منال بركات

الأربعاء، 22 نوفمبر 2017 - 12:56 م

ضريح رخام فيه السعيد اندفن
وحفره فيها الشريد من غير كفن
مريت عليهم .. قلت يا للعجب
لاتنين ريحتهم لها نفس العفن...... عجبي




لم يدرك صلاح جاهين عندما سطر هذه الأبيات في الستينيات من القرن الماضي، أن السعيد والشريد سيصل بهم الحال بالألفية الثالثة إلى ما بلغه ابن آدم وقصة البحث عن مكان ليواريه التراب، بعد عناء رحلة الأيام.

وبالأمس القريب خرجت علينا الصحف مؤكدة أن قيمة "المدفن" بالطرق الرسمية بلغت تكلفتها خمسين ألف جنيه.

ومنذ عهد الفراعنة والمثوى الأخير لدى المصريين له شأن عظيم، فحرص المصري على اقتناء المدفن له ولعائلته من بعده،  فازدحمت القاهرة بالعديد من الجبانات التي تحدها في مناطق متفرقة، منها على سبيل المثال مقابر المجاورين الجديدة والقديمة والتي تعرف الآن بالغفير، وهناك البساتين والتونسي وشق الثعبان والسيدة عائشة وباب الوزير وباب النصر والشافعي والتونسي وسيدي عبد الله ومدينة نصر والروبيكي وطريق السويس...... 
ورغم كثرة المقابر إلا أن الأسعار في ارتفاع رهيب خاصة في الأعوام العشر الأخيرة وتضاعفت الأرقام خلال تلك السنوات من ثلاثمائة جنيه إلي خمسين ألف جنيه للمدفن. وفى بعض المناطق وصل ثمن المقبرة إلي أكثر من أربعمائة ألف جنيه"400,000"، وأحيانا ستمائة ألف "600,000"جنيه. وذلك بعيدا عن الأجهزة المعنية، وعندما أدركت الدولة الأمر عملت على تقنينه بصيغ قانونية. 
والغريب والعجيب في الوقت نفسه أن كل هذه المدافن التي تقدمها الدولة ليست للبيع على الإطلاق، إنما يتم تداولها بنظام حق الانتفاع، وكل من يرغب في التنازل عن مدفنه بصيغة قانونية، يتنازل عنه من خلال محافظة القاهرة حتى يتسنى للمالك الجديد استخراج الرخصة باسمه وورثته من بعده .
وتعد مقابر الغفير التي تبدأ من استاد نادي المقاولين العرب إلي جامع الشرطة في منطقة صلاح سالم، ذات طابع خاص تختلف عن سواها، من حيث التنسيق الشديد وتقسيم المساحات حيث تتراوح بعضها مابين 200: 500 مترا "للحوش"، وتحتوي على  عداد مياه  وكهرباء. وهو أمر محظورا على المقابر الحديثة بعدما أدركت الدولة سوء استغلال البعض لمنطقة المقابر وتحويلها إلى ورش ومناطق سكنية.
وتعرف مقابر الغفير بتقسيم الخاصة الملكية وتحمل الشوارع أسماء مثل الأمير شمس الدين وقرقماش و قنصوة والملك المظفر أحمد والأمير حوش قدم، وينتهي شارع الخاصة الملكية بمقابر الملك فاروق وأسرته و الأميرة شويكار، والملكة ناريمان، وهناك أيضا يرقد عمر مكرم وطلعت حرب، كما تضم أيضا منطقة الغفير مقابر المماليك  قشتمر والسلطان الظاهر و قايتباي وقنصوه، وغيرهم من المماليك.
وترجع تسمية المنطقة بمقابر الغفير نسبة إلى "قبة الغفير" التي تتوسط المكان وهو الحارس المسئول عن المساجد التي شيدت مع مقابر المماليك. وتتبع حاليا هذه القبة وزارة الآثار ،وتم تسجيلها كأثر تاريخي أما مقابر المماليك فآلت إلي وزارة الأوقاف.
وظلت منطقة الغفير على شكلها الأول بسبب التخطيط السليم ،ولم تطل المقابر العشوائيات بعكس مقابر المجاورين القديمة وباب النصر وغيرها من المدافن  التي سيطر عليها التشوهات وساعد على ذلك التصميم الذي شيدت عليه وهو شكل مقصورات خشبية أو لحد. وهناك يرقد وسطها التنويري الشيخ رفاعة الطهطاوى.




ومن المشاهير اللذين ينتفعوا بمقابر الغفير من الأسر المصرية من العصر الحديث المهندس شريف إسماعيل رئيس الوزراء الحالي واللواء سامح سيف الليزل ومفيد شهاب أل الجمال وآل الظواهري والمهندس صلاح دياب ومن الفنانين منيرة المهدية وأمينة رزق ومحمد عبد الوهاب وعمر خورشد ومحمد حسن رمزي وزبيدة ثروت ونجوى فؤاد. 




 وترجع أسباب ارتفاع أسعار المدافن وجنونها كما يري البعض إلي عاملين الأول الوسطاء من الدخلاء على مهنة "التربُية" واستغلال حاجة الناس ممن يملكون الملايين لمدفن لعائلتهم ، فيقوم هؤلاء الدخلاء بالوساطة بين بعض ملاك المدافن القديمة وآخرين يبحثوا عن مقبرة لآسرهم، ومن ثم صارت مهنة لهؤلاء السماسرة ،وساهم هؤلاء الدخلاء في جنون الأسعار. ليس هذا فحسب بل أصبح هناك مكاتب لبيع المدافن مثل مكاتب العقارات.




العامل الثاني اختفاء التسامح بين الناس، فقديما كان يقبل أصحاب المقابر في مواراة من لا يعرفه في مدفنه صدقة وطمعا في رحمه الله، واختلف الوضع الآن بعد رفع الأسعار من قبل أصحاب الملايين ورغبتهم في امتلاك مدفن خاص بهم.