فاطميات

«إيه الدنيا» في «يونس ولد فضة»؟!

د.فاطمة قنديل

السبت، 09 يوليه 2016 - 04:17 م

 

إيه الدنيا؟! هو سؤال «إبراهيم» الصغير، بعد أن رحل عنه أبوه ذات فجر، تاركا في رقبته أختين، كان مدي السؤال، وقتها، كلعبة صغيرة لطفل لم يعرف اللُّعب، «يفاصل» به من يحصدون عرقه ليحصل علي ما يسد رمقه وأختيه. بعد أن يحاول «فضالي» ابن كبير البلد اغتصاب أخته، ويهم بقتله فيخطئه ويقتل أباه، بدلا منه، ويهرب، ليصير، مرغما، «يونس ولد فضة» سيظل يسأل السؤال نفسه، الذي يرافقه «كلازمة» في حديثه؛ ضاحكا، أو غاضبا، عاشقا، أو ساخرا، أو محاصرا بالحب والكراهية معا. «إيه الدنيا»؟! سؤال الدراما كلها، سيظل بلا إجابة، حتي نهايتها، حين يعثر «البطل»، بعد أن تعلم درس الوجود، علي إجابته: كيف يطفئ النار التي يتلظي بها بين هويتين: «إبراهيم» المفقود، و»يونس» النبتة الغريبة في أرض ليست له، وأهل ليسوا أهله، كيف ينجو كما نجا «إبراهيم» النبي من النار، وكما نجا «يونس» النبي من بطن الحوت؟ بعد أن ظلم نفسه، فقتل، وتاجر في الآثار والممنوعات، واغتصب حقوق الآخرين؟! سؤال الدراما، وسؤال الوجود معا، سيجيب عليه الشيخ «المدبوب» عاشق المومياء، عاشق الرميم الذي، بقي، وسيبقي، وعاشق الأبدية، يمنحه مفتاح الوجود، كما يمنحنا الفراعنة «مفتاح الحياة»: «الاستغناء»، أو كما يقول له: «من تركَ مَلَك»، أو كما يقول الكاتب الفرنسي الشهير «رولان بارت»: «إنك لن تنقذ من أحببت إلا بالتخلي عنه»! ترك الهوية الزائفة هو الثمن الوحيد لاسترداد الهوية المفقودة، لاسترداد «إبراهيم» القديم، لابد من ترك عالم «يونس ولد فضة»، من الاستغناء عن حياة بأكملها، لم تجب عن سؤاله: «إيه الدنيا»؟ رغم كل ما منحته له، من مال وسلطة وقوة، لكن الصراع يظل قائما بين الهوية المفقودة، والهوية الزائفة، بين الحب والكراهية، يظلان معا، متجاورين، دون حل، عبر الدراما كلها، ونحن نشاهد فيها «تغريبتنا» نحن (كما أشرت في مقالي السابق) ما بين أرضنا القديمة بتراثها وحكاياتها وتقاليدها، وأرض التكنولوجيا المزروعة فيها مجتمعاتنا كنبتة في أرض غريبة، لم نجهد أنفسنا في زراعتها! يُجسّد «يونس» في هذه «التغريبة»، صورة «البطل الشعبي»، لذا أحببناه، البطل الشعبي الآتي من تراث المنشدين علي الربابة، الكامن في وجدان الأمة، بمعناه العميق الموشك علي الاندثار، أمام طوفان من الأبطال المصنوعين خارج تراثهم في الدراما العربية، الأبطال الزائفين، الذين هم محض انعكاس مرآة، فقط، للّحظة المحتشدة بالعنف والدماء والأشلاء، التي نعيشها، والقفز علي سلالم الثراء، والقوة المدفوعة بالحس الانتقامي، البطل الشعبي «الزائف» في الدراما والأفلام العربية، لا يشبه يونس، لا لشئ، إلا لأن البطل الشعبي «الحقيقي» يمسك باللحظتين، معا: لحظة الحاضر، وتراث الحكي الشعبي، هو ابن زيف مجتمعه، تماما كيونس، يستخدم الإنترنت، يتحدث بإنجليزية ركيكة، يخفي الآثار المسروقة خلف الأبواب الإليكترونية، يستخدم الأقوال المأثورة، متحذلقًا، ليبدو متعلما، ليخفي جهله خلف معرفة الآخرين، وما نسميه بلغة العصر «الفَتي»، أي اصطناع العلم بكل شئ، بطل «الفهلوة» في زمن بلا بطولات سواها! يرتدي الجلباب والبدلة الأنيقة، ينتمي لتقاليده، ويغلفها بمدنية مصطنعة، لكنه في الوقت نفسه يقبض علي إرث آخر لا تفلته الدراما من يدها طوال الحلقات، إرثنا جميعا، محافظا ومستلهما تقاليد الحكي الشفاهي التي تناقلناها جيلا بعد جيل، فالبطل الشعبي، في السير الشعبية، قد يسمي باسم غير اسمه الحقيقي، منتسبا لغير أبيه، كيونس «ولد فضة»، يعاني من الصراع بينه وبين مجتمعه منذ طفولته، يعيش وجودا زائفا يبحث من خلاله عن وجوده الحقيقي، عن إيقاف الغربة والعودة للأهل والوطن، أي للتناغم مع الجماعة (أحمد شمس الحجاجي، مولد البطل في السيرة الشعبية)، و»الاغتراب» بعيدا عن الأهل أحد شروط وجود «البطل الشعبي» في تراثنا، لتصقله الحياة بعيدا عنهم، ولتدفعه الغربة لتحقيق بطولاته، ليعود مرة أخري إليهم، بعد أن عبر جسر الصراع الطويل، بعذاباته، وأفراحه، ليعرف إجابة سؤاله، وسؤالنا الوجودي: «إيه الدنيا»؟!
(وللحديث»حكاية» أخيرة...)

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة