نيللي كريم في لقطة من فيلم «اشتباك»
نيللي كريم في لقطة من فيلم «اشتباك»


«اشتباك» ينتصر للفن وينحاز للوطن والإنسانية

هويدا أحمد

الأحد، 31 يوليه 2016 - 05:54 م

لم تعجبنى الدعاية التى اختارها صناع فيلم «اشتباك»، توجست من الأسلوب الاستفزازى الذى يسبق فيلم انقسم الناس حوله، وقد قدم للفريق المعادى للفيلم مسبقا ودون مشاهدة فرصة ذهبية للهجوم عليه.. لكن استفزنى أكثر حالة الانقسام الغريبة، والاندفاع المرضى للانقضاض على الفيلم وصناعه كما لو كانوا أعداء وليسوا مبدعين تتفق أو تختلف مع رؤيتهم.. وفجأة تحولت مواقع التواصل الاجتماعى لساحة معركة واشتباك بين فريقين، المؤيد للفيلم والمعادى له ! المدهش أننى عشت نفس الحالة فى دار العرض الذى شاهدت فيه الفيلم بأحد المولات، معركة كلامية بين الجمهور حول الفيلم فى الاستراحة القصيرة ترقى لمستوى «الردح والبلطجة» ، حالة من العداء بين الحضور المستنفر بشدة لاتهام الآخر وتخوينه !
ما يحدث الآن حول فيلم» اشتباك « لمحمد دياب هو ما يحدث داخله، حالة من الشحن النفسى أدت إلى انقسام المجتمع المصرى لفصائل متعددة، لا تتحمل الاختلاف ولا تقبل الآخر، فصائل سيطر عليها الكراهية والغل وتصور النجاة فى الخلاص من الآخر، غافلين أنهم فى مركب واحد أو « سيارة ترحيلات واحدة » كما اختار خالد ومحمد دياب مؤلفا الفيلم.
يبدأ الفيلم الذى تدور أحداثه بعد تسليم السلطة فى يوليو ٢٠١٣، الشرطة تعتقل صحفيا مصريا أمريكيا ومصورا صحفيا، تحتجزهما بسيارة ترحيلات فيشتبك معهما مجموعة من مؤيدى الجيش يلقون عليهم الحجارة، فتقوم الشرطة بالقبض عليهم أيضا وحجزهم بنفس السيارة، يهاجمونهما بعنف شديد ويتهمونهما بالخيانة والعمالة؛ تتسارع الأحداث وتشتعل داخل وخارج السيارة بعدما ينضم إلى المعتقلين بها مجموعة من الإخوان، وهكذا تضم سيارة الترحيلات المصفحة فصائل ونماذج مختلفة من الشعب المصرى.. صحفى، ممرضة، شيخ عجوز، صبى ثورى، الفتاة المحجبة المتعصبة للاخوان دون وعى، الصايع، والبلطجى، سايس السيارات، الأهلاوى والزملكاوى، المسلم والمسيحى، الغنى والفقير، كل الأطياف كانت بالسيارة المشحونة بالغضب والعصبية والكراهية؛ بضعة أمتار ضمت أكثر من عشرين مواطنا لا يطيقون بعضهم فى حالة عداء وتطاحن واشتباك مستمر، مفتقدين حريتهم وآدميتهم فى هذا المكان الضيق كالسجن، لا يَرَوْن العالم الخارجى إلا من خلال نوافذ السيارة الضيقة خلف القضبان.
خلال الاحداث المتسارعة رغم محدودية المكان والزمان نتعرف على كل من بالسيارة، وقد نجح السيناريو فى رسم ملامح كل منهم بشكل إنسانى رائع، حتى أنك تتعاطف مع كل منهم رغم الاختلاف.. تذوب المسافات مع مواجهة النار والرصاص فى خندق واحد، وخلال الزمن المتسارع يبدأ كل منهم فى إدراك حقيقة غابت عنه فى البداية، أنهم يواجهون مصيرًا واحدا، مصيرًا كارثيا يفرضه صراع هيستيرى محموم خارج السيارة.
أن تخرج فيلما تدور أحداثه فى مكان واحد محدود كسيارة ترحيلات تضم أكثر من عشرين فردا هو التحدى بعينه، وقد نجح محمد دياب مع ذلك فى الاحتفاظ بإيقاع سريع دون ملل أو ارتباك، كما نجح ببراعة فى الاهتمام بتفاصيل كل شخصية داخل وخارج السيارة، وكان أداء الممثلين جميعهم طبيعيا رائعا، وكأن الخيط الفاصل بين التمثيل والحقيقة قد تلاشى تماما، تصدقهم بسرعة وتصدق الفيلم وتشعر أنك مسجون معهم فى السيارة الضيقة، تعانى نار صيف يوليو، وتلهث من العطش، تتألم لجراحهم، تشاركهم الهلع والخوف، واللوعة على من رحل تاركا السيارة « السجن « أو السيارات الأخرى، وتتطلع معهم إلى الحرية والهواء ولو لثوان عندما ينفتح الباب لتشاهد المجاميع خارج السيارة والتى حركها المخرج ببراعة؛ ورغم مأساوية الحدث ضحكنا معهم، وقد حرص المخرج على إضفاء أجواء انسانية رائعة، لم يعد معها ممكنا أن تميز فى أى صف تقف أو إلى أى جانب تنحاز، فالكل مهما كان، يواجه نفس المصير، يدفع الثمن من روحه ودمه، ينزف ألما ودما، وهو يرى ابنه أو أبيه وهو يموت.
الكل عزف مع المخرج سيمفونية متكاملة، فكان التصوير لأحمد جبر رائعا داخل وخارج السيارة، والمونتير أحمد حافظ تفوق على نفسه فحافظ على تناغم الايقاع فى مكان محدود ضيق بقطعاته المحسوبة باحساس عال ، وعلى عكس ما تعودنا عليه مع الافلام المصرية كان الصوت مختلفا، فتعامل أحمد عدنان بإحساس عال جدا تناغم مع تنقلات الدراما ما بين صعود وهبوط، وكانت موسيقى خالد داغر رائعة كالعادة، وتفوقت ريم العدل بشدة فى اختيارها للملابس والاكسسوار لكل شخصية فبدت طبيعية بشكل مذهل، كل التفاصيل مدروسة محسوبة بدقة أضفت مصداقية شديدة على أبطال الفيلم الرائعين ومنهم نيللى كريم وطارق عبد العزيز وهانى عادل والفتاة مى الغيطى والصبى أحمد داش، أحمد مالك، ومن لا أعرف اسمه من الشباب الجديد الموهوب الذى كتب الفيلم شهادة ميلاده فالكل كان رائعا.
فى النهاية « اشتباك « فيلم لا ينحاز لأى فصيل لكنه يقدم الواقع المؤلم الذى نعيشه، فيلم يستحق أن ندعمه ونفخر به، لا أن نشتبك معه ونختلف حوله ونخوِّن صناعه الذين يستحقون التحية، فقد أعادوا للسينما المصرية بريقا افتقدته منذ زمن ونجحوا فى اقتناص اهتمام وتقدير صناع السينما العالمية ونقادها ومهرجاناتها وهذا وحده يكفى للفخر.

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة