« اكتفت من الدنيا بما يستر، وقنعت بلقمة ناشفة بجبنة قديمة تقاسمتها مع فلاح طيب تحت الجميزة، والسواقي بتنعي علي ناي حزين »
«ابنتي العزيزة. اتقي الله في كل كبيرة وصغيرة. لا تفعلي سراً ما تخشينه علنا ودافعي عن رأيك حتي الموت»، هذا ما كتبه قائم مقام عبد الحميد مقلد إلي ابنته شاهندة، وكانت لاتزال صغيرة، فلما شبت عن الطوق نفذت الوصية بحذافيرها، لم تنم علي ظلم، ولم تمار في حق، ولم تخش في حق الغلابة لومة لائم.
أم الفلاحين شاهندة مقلد مريضة قوي، صلوات ودعوات، جسدها المتعب هده المرض، الرحلة طالت بها وهي تحمل علي ظهرها وصية الوالد، لم ترتح يوماً، ولم تستكن، حتي قبل أيام من دخولها الغرفة البيضاء، حدثتني من قرية ( العراقية / منوفية ) كانت تحضّر لقافلة طبية لتحاصر آلام الفقراء والمعذبين.
أتاني صوتها متعباً، مالك يا أمي، والله تعبانة قوي ياحمدي، ألف سلامة، عندك ايه؟.. وترد بإيمان :عندي مثل ما عند الغلابة، هو فيه حد في مصر سليم، الغلبان مريض، أعمل أي حاجة تؤمري، ربنا يكرمك، الرئاسة قامت بالواجب، وسأدخل « المركز الطبي العالمي « بعد ما اخلص القافلة الطبية، طيب وصحتك، متخافش، المهم صحة الفلاحين، دول غلابة قوي يا حمدي، ايدك معايا، ومددت يدي لكنها لم تكن هناك، ثقل عليها المرض، علي جهاز التنفس الصناعي، والله هو الشافي المعافي.
وصية الأب الوطني القائم مقام عبد الحميد مقلد ظلت قابعة في قلب شاهندة، وما جري في « كمشيش» معلم في جسدها، وكتب « أبلة وداد متري « بمدرسة شبين الكوم شكلت وعيها، وفقد الزوج «صلاح حسين» باكراً في معركة تصفية الإقطاع في « كمشيش» جعل منها رمزية حية للنضال الوطني.
شاهندة « أم الفلاحين « حالة مصرية خالصة، سيدة من ريف الدلتا، وهبت حياتها لأجل القضية، قضية أصحاب « الجلاليب الزرق «، وفي هذا فليحكِ ويتحاكَ المناضلون، لم تلون أظافرها يوماً، ولم ترتد الحرير ناعمة، ولم تتزين ليوم العرس، كان عرساً نضالياً، ولم تهنأ بابنها طويلا ؛اعتقل كثيراً، وطوردت، وحوصرت وكتيبة الفلاحين، وهدم نصب زوجها التذكاري، لكنه كان قائما في قلبها ولايزال.
وتحفها في غرفتها البيضاء ملائكة الرحمة، ودعوات الفلاحين علي البعد تلهج من شقوق الأرض التي شققت كعابها وهي بين الفلاحين تقف في قلب الغيط مدافعة عن حقهم في الحياة، أبدا وحتي النفس الأخير، لم تتحول عنهم، ولم تتبدل أبداً، ولم يبرق في عينيها ذهب السلطة، ولو طلبته لكان لها، اكتفت من الدنيا بما يستر، الستر عنوانها، وقنعت بلقمة ناشفة بجبنة قديمة تقاسمتها مع فلاح طيب تحت الجميزة، والسواقي بتنعي علي ناي حزين.
بنت كمشيش البلد والملحمة والنضال مجسد في جسد رقيق، ولدت مفطورة علي النضال، مولودة في اليسار، والقلب في اليسار، قلبها ينبض بحب الفلاحين والعمال، وجبينها يتعرق وهي تستحث الخطي بين أعواد الذرة، تلفحها شمس الهجير علي حواف الغيطان المتربة، خطي مشيناها ومن كتب عليه خطي مشاها، تسعي في الخير.
من أين لهذه السيدة الطيبة بكل هذا العزم والقوة، خارت قواها، وهن العظم منها واشتعل الرأس شيبا، قومي من رقدتك يا أمنا، اسمع في الجوار فلاحاً طيباً يدعو لك في صلاة الفجر، شاهندة التي ترقد في رعاية من لا يغفل ولا ينام، سبحانه الشافي المعافي، تتحلق من حول سريرها دعوات طيبة، وتروي من حول رأسها ذكريات طيبة، لست أنا الراوي.. كمشيش حزينة تروي، ومصر حزينة تحكي وتتباكي، شاهندة مريضة.. دعوات وصلوات.