ياسر رزق يكتب | خطاب المصارحة.. وفاتورة الدواء

ياسر رزق

السبت، 13 أغسطس 2016 - 04:13 م

أقدر في الرئيس السيسي صراحته، وشجاعته، وأيضا ثقته المطلقة في تفهم الشعب ووعيه التي لا يدانيه فيها غيره، وثقة الشعب الهائلة في صدقه وإخلاصه وحرصه علي البسطاء، التي قلما أولاها الشعب لأحد سواه.
هذه الصفات، كانت أوراق اعتماد السيسي لقلوب الجماهير، وكانت سر خروج عشرات الملايين إلي الشوارع يوم ٢٦ يوليو ٢٠١٣، تفوضه في مجابهة »العنف والإرهاب المحتمل»‬.
ما دمنا نتحدث عن صراحة، فلا مجال إذن لتحميل أي عبارات له، علي غير معناها ومقصدها، فلو كان يريد أن يقول شيئا لقاله دون تردد، ولو كان يرغب أن يكشف أمرا لكشف عنه دون مواربة، هو ليس من نوعية أولئك الذين يضمرون غير ما يعلنون.
وما دمنا نتحدث عن شجاعة، فقد عرفناه جسورا يقتحم، ولا يقحم الشعب في مغامرات غير محسوبة.
وما دمنا نتحدث عن ثقة متبادلة بينه وبين الشعب فذلك يقتضي من الجماهير إدراك أنه حين يقدم علي أمر أو إجراء، أو قرار، فالغرض منه هو مصلحة الوطن وأبنائه في المقام الأول والأخير ويتطلب منه أن يصارح الجماهير ويكاشفها بمجريات الأمور ودقائق الأوضاع وأسباب القرارات وتبعاتها. وهذا ما يفعله دوما كواحد من أبناء الوطن، اختير لمهمة جليلة قبل منصب رفيع، هي إنقاذ وحماية وطن وبناؤه، وتحسين حياة شعب.
هذا هو نهج السيسي، وقد سمعناه بالأمس يسير عليه، وهو يشخص أمراض الاقتصاد المصري، ويحدد طرق العلاج.
الدواء ليس وصفة من عنديات السيسي يأمر معاونيه بكتابتها للأخذ بها، إنما هي خلاصة أفكار وآراء خبراء ومسئولين مصريين وعصارة مداولات ومناقشات دامت شهورا طويلة، بدأت قبل أن يعلن قراره بالترشح للرئاسة، وتبلورت علي ضوء رؤيته لمستقبل مصر ومشروعها الوطني.
دواء الاقتصاد المصري مر المذاق، وله أعراض جانبية كأي دواء.
لكن لا مفر منه، إذا كنا نطلب علاجا شافيا من مرض مزمن، وليس مجرد مسكنات وقتية، قد تخفف الأعراض إلي حين، غير أنها حتما تزيد من استفحال المرض واستشرائه بمضي الوقت.
علي كل حال.. لم تعد المسكنات تجدي في تخفيف آلام ولا تسكين أوجاع!
• • •
اقتصادات الدول، كأجساد البشر، لا يفضل في علاجها الخيار الجراحي، ما دام هناك دواء. ولا يمكن لطبيب حصيف أن ينصح بأخذ الدواء جرعة واحدة، لتجنب تعريض الدول لأزمات اجتماعية أمنية، أو تعريض المريض لمضاعفات أخطر من المرض ذاته.
يعي السيسي الصورة بجوانبها، لذا لا ينبغي اقتطاع مشهد منها وتقدير الموقف علي أساسه، مثلما وهو يتحدث عن المشكلة بأبعادها، لا يجب اقتطاع عبارة من سياق، والتنبؤ بقرارات علي ضوئها.
حين تكلم عن الدعم، استخدم وصف ترشيد، ولم يقل ولا يمكن أن يقول إلغاء.  بالتحديد قال: وصول الدعم لمستحقيه الحقيقيين.
وضرب أمثلة منها حجب الدعم عن الميسورين والأثرياء الذين يستهلك كل منهم أكثر من ألف كيلو وات من الكهرباء شهرياً، وإبقاء الدعم في حدود ٢٨ جنيها علي الفاتورة الشهرية لمن يقل استهلاكهم عن ٥٠ كيلو وات، موضحاً أن عبء الزيادة الأخيرة عليهم لا يتخطي جنيها ونصف الجنيه، وأن الدعم لباقي الشرائح مستمر بنسب متدرجة.
حين تكلم السيسي عن أنه لن يتردد في اتخاذ قرارات لإصلاح الاقتصاد، كانت العهود السابقة تخشي الاقتراب منها، لم يكن يمهد لإصدار قرارات تنال من أولئك الذين لم يجدوا منذ ٤٠ عاماً من يحنو عليهم أو يرفق بهم، ووجدوا فيه ذلك الرجل.
وحين أشار السيسي إلي قرارات يناير ١٩٧٧، لم يكن أبدا يشير إلي نية بتحرير سعر رغيف الخبز أو إلغاء سلع بطاقات التموين المدعمة.. علي الإطلاق لا يفكر ولا ينوي ولم يجر علي خاطره أمر كهذا.
لم يتحدث عن خفض دعم الدولة لغير القادرين. بل تحدث عن زيادة!
زيادة في عدد المستفيدين بمعاشي كرامة وتكافل من نصف مليون أسرة إلي ١٫٥ مليون أسرة بنهاية العام، وعن الزيادة الأخيرة في المعاشات التي رفعت الحد الأدني للمعاش من ٣٠٠ إلي ٥٠٠ جنيه، وزادت الحد الأقصي لنسبة الـ ١٠٪ علي المعاشات إلي ١٢٥ جنيهاً.
لم يقل السيسي مثلاً إن الإسكان سيترك للعرض والطلب، إنما تحدث عن بناء مليون شقة مدعومة لمليون أسرة في الإسكان الاجتماعي خلال أقل من عامين، ومعها ١٥٠ ألف شقة مجاناً للمحرومين من المأوي الآمن، وهم أبناء المناطق الخطرة الواقعة علي سفوح الجبال وحواف الهضاب، أو المطلة علي برك آسنة، أو أحياء العشش وعزب الصفيح.
• • •
ما فهمته من جملة خطاب الصراحة والمكاشفة الذي ألقاه الرئيس السيسي أمس أن استمرار دعم القادرين والميسورين الأغنياء، هو إهدار لحقوق الأقل حظاً في كوب ماء نظيف، وسكن كريم، وتعليم لائق، ورعاية صحية حقيقية. فضلاً عما يمثله من افتئات علي حقوق الأبناء والأجيال القادمة.
ما فهمته من دعوته للمرأة في الأسرة المصرية بترشيد الاستهلاك، ليس هو التقتير علي أبنائها في طعام لمجابهة ارتفاع أسعار، إنما هو عدم اهدار مياه الشرب في غير مقتضي أو إنارة الغرف في غير وجود مقيمين، ليس فقط للحد من عبء الفواتير علي الأسرة، وإنما لتوفير استهلاك جماعي يؤدي بنا إلي اللجوء لتدوير مياه أو تحلية تتكلف المليارات من أموال الشعب، يمكن أن توجه إلي تحسين خدمات ومرافق، أو يؤدي بنا إلي استهلاك وقود نستورده بمليارات الدولارات من الخارج لتشغيل محطات الكهرباء، أو إهدار غاز، يمكن لنا أن نستغله في مشروعات للبتروكيماويات، كالذي شاهدناه بالأمس، يحقق قيمة مضافة للإنتاج المصري، وتقوم علي أساسه مشروعات صغيرة ومتوسطة في مجالات عديدة توفر فرص العمل للشباب.
• • •
ما الذي قاله السيسي بالضبط؟!
قال ما يعني أن الدائرة الجهنمية التي يدور فيها الاقتصاد المصري، لا يمكن أن تستمر وإلا دفعنا الثمن من حاضرنا، ودفع أبناؤنا الثمن في مستقبلهم.
ولنرجع سوياً إلي الأرقام التي لا تكذب ولا تخادع.
المصروفات في الموازنة العامة (٢٠١٦/٢٠١٧) تبلغ ٩٣٦ مليار جنيه، ثلثها تقريبا في حدود ٢٩٢ ملياراً يخصص لسداد فوائد الدين العام، وقرابة النصف، للدعم ومخصص له ٢١٠ مليارات، وللأجور والمعاشات ومخصص لهما ٢٢٨ ملياراً، أما المتبقي وهو أقل من ٢٢٪ من حجم الموازنة فينفق منه علي كل أنشطة الدولة، كالاستثمارات الحكومية أو التعليم والصحة والإسكان والمرافق والنقل والمحليات والزراعة والشباب والثقافة والأمن والدفاع.
الإيرادات لا تزيد علي ٦٣١ مليار جنيه.
إذن العجز في حدود ٣٠٥ مليارات جنيه، ويتم تدبيره من خلال الاقتراض الداخلي والخارجي.
في عام (٢٠١١/٢٠١٢) كان حجم الدين يبلغ ٨٠٠ مليار جنيه، ارتفع نتيجة عجز الموازنة والظروف الاقتصادية الصعبة عقب ثورة يناير، ليصل إلي ٣٫١ تريليون جنيه بنسبة ٩٧٪ من الناتج المحلي.
ومن ثم إذا استمر العجز بهذه المعدلات، يزداد الدين العام حجما وخطراً محدقاً بالبلاد، وتزداد بالتالي فوائده، ومخصصاته في الموازنة، علي حساب الخدمات والمرافق والاستثمارات الحكومية، ومن ثم يْتدهور مستوي معيشة المواطنين، وتقل فرص العمل المتاحة، وتتوقف جهود التنمية.
لا حل في تقديرات خبراء الاقتصاد، سوي زيادة الإيرادات، من خلال سياسة ضريبية تراعي عدالة الأعباء، وتشجيع الاستثمارات، لتوفير فرص عمل من جانب، وزيادة ايرادات الضرائب والجمارك من جانب آخر مع رفع معدلات التصدير لتوفير مصادر للعملة الأجنبية في ظل انحسار الدخل من السياحة وتحويلات المصريين بالخارج.
أما المصروفات، فلا يمكن المساس بالأجور والمعاشات، ولا يصح خفض الاستثمارات الحكومية أو تقليل الاعتمادات المخصصة للتعليم والصحة والإسكان الاجتماعي وغيرها، بل يتعين زيادتها لتحسين مستوي حياة المواطنين.
وبالتالي لا يتبقي سوي خفض إجمالي اعتمادات الدعم، لحجبه عن القادرين، وتوجيه جانب منه لغير القادرين لاسيما في مجال الحماية الاجتماعية، واستخدام المتبقي الذي كان يذهب لجيوب سماسرة عن طريق الفساد أو غير مستحقين عن طريق التهاون، في خفض عجز الموازنة، للحد من الاقتراض الداخلي، وإعادة الدين العام إلي المعدلات الآمنة، وخفض نسبة المخصص لسداد فوائده في الموازنة العامة عاماً بعد عام.
• • •
هناك إجراءات منتظرة متدرجة للإصلاح الاقتصادي، ليس من بينها في هذه المرحلة أسعار الوقود.
الفاتورة سيتحمل النصيب الأكبر منها من يقدر علي تحملها وهم الميسورون.
لكن الأعراض الجانبية للدواء الذي لا مفر منه، لابد من تلافي آثارها علي الفقراء، وتخفيفها عن الطبقات الوسطي.
وبنفس الصراحة التي تحدث بها الرئيس السيسي، أقول إن هناك من يتحين تلك الإجراءات لمراكمة ثرواته الحرام علي حساب محدودي الدخل وأبناء الطبقات الوسطي، لذا لابد من متابعة دقيقة من قمة السلطة ورئاسة الحكومة في مجال ضبط الأسواق لمنع الجشعين من استغلال أي قرار للمغالاة في الأسعار، وفي مجال ضرب الفساد للحد من تسرب أموال الدعم لبطون الفاسدين كما شاهدنا في قضية القمح، لابد من تحصيل أموال الضرائب من المتهربين بقبضة الحكومة وسيف القانون، واستعادة أموال الدولة وأراضيها المنهوبة، بإيقاع أسرع يسبق تلك الإجراءات، لابد من إزالة بطء القرار الحكومي في مجال الاستثمار، ولو عن طريق تشريع يقضي علي ظاهرة ارتعاش الأقلام في الأيادي.
نحن نثق في إخلاص الرئيس السيسي، ومعه حكمته وحسن تقديره للموقف.
غير أن هذا البلد ليس بلد السيسي وحده، إنه وطننا جميعا. وإذا كان هو تبرع علنا بنصف راتبه ونصف ميراثه، وتبرع سراً بكامل ميراثه لصندوق »‬تحيا مصر»، فإننا نجد أناساً يحرضون غيرهم علي عدم التبرع للصندوق،  ونجد من ينقل أمواله إلي الخارج ويتحدث عن الوطنية،  من يحجم عن الاستثمار في بلده ويتكلم عن جذب الاستثمارات الخارجية!
أولئك أن يظنون بإمكانهم الضغط علي الحكم، وتطويع قرار السلطة لمصالحهم، والاستحواذ علي ثروات البلاد لحسابهم، ويعتنقون نظرية القضاء علي الفقر عن طريق القضاء علي الفقراء!
لكن تلك ظنون آثمة!

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة