلها العربي لثورة الثلاثين من يونيو، ومحاولاتهم المستمرة لإثارة العراقيل أمامها والإساءة لصورتها في العالم، وأيضا محاولاتهم المكشوفة لحصارها وفرض عزلة دولية وإقليمية عليها، وإصرارهم علي الادعاء الكاذب بعدم شرعيتها، رغم علمهم المؤكد بأنها قامت وهَبَّت بإرادة شعبية كاملة ورغبة جمعية من المصريين للخلاص من حكم المرشد وجماعته، وأن الجيش انحاز لإرادة الشعب.
كما لابد أن يشد الانتباه أيضا حالة الجنون التي أصابت جماعة الإفك والضلال، والحرب الإرهابية التي شنتها علي مصر وشعبها بعد الثلاثين من يونيو، بدعم ومؤازرة ومساندة قوي الشر التي فاجأها وصدمها فشل ما كانت تخطط له، وتوقف مشروعها الاستراتيجي في المنطقة، بعد أن أوشك علي التحقق بقيام الشرق الأوسط الجديد، فإذا بثورة الثلاثين من يونيو تطيح به ولو إلي حين.
إعادة النظر
كل ذلك.. وما تلاه لا يشجع علي الاستمرار في التعاطف مع المنطق القائل بعبثية الأخذ بالتفسير التآمري للأحداث والوقائع، التي تعرض ولايزال يتعرض لها عالمنا العربي، وكذلك مصر،...، بل لعله يدفعني دفعاً لإعادة النظر في ميلي الشخصي الرافض للأخذ بهذا المنطق، في تفسير الأسباب وراء المصائب والكوارث التي تعرضنا ومازلنا نتعرض لها علي المستوي العام في المنطقة العربية، أو علي المستوي الخاص في مصر بالذات.
ولكنني بالرغم من ذلك حاولت جاهدا مقاومة الانسياق وراء نوازع الميل الشخصي، والنظر بأكبر قدر من الموضوعية والتجرد للوقائع والأحداث، والبحث والتدقيق فيما تشير إليه وتدل عليه، دون حكم مسبق ودون توجه هنا أو ميل هناك.
وفي هذا الإطار يلفت الانتباه بقوة ذلك الكم الهائل من المشاكل الساخنة والأزمات الملتهبة التي توالت علي مصر خلال الفترة القليلة الماضية، وبالذات ما بعد الثلاثين من يونيو، بعد تمكن الشعب من إنفاذ إرادته والخلاص من حكم المرشد وجماعته، التي كادت أن تسقط البلاد وتوردها موارد التهلكة.
وإذا ما أردنا رصدا إجماليا ونسبياً لبعض ما جري خلال تلك الفترة، لوجدنا سعياً مستمرا لنشر العنف والفوضي وإشاعة القلق والإحباط بطول البلاد وعرضها، ولرأينا ورصدنا معركة ضارية مع جماعة الإفك وعصابات الإرهاب الهادفة لتحطيم الدولة ودمارها وإسقاطها،...، ولرصدنا في ذات الوقت إصرارا قويا من جانب الشعب والجيش، لبناء الدولة واستكمال مؤسساتها والخروج بها من أزمتها الاقتصادية الخانقة، وصولا إلي الدولة الديمقراطية الحديثة القائمة علي المواطنة وسيادة القانون والعدالة الاجتماعية.
التربص المتعمد
وفي هذا الرصد لابد أن نسجل ما بات واضحاً من وجود حالة من التربص المتعمد والدائم، من جانب مجموعات بعينها تقوم باصطياد المشاكل وتضخيمها والنفخ فيها، سعياً لتحويلها إلي أزمات حادة وقضايا متفجرة يختلف حولها الناس، وينقسم بشأنها المجتمع، بهدف إشاعة القلق العام وهز الاستقرار المجتمعي، ونشر الإحباط واليأس بين الناس، مستغلين في ذلك أي خطأ في الأداء أو سوء في المعالجة من جانب بعض المسئولين أو بعض الإدارات أو المؤسسات.
كان ذلك الترصد بارزاً في قضية ترسيم الحدود البحرية لمصر في البحر الأحمر، والضجة الكبيرة التي ثارت حولها وأدت إلي تحولها بفعل فاعل إلي موضوع خلاف ومحل لتبادل الاتهامات، بدلا من الخضوع للنقاش الهادئ والبحث المتأني والمتعمق في الوثائق والخرائط والأسانيد القانونية والتاريخية والجغرافية.
ومن قبلها كانت ولا تزال قضية مقتل الشاب الإيطالي «ريجيني» مثالاً حياً علي التربص المتعمد، من جانب مجموعات وجهات بعينها تسعي بكل الطرق وجميع الوسائل للإساءة إلي مصر داخلياً وخارجياً، ووضعها موضع الاتهام دون سند ودون مبرر علي الإطلاق، والعمل علي عزلها وإضعاف علاقاتها الدولية وتشويه صورتها أمام العالم.
إيطاليا.. وروسيا
وكان التربص والتعمد لافتاً وواضحاً ومؤكدا في واقعة مقتل الشاب الإيطالي، نظرا للملابسات المتصلة بالواقعة وما جري فيها من العثور المفاجئ علي جثته، في ذات اليوم الذي يتواجد فيه أكبر وأضخم وفد اقتصادي إيطالي في مصر، وفي ذات الوقت المحدد لبحث مجموعة مشروعات واستثمارات تقوم بها الشركات والمؤسسات المالية الإيطالية في مصر،...، وقد أدي الظهور المفاجئ للجثة وما بها من آثار واضحة للتعذيب من ردود فعل سيئة بل بالغة السوء وصلت إلي حد المغادرة السريعة للوفد الإيطالي دون أن يتم بحث أي مشروع من المشروعات التي جاء بشأنها.
وأحسب أن الملابسات كلها تشير بوضوح إلي أن هناك من رتب وخطط لإحداث وقيعة بين مصر وإيطاليا،...، وقد نجح في ذلك ولو مؤقتا.
وبقدر وضوح التربص في هذه الحادثة البشعة، فقد كان ولا يزال التربص بمصر واضحاً ومؤكدا في حادثة الطائرة الروسية المنكوبة التي أُسقطت بفعل عمل إرهابي بعد مغادرتها مطار شرم الشيخ بعدة دقائق، وراح ضحيتها أكثر من «٢٠٠» مواطن روسي،...، وهو ما أدي إلي وقف تدفق السياحة الروسية بالكامل إلي مصر،...، وليس هذا فقط بل أدي أيضا إلي توجيه ضربة قاسية للسياحة في مصر وهو ما كان له أثر سييء علي تدفق العملة الصعبة للبلاد وعلي الاقتصاد بصفة عامة.
وفي هذه الحادثة المؤسفة والحزينة التي سبقت واقعة الشاب الإيطالي «ريجيني» الحزينة والمؤسفة أيضا، كان التربص واضحاً والاستهداف مؤكدا في ضرب الاقتصاد المصري والإساءة إلي علاقات مصر الوطيدة والصديقة مع روسيا.. وبعدها إيطاليا.
الغد أفضل
فإذا ما انتقلنا بعد ذلك إلي الحادثة المؤلمة الأخيرة التي راحت ضحيتها طائرة مصر للطيران القادمة من باريس، وسقوطها المفاجئ في عمق البحر المتوسط علي مبعدة ١٩٠ كيلو مترا شمال الإسكندرية، وبعد دقائق من مغادرتها المجال الجوي اليوناني، وما أحاط بها من ملابسات، وما صاحبها من آلام عميقة وحزن وأسي كبيرين في نفوسنا جميعا، ومن قبلنا الأهل والأقارب والأصدقاء للضحايا المصريين والفرنسيين والعرب وغيرهم، الذين فقدناهم في الحادث المؤلم،...، لوجدنا أننا أمام كم كبير من الوقائع المؤلمة والمتتالية يصعب علي أي شخص أن ينظر إليها من منطلق الصدفة،...، كما يصعب عليه أيضا الاستمرار في الإصرار علي استبعاد شبهة المؤامرة وراء ما تعرض ويتعرض له عالمنا العربي بصفة عامة.. ومصر بصفة خاصة من وقائع سلبية وأحداث كارثية،...، ولكن دعونا نأمل خيراً وننظر إلي الغد الأفضل بإذن الله بثقة وتفاؤل،...، وأن نسعي بكل الجدية ونعمل بكل الإخلاص لتحقيق طموحاتنا المشروعة في الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة والقوية.