ياسر رزق
ياسر رزق


ورقة وقلم

الطريق إلى المستقبل.. يمر بمنخفض القطارة

ياسر رزق

السبت، 17 أكتوبر 2020 - 07:16 م

 

هذا المشروع لو نفذ سيكون الأضخم فى تاريخ مصر، والأكثر تأثيراً على جغرافيتها وأحسبه إذا اكتملت الرؤية الخاصة به سيكون درة التاج

افرد خريطة مصر أمامك، على امتدادها، من رفح شرقاً إلى السلوم فى أقصى الغرب، ومن رأس البر شمالاً إلى رأس حدربة فى أقصى الجنوب عند خط عرض ٢٢ على الحدود مع السودان.
كل شبر من أرض مصر، يخفى سراً، ويطوى كنزاً، ويتأبط وعداً، ويحمل بشارة آتية حين يأتى الأوان.
فتش فى هذه الأرض، وستجد الكنز!
لست أقصد كنز قارون، مضرب أمثال رسالات السماء فى الثراء، أو فاحش الغنى الذى ناءت بحمل مفاتيح خزائنه أكتاف أشداء الرجال، وخسف الله به وبداره الأرض هنا فى رمال مصر.
إنما أقصد كنوزا لا تفنى بمرور الزمن، ولا تنضب بتغير الأجيال.
< < <
كنز مصر، هو جغرافيتها الفريدة.
موقعها العبقرى، ثرواتها الطبيعية، سواحلها الممتدة على أهم بحرين، قناتها المزدوجة، نيلها ودلتاه،حتى صحاريها الفسيحة التى تحتل رمالها قرابة ٩٣٪ من مساحة مصر البالغة مليون كيلومتر مربع، أى تريليون متر مربع.
فى كل بقعة من على أرض مصر تجد مشروعاً عملاقاً قام، أو ينهض، أو مازال بذرة فى رحم التاريخ.
فى سيناء، وعلى ضفتى القناتين، وفى جنوب الوادى، وسد النيل العالى، وفى توشكى.
< < <
كل مشروع وطنى، كان حلماً فخاطراً فاحتمالاً، ثم أضحى حقيقة لا خيالا، مثلما قال عزيز أباظة عن السد العالي.
كان السد فكرة سبقت ثورة ٢٣ يوليو ومجىء الزعيم جمال عبدالناصر، طرحها المهندس اليونانى أدريان دانينيوس على حكومات العهد الملكى.
وكانت قناة السويس حلماً سبق مشروع المهندس الفرنسى فرديناند ديليسبس، كان يتوق لتحقيقه نابليون بونابرت أثناء حملته على مصر، غير أن عقبات فنية مفترضة حالت دون التنفيذ لمدة ٦٠ عاماً، إلى أن طرح ديليسبس مشروعه على الخديو  سعيد.
مشروع ازدواج قناة السويس، الذى صار رمزاً لقدرة هذا الجيل من المصريين على صنع معجزات، تضارع قدرة قدماء المصريين على بناء المجد وصنع التاريخ، لم يكن هو الآخر فكرة طافت عفو الخاطر بذهن الرئيس عبدالفتاح السيسى، ولا اقتراحاً جرى فى لحظة على لسان الفريق مهاب مميش رئيس هيئة قناة السويس السابق، فى اتصال تليفونى ثم لقاء مع رئيس الجمهورية.
منذ ٣٣ عاماً أجريت حواراً هو الأهم فى مقتبل حياتى الصحفية مع المهندس محمد عزت عادل رئيس هيئة القناة وقتها، وقال لى ضمن إجاباته عن  أسئلتى: إن مشروع المستقبل، هو ازدواج قناة السويس.
ثم ابتسم وأضاف: لعلك لن تلحق به، ربما أبناؤك.
ولم يكن يتصور هو ولا أنا أننا سنكون شهوداً على افتتاح هذا المشروع العملاق يوم ٦ أغسطس ٢٠١٥.
< < <
أود أن أقول إن المشروعات العملاقة تظل أحلاماً إذا لم تتحول إلى دراسات، وتظل أفكارا فى أدراج مغلقة، ما لم تثبت جدواها الاقتصادية، وتظل أمنيات حبيسة فى الصدور، ما لم يتوافر لها التمويل، وتظل عنوانا على فرص ضائعة، إذا غابت الإرادة السياسية والقيادة صاحبة القرار والهمة والقدرة على شحذ العزائم.
< < <
أكتب عن مشروع وطنى عملاق، لعله الأضخم فى تاريخ مصر إذا نفذ، وأحسبه سيغير ـ قولاً وفعلاً ـ خريطة مصر المعروفة منذ آلاف السنين، وأظنه إذا اكتملت الرؤية الخاصة به وجرى تحديث دراساته الفنية، سيكون هو درة التاج.
وحين تكتمل مرحلته الأولي، إذا ثبتت جدواه، وتوفر تمويله، سيكون بجانب مشروع قومى عملاق آخر هو محطة الضبعة النووية لتوليد الكهرباء، القريبة من موقعه، دلتا حضارية مصرية جديدة، تلتحم جنوبا بواد جديد مواز لوادى النيل فى صحراء مصر الغربية هو ممر التنمية الذى دعا إليه العالم المصرى الدكتور فاروق الباز.
أتحدث هنا عن مشروع «منخفض القطارة» القومى العملاق.
< < <
منخفض القطارة، يبدأ جنوب العلمين بنحو ١٠٠ كيلومتر، ويمتد بطول نحو ٢٩٨ كيلومتراً، ويبلغ عرضه عند أوسع بقعة نحو ٨٠ كيلومتراً مربعا.ويتراوح عمق المنخفض فى معظم المناطق ما بين ٦٠ إلى ٨٠ متراً تحت سطح البحر، ويبلغ أقصى عمق له فى الجنوب نحو 133 متراً.
وتبلغ مساحة المنخفض وحدها أكثر من ٢٠ ألف كيلومتر مربع أى ما يعادل ثلث مساحة سيناء، وضعف مساحة لبنان، وما يساوى مساحة فلسطين التاريخية (الضفة وغزة وإسرائيل).
 فكرة المشروع باختصار شديد تقوم على شق قناة من ساحل البحر المتوسط لتصب فى منطقة منخفض القطارة، لتوليد الكهرباء، وتحلية مياه البحر، لرى مئات الآلاف من الأفدنة، وإنشاء مدن وتجمعات زراعية وصناعية وتعدينية وسياحية حول المشروع فى اتجاه الغرب والشرق، وذلك كله فى إطار مشروع ضخم لتنمية المنطقة الممتدة من جنوب العلمين إلى جنوب السلوم عمرانيا واستغلالها فى الاستصلاح والزراعة والسياحة والتعدين لاستيعاب ٣٤ مليون نسمة خلال ٤٠ عاما قادمة.
< < <
أول دعوة لإنشاء مشروع لتوليد الكهرباء بمنخفض القطارة، أطلقها البروفيسور الألمانى هانز بانك أستاذ الجغرافيا بجامعة برلين عام ١٩١٦، ثم نشر البروفيسور البريطانى جون بول وكيل الجمعية الجغرافية البريطانية دراسة عن المشروع فى عام ١٩٣١، وحينئذ تلقف حسين سرى باشا وكيل وزارة الأشغال الدراسة وعرضها على المجمع العلمى المصرى.
 وكانت فكرة المشروع فى ذلك الحين تقوم على تحويل مجرى النيل ليصب فى منخفض القطارة بدلاً من فقدان المياه التى تصب فى البحر المتوسط (قبل بناء السد العالى) لتكوين بحيرة مياه عذبة فى المنخفض لتصبح خزاناً مائياً ضخماً، وزراعة المنطقة الصحراوية المحيطة بالمنخفض والاستفادة من البحيرة كمزرعة سمكية كبرى. أما التمويل، فقد  تحدد على ركيزة بيع الأراضى المحيطة بالمنخفض لتدبير تكلفة المشروع.
< < <
على مر العقود التالية.. تحولت فكرة المشروع إلى شق قناة من البحر المتوسط إلى المنخفض  جزء منها مكشوف وبعض الأجزاء مغطاة، وجرى طرح الفكرة عدة مرات، وتحديث الدراسات  الخاصة بالمشروع، لترتكز على إنشاء محطات مائية لتوليد الكهرباء بالمنخفض، اعتماداً على فرق المنسوب بين سطح البحر المتوسط ومنسوب البحيرة التى ستتكون بالمنخفض، وكشفت الدراسات أن منسوب البحيرة سيظل ثابتا عند ٥٠ متراً تحت سطح البحر، حيث ستتعادل كميات المياه المتدفقة من البحر المتوسط إلى المنخفض مع كميات المياه المتبخرة من البحيرة.
فى العهد الملكى أعدت مصلحة الجيولوجيا دراسة تفصيلية عن المشروع عام ١٩٣٣.
وفى عهد الرئيس عبدالناصر.. أعدت شركات ألمانية غربية دراسات ميدانية عن المشروع عام ١٩٥٩ أثناء البحث عن البترول، وفى العام التالي، حبذ بيت خبرة ألمانى شق القناة التى ستربط البحر بالمنخفض عن طريق التفجير النووى وقدرت التكلفة بأسعار تلك الفترة بنحو ١٣٠٠ مليون دولار.
وفى عهد الرئيس السادات، قام بيت الخبرة الألمانى (لا ماير) بإجراء دراسات جدوى للمشروع من عام ١٩٧٤ إلى عام ١٩٨٠.
وفى عهد الرئيس مبارك.. أجريت دراسات جدوى أخرى بمعرفة بيت الخبرة السويدى (سويكو) استمرت حتى عام ١٩٨٥.
