رحيل فارس الصحافة النبيل

رؤية مصرية

أحمد طه

الأربعاء، 24 أغسطس 2016 - 01:02 م

برحيل الأستاذ عبد العظيم مناف تفقد مدرسة الصحافة المستقلة مؤسسها وناظرها.. ونفقد آخر الرجال المحترمين والذي لم تكتفِ مدرسته بتكريس مباديء وقيم المهنة بل حفرت مجرى رئيسياً للوطنية والعروبة والأخلاق.. كما ألقت سجايا ومزايا ناظر المدرسة بظلالها على تلاميذه باستثناءات نادرة ولكنها فجة وزاعقة !!.. وكنا نداعبُ الأستاذ عبد العظيم بمطالبته بالتكفير عن ذنبه بلا توقف لأن فضائح مَن شذوا من تلاميذه فاقت فضائل الأغلبية الساحقة التى كانت ولاتزال تقبض على شرف مهنتها.. وكان رحمه الله يرد ضاحكاً »ألا تغفر لى كل النجوم المتلألئة فى فضاء الصحافة حتى تحاسبونى على شذوذ شخص أو اثنين«؟!!..
الكلام عن مناقب ومكارم عبد العظيم مناف يحتاج إلى مجلدات.. ومَن لم يسعدهم الحظ بمعرفته عن قرب ربما يظنون ما سأكتُبُه عنه ضرباً من المبالغة والخيال أو حديثا عن رجل من كوكب آخر.. ولهم كل العذر إن فعلوا فهو شخصية أسطورية بكل المقاييس.. لو تحدثت عن الثقافة والبلاغة والذائقة الأدبية فهو بلا نظير بين معاصرينا.. وكان له قدرة عبقرية على صك مصطلحات لُغوية بالغة الدلالة وخاصة عندما يصف خصوم عبد الناصر وأعداء العروبة ودعاة التطبيع مع العدو الصهيونى.. ولكنه لم يعرف الفُجر فى الخصومة ولم يتخلَ أبداً عن عِفة اللسان التى كانت تاجاً على رأسه.. ولم يتفوه طوال معرفتى به بلفظ خارج أو خادش للحياء.. بل كان وجهه يحّمَرُ خَجَلاً وتتغير ملامحه إذا زَلَّ لسانُ أحدنا فى خضم النقاش وشتم واحداً من بارونات الفساد أو عتاة المنافقين أو باعة الأوطان بلفظ عادى مما يقال فى الحوارات اليومية أو فى برامج التليفزيون، ولكنه غريب على قاموس هذا الأستاذ المهذب الذى لا ينتمى إلى زمننا!!..
والتواضع سِمة رئيسة وغالبة لدى ناظر مدرسة الصحافة النظيفة.. يجلِس فخوراً بين تلاميذه صامتاً ومستمعاً بكل جوارحه لحواراتهم وثرثراتهم الصاخبة فى السياسة وفى كل شئون الحياة، ولكنه لا ينبس ببنت شفة، وهو المثقف الموسوعى والمتحدِث اللبِق والخطيب المُفوه، إلا إذا دعاه أحد المتحاورين قائلاً « دعونا نستنير برأى الأستاذ».. أما عن الكَرَم، فحدِث ولا حرج.. وهنا يبرز الجانب الأسطورى فى شخصية عبد العظيم مناف.. وهنا أيضاً سيبدو حديثى خيالياً لكل القراء باستثناء مَن عاشروا الأستاذ أو رأوا نماذج مماثلة فى الأرياف بالذات.. وأنا شخصياً أُقدِس الكرم والكرماء.. وعاصرتُ عمى الكبير الشيخ مصطفى النقر الذى توفى قبل نحو نصف قرن ولاتزال قريتنا تتناقل حكايات كالأساطير عن كرمه و»عزوماته» الباذخة التى كلفته عشرات الأفدنة من أجود الأراضى!!.. وكرر الأسطورة صعيدى آخر باع عشرات الأفدنة التى ورثها عن والده فى بنى سويف وغيرها من الممتلكات للإنفاق على حلمه ومدرسته الصحفية وعلى كرمه اللامحدود!!.. وفى كل مقهى أو مطعم يدخله عبد العظيم مناف بالقاهرة تشعر بأنه صاحب المكان إذ سرعان ما يلتف حوله جميع العاملين فرحين ومرحبين فهم يعرفونه جيداً لسببين.. الأول أنه من المستحيل أن يدفع أحد الحساب فى وجوده.. والثانى أنهم ضمنوا «بقشيشاً» سخياً قد يقترب أحياناً من مُجمَل الحساب!!..
هذه لمحة مختصرة عن الجانب الإنسانى لفارس الصحافة الذى فقدناه (وهناك بالقطع جوانب أخرى مهنية ونضالية يمكن لغيرى تناولها بصورة أفضل) رأيتُ أن من واجبى تسجيلها كشهادة للتاريخ عن مناضل وطنى شريف كانت آخر أمانيه فى الميدان أن تنجح ثورتنا الأعظم فى تحقيق أهدافها.. بل وعدنا بـ»عزومة « كبرى بقريته «منشأة الحاج» يذبح فيها «بعروراً» (جمل صغير) لو تحققت هذه الأمنية الأعز.. وتشاء الأقدار أن يرحل تاركاً لنا الحزن والحسرة والبعرور، لأن ثورة يناير لم تنجح بعد!!..

 

 

 

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة