حوار| المفكر يحيى الرخاوى: «كورونا» لم تعد مجرد فيروس بل حالة غيرت حياتنا

د. يحيى الرخاوى خلال حواره مع «الأخبار»

الأحد، 23 أغسطس 2020 - 11:59 م

غادة زين العابدين

د. يحيى الرخاوى: العمل نصف الوقت يهدد بالكسل واستبدال الأبحاث بالامتحان يرسخ الغش لو نظرنا لكل أزمة على أنها كارثة سنعجز عن مواجهتها المثقف الحقيقى هو الذى يمثل «ناسه» ويعيش نبضهم المصرى يتحمل الشدائد لكنه لا يتعلم من أخطائه   هو طبيب نفسى قدير، أو بالأصح خبير بارع بالنفس وأسرارها.. وهو أيضا كاتب،وحكيم، ومفكر كبير..حصل على أرقى الدرجات العلمية فى مجال الطب النفسى وحصل أيضا على جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب عن احد مؤلفاته ورواياته التى وصلت إلى ٤٥ كتابا.   هو الطبيب والفيلسوف د. يحيى الرخاوى استاذ الطب النفسى بجامعة القاهرة فى حوار روحانى..«دسم»..كاشف..وصريح، جمع فيه بين الرؤية العامة والتجربة الذاتية.   أكد لى د.يحى الرخاوى أن العالم يعيش صراعات رهيبة لا تبرير لها، وأن الأمل أن نكون فى مرحلة التفكيك التى تسبق التشكيل والإبداع، وأكد أيضا أننا لا ينبغى أن نبالغ فى تسمية كل أزمة بالكارثة حتى لا نعجز عن مواجهتها، وقال إن كورونا لم يعد مجرد فيروس، بل حالة غيرت حياتنا ويجب أن نتعلم منها، وأكد أننا نحتاج لإعادة تأهيل بعد انتهائها، للتخلص من السلبيات التى انعكست على احوال العمل والتعليم، وقال إن مقولة الثبات على المبدأ،ليست دائما على صواب،لأن المبدأ الصحيح هو المبدأ القابل للاختبار والتعديل والتطوير لمسايرة التطور.   وأترككم لتفاصيل حوارى مع حكيمنا الكبير وإجاباته «الدسمة».   - نعم هى صراعات رهيبة وغريبة، حيث أصبح المشاركون فيها غير محدودى الهوية، كما أصبحت آليات الصراع أقرب إلى النشاطات ذات الشفرات الغامضة، فهى لم تعد صراعات بين أديان وأخرى أو بين أيديولوجيات وأيديولوجيات مضادة، وإنما انتشرت وتنوعت وتعددت حتى كدت أراها صراعات بين الجميع والجميع، وكل ذلك بسبب انتشار هذا الفيضان الهائل من تقنيات التواصل الأحدث والأسرع بين كل الناس وكل الناس، فوصلنا خطرا أكبر.   لكنى فى نفس الوقت أحاول البحث داخل هذا الكم الهائل من اللغو والإثارة السطحية على أمل، والأمل أن يفيق كل الناس إلى استشعار الخطر فيستعملون نفس الوسيلة للتقارب والتكامل بدلا من الصراع، وهذا وراد تاريخا لو أحسنا التعلم من أخطائنا، وأنا بذلك لا أصف العالم بالجنون، وإلا نكون قد وصلنا للنهاية، لكننى آمل أن نكون فى مرحلة «التفكيك للتشكيل» وهى المرحلة التى تسبق الإبداع، وهذا هو المسار الإيجابى للجنون لو أحسنا استيعابه، فالإبداع ليس إلا احتواء التفكيك فى علاقات أفضل تماسكا وأقدر عطاء، وأنا أتابع ما يحدث فى العالم بالأمل، لأننى شخصيا مصاب بمحنة التفاؤل المزمن وأعتبر اليأس والتشاؤم رفاهية لا أسمح لنفسى بالتمتع بها. مواجهة الأزمات - بحكمة خبير النفس البشرية، يقول: قبل كل شىء، علينا ألا نبالغ فى تسمية كل أزمة نمر بها بالكارثة،حتى لا يعيقنا الاسم عن المبادرة بالمواجهة، فالأزمة أزمة وهى لا تصبح كارثة إلا بعجزنا عن مواجهتها والتغلب عليها حتى نيأس منها. وأفضل وسيلة لحماية أنفسنا من اكتئاب الكوارث،أن نتوقعها، لأن التوقع يدفع للاستعداد، وما دام حال العالم قد آل إلى هذه الفوضى العامة (الفوضى العلمية والإعلامية والاقتصادية) فلابد أن تكون الكوارث جزءًا من مضاعفاتها، وتوقع الكوارث يعنى الاستعداد لها، ثم القدرة على التخفيف من آثارها، ثم مواجهتها ونحن نتعلم منها. الدين والعلم - يبتسم قائلا: الإجابة الأسهل هى «بكل ذلك»، لكن الإجابة الأصعب أننا لابد أن نفرد لكل من هذه الكلمات إجابة مستقلة، فالرجوع للدين وحده فى مواجهة كل ما نمر به من أزمات، يغلب عليه السلطات المغلقة وهى ليست بالضرورة الأقدر على حمل المسئولية ومواجهة سرعة الإيقاع الجارى، أما إذا أردنا الاعتماد على العلم فقط فينبغى أن نضع فى الاعتبار أن العلم السلطوى أصبح أغلبه أداة يتحكم فيها من يملك المال والسلاح،والإعلام الذى يخدمها، وللأسف فإنه لا يسمى نفسه العلم السلطوى، بل يتخفى تحت مسميات حركية مثل»العلم التقليدي» أو حتى «العلم الحديث»،وأما الحكمة فهى أمر يدعيه كل صاحب رأى باعتبار أنه الوحيد الأدرى بما هى الحكمة وغيره عكس ذلك.وكل هذا يفرغ هذه الكلمات - للأسف - من معانيها الإيجابية. إيجابيات «كورونا» - بسرعة يجيبنى: نعم أوافقك تماما، فعلى الرغم من ثبوت أن هذا الفيروس هو كائن صغير حقير، إلا أن ما أثاره فينا وبيننا هو مهم ومفيد ومزعج معا، وأرجو أن نتعلم من كل جانب من هذه الجوانب ما يحمينا من كل كورونا، سواء كورونا الفيروسات أوالبشر، فلابد أن نتعلم ضرورة التعاون على المستوى الإنسانى كافة، لإنقاذ البشرية من مخاطر أكبر فأكبر، مثل التغيرات المناخية، والتحولات فى سلاسل التطور التى تجرى حاليا تحت ظروف لا نعرفها كلها، والاستعداد واجب فى كل مجال وبكل سلاح. إعادة تأهيل - نعم جدا، فالوضع الذى صاحب تقديم الطلاب لما يسمى البحث أو «المشروع» بدلا من الامتحانات، سوف يرسخ قيمة الغش فى التعليم أكثر مما هى، والنجاح الغامض بغير جهد ومنهج محكم نتيجة الاعتماد على أوراق ممتلئة بمعلومات وأرقام لا نعرف من الذى ملأها، ولا كيف ملأها يمكن أن يهز قيم الدراسة والتعليم أكثر مما هى مهزوزة أصلاً. أما السماح بالعمل نصف الوقت فى معظم المصالح فأخشى أن يستمر بعد انتهاء أزمة كورونا ويصبح هو الأصل، ويصبح النصف الثانى من وقت العمل هو بمثابة عمل اختيارى غير ملزم، ونحن لا ينقصنا مزيد من الكسل والتواكل. وعند إعادة التأهيل ينبغى أن ننتبه إلى كل ذلك، ومن الآن ولمدة سنوات. بورتريه «المصرى» - يسرح طويلا، ويقول: إنسان طيب عنيد يحاول طول الوقت الاستمرار فى الحياة فى ظل ظروف صعبة، وهو حين يقابل شدة حقيقية يكون عادة أهلا للتصدى لها، لكنه ليس دائما جاهزا للتعلم من أخطائه أو تحمل مسئولية الآخرين، وهو مازال يحتفظ بدفء علاقاته مع أهله وأقرانه، وبعض صدق علاقته مع ربه. معاناة الطبيب النفسي - طبعا الطبيب النفسى لا يحيا حياة مثالية «ولا يحزنون»، فهو مواطن مثل أى مواطن، وبصراحة الطب النفسى أخذ سمعة وتصفيقا أكثر مما يستحق، ولابد أن نعيد النظر فيما اسميه «نفسنة المجتمع» وأعنى بها أن يصبح الطب النفسى وصيا على مساحة كبيرة من تصرفاتنا فيصدر الأحكام، بأن هذا صحة وذاك مرض، وأن هذا صح وذاك خطأ، هذا لا يجوز، وعلى الإعلام والزملاء أن ينتبهوا وأن يضعوا حدودا للفتاوى السطحية والنصائح المفرغة. العلاج بالمواجهة - أعيش مثل أى مواطن مصرى مستور ماديا، أحاول أن يكون وجودى مفيدا لى ولمن حولى بدءًا بدائرة أسرتى ثم طلابى وزملائى الأصغر ثم مرضاى ثم أى شخص أجد أن فى مقدورى أن أضيف إليه بعض خبرتى «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً». وأنا أتعامل مع المشكلات الصعبة بالمواجهة والمسئولية، فلا أؤجل مواجهة المشكلات لأى سبب. وهذا ما أفعله مع مرضاى أيضا، من خلال علاج المواجهة،فأنا والمريض نواجه الأمر الواقع ونركز على «هنا» و»الآن» بديلا عن الاستغراق فى الماضى. أما كيف ربيت أبنائى، فأعتقد أننى اجتهدت مثل أى أب مصرى، لكن يبدو أن تأثيرى عليهم كان مبالغا فيه، لأنهم جميعا تخصصوا فى الطب النفسى أو العلاج النفسى فى الجامعة وخارجها وهذا ما ألمحه أحيانا فى احتجاجاتهم الخفية والتى لا أعترف بها بسهولة، وأدعى أن كلا منهم حر يترك مهنته إلى ما يناسبه أكثر كما يرى بعد أن يصل به النضج إلى ما يسمح له بذلك، لكننى لا أعتقد أنى صادق فى ذلك، ولا هم جادون فى احتمال ذلك. أما تعاملى مع الحياة بعد غياب أم الأولاد فهو استغراق أكثر فى واجباتى،وانفتاح ما أمكن نحو من يحتاجنى، وصبر جميل حتى ألقاه وألقاها. من هو المثقف؟ - فى البداية يجب أن نتفق على تعريف المثقف؟ وأنا أعتقد أن المثقف ليس هو من يقرأ أكثر، أو من ينتمى إلى وزارة الثقافة أو المجلس الأعلى للثقافة، وإنما المثقف هو الذى يمثل ناسه، هو الأقرب منهم، يعيش نبضهم، ويشارك فى آلامهم وفرحهم، (حتى لو لم يقرأ أو يكتب) وهو يحمل همهم لأنه يعيش بينهم بإيجابية، وبهذا التعريف فإن دور المثقف الجالس على مقهى المثقفين أو وراء مكتبه يتراجع فعلا. التمسك بالثوابت - كررت دائما حذرى من الفرحة بترديد مقولة «يحيا الثبات على المبدأ»، لا يوجد مبدأ صحيح على طول الخط يستحق أن أثبت عليه أو أدعو للثبات عليه، المبدأ الصحيح هو المبدأ القابل للاختبار والتعديل والتطوير إن لزم ذلك، وهو ما يلزمه التفكير النقدى الاستنتاجى وهو نوع التفكير الناضج، وما لم تتطور أفكارنا ومعتقدات مواقفنا مع التغيرات الجارية عندنا وفى العالم فنحن نتأخر باستمرار دون أن ندرى. حوار الجمعة - أنا شخصيا لا أشارك فيها بشكل مباشر إلا عن طريق موقعى الخاص الذى أكتب فيه نشرة علمية ثقافية يوميا منذ ثلاث عشرة سنة لم أنقطع فيها يوما واحدا، وتأتينى تعليقات عليها،وأرد على كل ما يأتينى فى نشرة الجمعة تحت عنوان «حواربريد الجمعة».. أما وسائل التواصل الاجتماعى الأخرى مثل الواتساب والرسائل المحمولة،-فليس لى أية علاقة بها ولا افتحها أصلا لضيق الوقت، وقد تعمدت رفض تعلم استعمالها حرصا على وقتى. أما عن رأيى فيها فهى مثل أى إنجاز حديث: حسنةٌ لما هو حسن، ومصيبة لما هو تافه أو مغرض أو تهريج. املأوا وقتكم - أوافقك تماما، وأكرر دائما أن العبادة الصحيحة والتقرب إلى الله هى فى «أن تملأ الوقت بما هو أحق بالوقت» ومن الصعب جدا هذه الأيام تحديد ما هو أحق بالوقت، لكن كل واحد عنده بصيرة يمكن أن يجتهد «ولو ألقى معاذيره». استراحة.. - سجن التفكير حتى يتوقف - غباء الوعى البشرى - الوعى - كل الوجود الشخصى والممتد إليه سبحانه - دناءة، وقلة أدب - لم أعد أتابعه بالقدر الذى يسمح لى بالحكم عليه، لكننى أتصور أن الإعلانات أضرت به، وأن الموبايل أزاحه كثيرا. هو موقف نقدى متجدد ينجح فى تشكيل البديل - ثقافة هروبية تكشف الهروبات السرية الأخرى - نقلة من الوعى الشخصى إلى الوعى الكونى جرائم تدهشنى - بل أندهش أمام الجرائم الكبرى التى يسقط بسببها الاف وربما ملايين الضحايا، مثل ابادة نصف مليون انسان فى حروب لا جدوى منها، ومثل اشتعال الحروب بالنية، وليس لأسباب حقيقية، ومثل تشريد الناس أو تجويعهم للحصول على أموال «مش عارفين هيصرفوها فين»، هذه الجرائم تدهشنى أكثر من الجرائم الفردية. صعب جدا - الطب النفسى الشرعى هو من أصعب التخصصات فى الطب النفسى وهو لا يفسر سلوك المجرمين بقدر ما يحكم على قدراتهم وبالتالى على مسئوليتهم الجنائية عما ارتكبوا من جرائم، ومدى ما كانوا يتمتعون به «وقت ارتكاب الجريمة» من قدرة على «التمييز» و»الوعى» و»الإرادة»، وما أصعب ذلك.   من أين نبدأ؟ - بكل ذلك طبعا ودائما وفى نفس الوقت. الطب والأدب - إذا كنت تقصدين أطباءنا المشاهير النفسيين فأنا أوافق، وأضيف أنه إذا كان الأمر كذلك فهو خير وبركة لأن الطب النفسى فن أكثر منه علم، والطبيب النفسى يحصل على معلوماته من كل المصادر وبينها كل أشكال الإبداع وأهمها الرواية والقصة. أنا و«محفوظ» - علاقتنا ارتبطت بنادى الحرافيش الذى أسسه نجيب محفوظ، وكان أعضاؤه يجتمعون شبه أسبوعيا، لتبادل وجهات النظر والمناقشات فى مختلف القضايا، وبمرو الوقت انضم للحرافيش شخصيات من كل المجالات والأجيال كنت أنا واحدا منهم. وقد أمضيت مع نجيب محفوظ آخر عشر سنوات من عمره، وأهم وأجمل عشر سنوات فى عمرى. بعد المعاش - أنا لا أعرف شيئا اسمه الحياة بعد المعاش، صحيح أننى خرجت إلى المعاش منذ ما يقرب من ثلاثين عاما (الا اثنين) لكننى ما زلت أعمل كما كنت أعمل وأنا فى الأربعين (مضطرا والحمد لله)، الإحالة إلى المعاش تصبح أزمة حقيقية لمن كانت حياته مقتصرة على واجبات وظيفته ومجتمعها، لأنه سيعانى بعد ترك الوظيفة من الفراغ وستصبح حياته بلا جدوى، وأنا كثيرا ما أطلب من مرضاى ان يكتبوا لى كيف يقضون يومهم على مدى ٢٤ ساعة، فإذا أجابوا لا أكتب لهم دواء، فالمفروض أن نخطط ليومنا،وأن يكون لدينا جدول بما نفعله كل يوم،وفى نفس الساعة، ومع الخروج للمعاش وعدم وجود عمل بديل، يمكن أن تشغل حياتك بأشياء كثيرة مثل صلة الرحم والعبادة ومساعدة الآخرين والتوعية، بمعنى أن تكون نافعا للآخرين، «إذا نودى عليك،أجبت». نشر الخبرة - ما الحلم الذى يشغلك الآن؟ -أن أنشر خبرتى بكل الوسائل (الإلكترونية والكتابية والعملية) لمن يهمه الامر.. وأهم درس ونصيحة لتلاميذى وأبنائى أن يملأ الوقت بما هو أحق بالوقت..والحقيقة أن استقلال الشباب بالمحمول والتواصل المستقل برغم أنف سلطات الأسرة والحكومة، أتاح له مساحة من التجربة والخطأ، وارجو أن تكون المحصلة النهائية لصالحه، وإن كنت - فى حدود متابعتى - أشك فى ذلك؟ هرمون السعادة - أنا لا أحب هذه الكلمة «السعادة» برغم بريقها، ولم يصالحنى عليها إلا كتاب «برتراند رسل» عنها، ومع ذلك تظل قيمة العمل والرضا والدعاء والوعى والعفو هى الكلمات الأقرب إلى قيمى، ليس فقط فى هذه المرحلة، ولكن طول عمرى.