وأجريت أيضا دراسات خلال تلك الفترة عن التأثير البيئى للمشروع من ناحيتى الزلازل والمياه الجوفية.
كما أجريت دراسات عن التكنولوجيات الأنسب لتوليدالكهرباء من المنخفض، قدمها الدكتور ماهر قلادة، ودراسات أخرى عن  التنمية الشاملة  لمنطقة منخفض القطارة قدمتها مجموعة صحاري، والمجموعة النمساوية والدكتور سامح فايق متري، والمكتب الهندسى للمقاولات.
< < <
ومنذ تسع سنوات، ولمدة عدة شهور انعقدت اجتماعات تنسيقية بين ممثلى جهات الدولة المعنية برئاسة الدكتور مصطفى مدبولى وكان يشغل حينئذ منصب رئيس هيئة التخطيط العمرانى.
وخلصت المناقشات إلى تحديد ٥ سيناريوهات للتعامل مع منطقة المنخفض.
1ـ استخدام مساحة المنخفض بالكامل فى تخزين مياه البحر المتوسط وتوليد الكهرباء من قوة تساقط المياه على حافة المنخفض، مع تنمية المناطق المحيطة بالمنخفض سياحياً وعمرانياً وزراعياً على المياه الجوفية.
2ـ استخدام جزء من مساحة المنخفض فى تخزين مياه البحر المتوسط وتوليد الكهرباء من قوة تساقط المياه على حافة المنخفض، ثم تحلية المياه من خلال الطاقة المتولدة من المنخفض أو الطاقة المولدة من الشمس أو الرياح، وتخزينها فى جزء آخر من المنخفض يمكن استخدامها فى الزراعة داخل وحول المنخفض، مع تنمية المناطق المحيطة على المياه الجوفية والمياه المحلاة.
3ـ استخدام جزء من مساحة المنخفض فى تخزين مياه البحر وتوليد الكهرباء من قوة تساقط المياه على حافة المنخفض، ثم تحلية المياه وتخزينها فى جزء آخر كمياه عذبة لاستخدامها فى الزراعة، وعمل قنوات لارجاع المياه المالحة الفائضة عن التحلية الى البحر المتوسط مرة أخرى لتجديدها مع تنمية المناطق المحيطة سياحيا وعمرانيا على المياه الجوفية والمحلاة.
4ـ عدم استخدام المنخفض كخزان للمياه وتنمية أجزاء منه ومن المناطق المحيطة به زراعياً وعمرانياً وسياحياً على المياه الجوفية والمصادر غير التقليدية أى تحلية مياه البحر دون استخدام المنخفض والاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة وغير التقليدية كالطاقة الشمسية ومحطات الرياح.
5ـ تحلية مياه البحر عن طريق استغلال فرق المنسوب عند حافة المنخفض، أى استغلال الضغط الناتج من فرق المنسوب وضخ المياه مباشرة فى مواسير واستخدامها فى أغراض التنمية المختلفة مع استخدام الأملاح الناتجة عن عملية التحلية فى الأنشطة الصناعية.
وأجمعت الآراء على أن منطقة منخفض القطارة لديها من الموارد والمقومات ما يؤهلها لتكون إحدى المناطق ذات الأولوية للتنمية على مستوى الجمهورية، وانتهت إلى أن السيناريو الرابع هو أقل السيناريوهات مخاطرة وتكلفة وأسرعها من حيث العائد، وبالتالى فهو المرجح كمرحلة أولى فى التنمية على المدى القصير، يليه السيناريوهان الثانى والثالث على المديين المتوسط والبعيد.
ورئى أن تضاف إلى السيناريو الرابع مجموعة من الاعتبارات والمقترحات، تشمل إعداد دراسات متخصصة فى مجال المياه الجوفية لتنفيذ هذا السيناريو بما لا يؤثر على المخزون الجوفى، وإمكانية استخدام مسطح المنخفض لتوليد الطاقة الشمسية، وقيام الوزارات المعنية بإعداد دراسات لتقييم الأثر البيئى تجنباً للكوارث والعديد من المشاكل، وسرعة تحديد الأماكن المقترحة للزراعة بشكل أكثر تفصيلا، حيث أشارت هيئة مشروعات التعمير والتنمية الزراعية إلى وجود ٤ مشروعات فى منطقة المنخفض هي: جنوب شرق المنخفض (٢٥٠ ألف فدان)، جنوب المنخفض (٥٠٠ ألف فدان)، مشروع المغرة (٢٣٠ ألف فدان)، مشروع استصلاح وزراعة ٧٢ ألف فدان فى الواحات البحرية.
