أبداً لاتغيب الجياد الأصيلة

د. محمد السعدنى يكتب:

محمد السعدني

الخميس، 25 أغسطس 2016 - 02:27 م

قالت :

تعال إليّ
واصعد ذلك الدرج الصغير
قلت : القيود تشدّنى
والخطو مضنى لا يسير
مهما بلغت فلست أبلغ ما بلغت
وقد أخور....
هكذا تحدث أمل دنقل فى قصيدته «قالت» من ديوان «مقتل القمر» وهى قصيدة تحمل عذابات الشاعر المتطلع فى بداياته حين تهيب أن يصعد الدرج الصغير إذ كان يعرف أنه درج مراوغ مثل مشوار حياته وخبراته الحيرى فى محراب محبوبة عصية على كل المخلصين، إنها «مصر الوطن»، ولما عز عليه الوصول إليها، اكتفى عنها بمن سواها، لكنه عاش يحلم بها ولها فاقترب وذاق واكتوى وعرف أنها لاسواها، وماعداها بدائل تجسد المعنى ولا تنفيه. لقد خشى أن تخور قواه إذا ما أخذه الدرج المراوغ إلى حيث أخذ الجبل سيزيف يحمل صخرته المقدسة حتى حافته فإذا مااقترب سقطت الصخرة إلى السفح وعاد كرة أخرى من حيث ابتدأ، وهو يعرف أن القيود تشده، قيود الفكرة وبعد الشقة ووجودية الحالة وعبث المحاولة، فالخطو مضن وهو صعب لايسير، وهو يعرف مسبقاً مهما بلغ فليس بالغا مالعله بالغه من تواصل على البعد وإحساس بالقرب رغم بعاد وتناء. هو لايرفض اللقيا رغم علمه باستحالته، ذلك أن الدرج وهو رمز الحاجز والسياج عندما ينهض فى وجه الطموح ويحول دون الاكتمال، وهو الذى دائما مافرضته الظروف على الشعراء والأوفياء من أبنائها والناسكين فى محرابها والسالكين متيمين فى بحور عيونها، فالدرج كما يقول أمل:
درج صغير
غير أنّ طريقه.. بلا مصير
فدعى مكانى للأسى
وامضى إلى غدك الأمير
فالعمر أقصر من طموحى...
وهنا تتجلى تضحية الشاعر الذى يترك مكانه للأسى فى رومانسية قليلاً ماغلفت أشعار أمل فى عنفوانه ونضوجه، رومانسية دافعها أمل فى غد يريدها أن ترفل فى إمارته مدركاً أن طموحه قد لايدركه على مدى عمر هو مهما يطول قصير.
........
قالت : سأنزل
قلت : يا معبودتى لا تنزلى لى
قالت : سأنزل
قلت : خطوك منتهٍ فى المستحيل
ما نحن ملتقيان
رغم توحّد الأمل النبيل
وياله من نفاد صبر لايعول على أمل ولو بصيص محتمل، مانحن ملتقيان رغم توحد الأمل النبيل وأن خطوك منتهٍ فى المستحيل فلاتنزلى، وكأنه يصادر حتى على احتمال اللقاء، فلا هو صعد إليها الدرج الصغير ولا وافقها على النزول إليه. حملته مخاوفه وهواجسه ونفاد صبره فى رؤية عدمية لم تسمح إلا للتشاؤم.
هكذا وقريب من هذا المعنى وفى أمسية حول أشعار أمل دنقل حادثنى زمرة كبيرة من شباب 25/30 عن قصيدته المحيرة «قالت» وحاولوا تفسيرها على هذا المحمل بما يخدم قنوطهم ويأسهم ويعبر عن إحباطهم وصدمتهم ومفارقتهم لواقع قالوا إنهم يرفضونه إذ استبعدهم وهمشهم ورفضهم وكذب عليهم وسخر منهم وصادر أحلامهم وضربهم بعنف وصادر حريتهم، رغم أن تضحياتهم هى من مهدت لهذا النظام وصوله للحكم، فارقوا مصر بالخطى لكنها أبداً فى قلوبهم وعقولهم، ولايتصورون أن اللقاء يمكن أن يكون قريباً فى ظل هذه الظروف الضاغطة عليهم.
فتحت الأعمال الكاملة لأمل دنقل، وأكملت معهم نفس القصيدة حيث انتهى الشاعر على خلاف ماتوقعنا فيما ابتدأ، فمن حيث فارقها فاقداً أمل التلاقى والوصال نزلت هى إليه، وقرأت عليهم كلماته:
نزلت تدقّ على السكون
رنين ناقوس ثقيل
وعيوننا متشابكات فى أسى الماضى الطويل
تخطو إلىّ
وخطوها ما ضلّ يوما عن سبيل
وبكى العناق
ولم أجد إلاّ الصدى
إلاّ الصدى
وكما ترى فالأبيات تشرح نفسها إذ أبت مصر إلا أن تنزل إليه هذا الدرج المراوغ تدق ناقوساً ثقيلاً يوقظ السكون وخطت إليه فى ثبات لايعرف كيف يضل السبيل وبكى العناق، ورغم أنه لم يجد إلا الصدى فلعل هذا ما يمكن أن يصحى الضمائر والبصائر والعقول. والمعنى أنه إذا ماخاصمتم مصر فهى لن تخاصمكم ولسوف تسعى إليكم، اعطوها الفرصة واصبروا قليلاً. ثم لماذا توقفتم أمام ديوانه الملغز «مقتل القمر» والعنوان يوحى بالاستحالة والخروج على قانون الطبيعة. ولماذا لم تتوقفوا عند «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» والكعكة الحجرية» و»لاتصالح» وسفر التكوين وسفر الخروج والجنوبى وأوراق الغرفة 8، وخطاب غير تاريخى على قبر صلاح الدين، والضحك فى دقيقة الحداد. لتروا الإصرار والعزم والمقاومة والإرادة والتحدى والاستجابة والأمل، وجميعها قيم تحتاجونها زاداً لطريق طويل فى عيون الوطن. ولماذا لاتقرأون معى كلماته:
آه.. ما أقسى الجدار
عندما ينهض فى وجه الشروق
ربما ننفق كل العمر.. كى ننقب ثغرة
ليمر النور للأجيال.. مرة
ربما لو لم يكن هذا الجدار..
ما عرفنا قيمة الضوء الطليق .
قالوا وأين ذلك الضوء الطليق وقد أغلقوا أمام عيوننا كل السبل، قلت هكذا يأخذكم نزق الثوار بعيداً وربما لديكم مبرراتكم، لكن كونوا على ثقة أننا جميعاً فى مفترق طرق، فلاتسمحوا لرعونة البعض أن تجعلنا نتنكب السبيل، نعم لدينا أخطاء وأحيانا خطايا ونحن لاننكرها لكن لديكم أيضاً شطحات وغضبات لاتدعوها تأخذكم بعيداً واتركوا لأنفسكم فرصة للحوار فهى مدخل للوصول لقواسم مشتركة يمكن البدء منها والبناء عليها، لاتتركوا للغضب أن يحكم خطاكم فيأخذكم بعيداً عن الصورة وعن الفعل والمشاركة، لاتسمحوا للظروف أن تضعكم فى خصومة مع الدولة فالأفضل أن تكونوا طرفاً معها فى حوار، فأنتم مستقبل هذا الوطن وكونوا على ثقة أن مصر لاتعدم رجالها وفرسانها وشبابها، وأنتم فى المقدمة منهم، فاستعدوا لعود حميد وتبوأوا مكانكم تحت شمس الوطن. بعدها بعدة أيام وفى أحد الصباحات الباكرة بينما أدخل بسيارتى الجامعة تقاطعت مع طابور التربية العسكرية، وقعت عيناى على عدد منهم بملابس التدريب العسكرية، كانوا فى حماس بادٍ وهم يتدربون وتملأ صيحاتهم المكان، ولا أنسى كيف حملت إلىّ نظراتهم الحماس والرضا والامتنان. ووجدتنى أردد داخلى ما سبق أن قلته لهم: هكذا، ساعة الجد أبداً لاتغيب الجياد الأصيلة.

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة