في عمق الأزمة: مابين التسويق والتسويء

د. محمد السعدنى يكتب:

الثلاثاء، 26 أبريل 2016 - 09:07 م

د. محمد السعدنى يكتب:

ومن أسف فلدي نظامنا السياسي الكثير مما تحقق ولاتستطيع حكومتنا التسويق له وحشد الناس حولهتقول القصة أن عجوزاً ضعيف البصر معتل الصحة لايجد قوت يومه، ولما أعيته الحيل ليجد عملاً يقتات منه فاستعان بأحدهم صنع له لوحة كبيرة مكتوب عليها: «أنا أعمي لا أستطيع العمل فساعدوني»، وضع اللوحة وبجانبها قبعته وجلس في طريق يعمره المارة ويلفه الزحام، ولم يحالفه الحظ يوماً بعد يوم، أياماً طويلة، إلي أن مر في طريقه رجل وقف ليري أن القبعة خالية إلا من قروش قليلة فوضع المزيد فيها، وامتدت يده إلي اللوحة، قلبها علي الوجه الآخر وكتب عليها بخط واضح عبارة أخري، ثم وضعها في مكانها ومضي لحال سبيله، لاحظ صاحبنا بعدها أن كثيرين من المارة قد توقفوا عنده وأن قبعته قد امتلأت بالعملات والأوراق النقدية، فعرف أن شيئاً قد تغير، وأدرك أن الذي مر به ربما فعل شيئاً جديداً جذب الناس لمساعدته، ولما سأل أحدهم أن يقرأ له اللوحة فإذا بها مكتوب عليها: «نحن في فصل الربيع لكنني لا أستطيع رؤية جماله». فأيقن أن العبارة الجديدة هي سبب إقبال الناس عليه والتعاطف معه، لكنه ربما لايزال حتي يومنا هذا لايعرف أن من كتب هذه العبارة البليغة كان متخصصاً في التسويق في إحدي الشركات الكبري. ونسأل: ماهي العبرة التي نخرج بها من قصة صاحبنا الذي تغيرت أحواله حين أعانه القدر بصاحب قلب رحيم متخصص في علوم الدعاية والإعلان والتسويق؟ ونجيب: العبرة ببساطة : غير وسائلك عندما لاتسير معك الأمور كما يجب وكما ينبغي أو كما تأمل أن تكون.ولعلي هنا قد لخصت لك واحدة من أعقد أمور الإدارة الحديثة التي أدخلتها مفاهيم إقتصاد المعرفة علي السياسات العامة في عالمنا الجديد ودوله المتقدمة بما يموج بالمستجدات والإبتكار والإبداع، وهي إعادة الهندسة.Re- Engineeringولقد كتبت لك هنا في فبراير 2009 تحت عنوان «البحث العلمي وإدارة المعرفة» مامعناه: سادت علي مدار العقدين الماضيين ثلاثة أفكار جوهرية، سرعان ما تحولت إلي نظريات وبرامج وتطبيقات أثرت بشكل كبير علي مفاهيم السياسات العامة والإدارة والصناعة والإقتصاد وحددت معايير جديدة للتقدم يصعب تجاوزها في عالم اليوم، هذه الافكار الثلاثة هي: إدارة الجودة الشاملة، إعادة الهندسة، ورأس المال الفكري. وأحسب أنه لامجال لمشروع علمي للنهضة يقوم علي أسس منهجية وينشد التقدم والحداثة دون أن يضع هذه الأفكار الثلاثة موضع التنفيذ، وأن يتم علي أساسها إدارة وحوكمة مؤسساتنا العامة ووزاراتنا وحكوماتنا وحتي أجهزة الدولة العميقة وأفكارها التي تؤثر دون شك في تبني الناس لسياسات الدولة وتوجهاتها ومشروعاتها القومية.أما مفهوم إعادة الهندسة re-engineering فكان أول من تصور خطوطه الأساسية هو الأمريكي «توماس ديفنبورت» في 1990 وقام كل من «هامر» و»تشامبي» بنشر أول كتاب بهذا الاسم في 1997، متواكبا مع ثورة الإتصالات والمعلوماتية وتكنولوجياتها الحديثة، وتقوم الركائز الأساسية لإعادة الهندسة علي أربعة محاورهي: إعادة التفكير بصورة أساسية في ماهية السياسات العامة المراد الترويج لها «الإعلان والتسويق»، لتجيب عن أسئلة مثل: لماذا نفعل مانقوم به الآن؟ ولماذا نؤديه بالطريقة الحالية؟ وما الذي ينبغي عمله لتطوير الأداء، أي أن تقوم كل مؤسسة أو هيئة أو حكومة بعدم التقيد بالأساليب والممارسات التقليدية المتبعة وتبحث عن أساليب جديدة وعصرية. ثم إعادة التصميم الجذري لأساليب العمل باعتماد منهج التجديد والإبداع والإبتكار. وبعدها إجراء تحسينات درامية وثورية في معدلات الأداء، وسرعة انجاز العمل وعوامل ومبررات إقناع الجماهير بأهمية العمل وضروراته. يتبع ذلك إعادة النظر في كل العمليات التي تقوم بها لتؤدي إلي قيمة مضافة أعلي. وهي في مجملها مفاهيم تحث علي الابتكار وإعادة الهيكله لتحقيق إنسيابية العمل وتحقيق تحسينات جوهرية في الأداء، وتدفع الناس لتبني الفكرة والإقتناع بها والترويج لها «التسويق الجيد» والعمل علي استكمالها وتحقيقها عن قناعة في إطار مشاركة إجتماعية وحماس جماهيري. ولعل النجاح الأمريكي والغربي في الترويج لسياساته وأفكاره واجتياح العالم بها يكمن في تبنيه لما شرحناه مسبقاً، حيث يقومون بالترويج للفكرة كما يقوموا بالترويج للسلعة بذكاء وعلمية ووسائل إبداعية مبتكرة غير تقليدية تشرك الناس في الحماس للفكرة وتبنيها والعمل علي إنجاحها.هذا عينه هو مانفتقده في نظامنا السياسي وأدائنا العام سواء قبل ثورتي ينايرويونيو أو بعدهما، حيث تصر حكوماتنا المتعاقبة ضعيفة البصر والبصيرة أن تتصرف مثل أخينا بطل قصتنا التي أوردناها في صدر المقال، الذي عالج واقعه وسوء حالته بما يراه وما يقتنعه ومايعرفه، فجاءت النتائج علي غير مايأمل ويبتغي، وزادت معاناته وساء حاله ونفد صبره، ولم يتغير واقعه وتروج أحواله ويحقق مكسباً سعي إليه وتاقت نفسه لتحقيقه إلا عندما تعهده بالرعاية واحد تصادف أنه من أهل الإختصاص «التسويق» مسلح بالعلم والخبرة والمعرفة، هنا فقط حدث الفارق وحقق صاحبنا مبتغاه.الحكومات لاتقف للشحاتة علي قارعة الطريق كما صاحبنا في القصة السابقة، ولاينبغي إلا أن تكون مبصرة وعارفة وواعيه ومسيسة، ومن أسف فلدي نظامنا السياسي الكثير مما تحقق ولاتستطيع حكومتنا التسويق له وحشد الناس حوله، اللهم إلا بطرق تقليدية عقيمة تعتمد فيها علي فريق من الإعلاميين والتابعين من أصحاب المصالح غير مؤهلين ولايحظون بقبول الشارع ولا يعرفون عن أسس ونظريات التسويق السياسي الحديث شيئاً، فتحولوا بسوءات ممارساتهم وأدائهم لعوامل طرد أكثر منها عوامل جذب وحشد وتعبئة، فتسببوا في تطفيش الناس وتيئيس الشعب وحشدهم ضد الحكومة والنظام الذي تحولوا عبئاً عليه لاداعم له، وصاروا هم وحكومتنا السنية كمن قال فيهم بشار بن برد: أعمي يقود بصيراً لا أبا لكم قد ضل من كانت العميان تهديه.آية ذلك تجلي في معظم أزماتنا مع الشباب وحالة الإحباط العام رغم مايتحقق كل يوم من إيجابيات حولنا، ورغم مايبذل من جهد كبير، وجاءت ثالثة الأثافي في معالجتنا البليدة لجزيرتي تيران وصنافير وغباء التبني الإعلامي والدولي للأزمة حتي وصلنا إلي التظاهر الذي رفع شعارات ضد الرئيس وضد النظام وركب الموجة تنظيم الإخوان محلياً ودولياً، بل سمحت بدائية التسويق للفكرة بشكلها الباهت وتوقيتها الغريب لشق صف الجماهير ووضع السلطة في خانة المفرط والمتساهل، وانتشرت بفضل غباء الإعلام عبارات التخوين والتآمر، وبدت فضائياتنا في عداء سافر مع المعارضة والشباب المتحمس، تمارس معهم فعل المكايدة والتخوين، ولكأنهم يقومون بالتسوئ لا التسويق.ياسادة مصر تحتاج منا أفضل من هذه الممارسات العبثية غير المسئولة، تحتاج رجالاً يخافون الله ويحبون الوطن، كثير منهم في السلطة ومجالنا العام لكن تنقصهم حاسة السياسة وفنون مخاطبة الجماهير وحشدها لقضايانا، ويتوجب علينا إعداد المتخصصين والكفاءات لتولي مسئوليات دولة في مرحلة حرجة يأخذون بمنهج العلم ومستجدات السياسة ورشد الإدارة، وألا ننتظر عابر السبيل الذي يتصادف أن يكون متخصصاً مؤهلاً ليغير من أحوالنا ويعيد كتابة اللوحة.