واتجه الرأى إلى البدء فى إعداد خطة  عمل تنفيذية مع اقتراح اختيار المنطقة جنوب وجنوب شرق المنخفض كنواة للتنمية المتكاملة بالمنطقة وكذلك المنطقة المحصورة بين الشريط الساحلى وشمال المنخفض.
< < <
بعد ٣ سنوات من تقرير مجموعة العمل التى ترأسها د.مصطفى مدبولى رئيس هيئة التخطيط العمراني، والذى تبنته اللجنة الوزارية المختصة بوضع الرؤية المستقبلية التنمية منطقة منخفض القطارة برئاسة وزير الكهرباء، صدر قرار مجلس الوزراء فى أغسطس ٢٠١٤ بالموافقة على توصيات اللجنة الوزارية، مع دراسة اختيار استشارى لإعداد مستندات طلب سابقة الخبرة تمهيدا لطرح مشروع تنمية متكامل للمنطقة على المؤسسات العالمية من أجل وضع دراسة جدوى متكاملة.
وفى ديسمبر ٢٠١٦، قرر المهندس شريف إسماعيل رئيس مجلس الوزراء تشكيل لجنة برئاسة الدكتور محمد شاكر وزير الكهرباء لدراسة فكرة مشروع ملء منخفض القطارة عن طريق شق قناة من البحر المتوسط، وسيناريوهات تنمية المنخفض ودراسات التأثيرات الايجابية والسلبية للملء.
وانتهى تقرير اللجنة إلى الاكتفاء بتنمية المناطق المحيطة بالمنخفض زراعيا وعمرانيا وسياحيا استنادا إلى المخزون من المياه الجوفية مع توفير مصادر الطاقة المتجددة.
< < <
وبعد مرور ٣ سنوات، على اعتماد هذه التوصية التى خلصت إليها اللجنة الوزارية، يبدو أن ثمة حاجة للنظر مجددا فى الدراسات الفنية ودراسات الجدوى لتجديدها، والنظر إلى المشروع من منظور شامل، يتجاوز فكرة كونه مشروعا لتوليد الكهرباء فى الأساس، ذلك أن لدينا فائضا من الكهرباء المولدة، فضلا عن وجود مشروع عملاق لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية فى الضبعة، مع عدم إغفال أن وجود الكهرباء فى نفس منطقة التنمية مسألة مفيدة وذات مزايا عديدة.
المنظور الشامل للمشروع والذى يتطلب وضع دراسات محدثة بالتعاون مع بيوت الخبرة العالمية، يستند إلى الاهتمام بتحلية المياه عند حافة المنخفض وليس من قناة المأخذ بساحل البحر المتوسط لتجنب تبخر مياه محلاة تكلفت مبالغ لتحليتها، كما يستند إلى الاهتمام بزراعة النباتات الطبية والمحاصيل الزيتية والمزارع السمكية والصناعات التعدينية، وإنشاء التجمعات السياحية والمدن السكنية.
ويدعم الاتجاه إلى تلك النظرة التنموية الشاملة، أن معظم الدراسات تؤكد عدم تأثر المخزون الجوفى بالملوحة التى قد تنتج عن دخول مياه البحر إلى المنخفض، وعدم تأثر المنطقة زلزاليا بضغط المياه على تنمية المنخفض. فضلا عن وجود وسائل فنية لإنشاء المشروع مع عدم الإضرار بالاتفاقات الموقعة مع شركات عالمية للبحث عن البترول فى تلك المنطقة حتى عام ٢٠٤٤.
< < <
هل هذا المشروع واعد للمستقبل، ومبشر للأجيال القادمة، وإضافة كبرى للمشروع الوطنى المصري؟!
الإجابة هى نعم، وسمعتها على لسان المهندس شريف إسماعيل مساعد رئيس الجمهورية الحالى ورئيس الوزراء السابق، والدكتور محمد شاكر وزير الكهرباء ورئيس اللجنة الوزارية المعنية بتنمية منخفض القطارة، والدكتور عاصم الجزار وزير الإسكان والرئيس السابق لهيئة التخطيط العمراني.
لكن نعم.. مشروطة بتحديث دراسات الجدوى بالتعاون مع بيوت الخبرة العالمية، وإجراء دراسات مستفيضة تضع المشروع فى نطاق تنموى واسع يتخطى مسألة كونه مشروعا لتوليد الكهرباء بالأساس.
وظنى أن السنوات الأربع المقبلة، ستشهد وضع المشروع على مساره الأنسب للتنمية .

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة