إبراهيم سعدة.. أسطورة الصحافة

ممدوح الصغير

الإثنين، 14 ديسمبر 2020 - 07:02 م

ممدوح الصغير

قبل وصول عقارب الساعة للثامنة  صباحًا، يُتابع المارة فى شارع  الصحافة، فى أواخر سنوات القرن الماضى، مرور سيارة أسطورة الصحافة العربية الكاتب الصحفى  الراحل إبراهيم سعدة، الذى ورث من الحياة الأوربية النوم  والاستيقاظ المبكر، بخلاف العديد من الصفات الجيدة فى حياة الأوربيبن؛ مثل حب الاطلاع والانفتاح على ثقافات الغير. فى نفس هذه الحقبة الزمنية منذ عامين، رحل الكاتب الكبير إبراهيم سعدة، بعد صراع قاسٍ مع المرض، الذى نجح فى افتراس الرجل القوى، وكانت الأمنية الوحيدة له أن يموت ويُدفن فى مصر، وتحقق له ما أراد، حيث خرج جثمانه من المكان الذى أحبه، وشهد سنوات مجده، خرج الجثمان من مؤسسة أخبار اليوم خلفه آلاف العاملين.  لم يكن إبراهيم سعدة مفوَّه الكلام، كان خجولاً، وهذا الشىء من صفات كبار النجوم، إذ قوته تكمن فى قلمه الذى يُربك ويُزعج حسابات الجميع.. كبار المسؤولين يُقلقهم نقد كلماته، فهو يملك قلمًا أشبه بمشرط جراحٍ ماهر، لا يعرف التفرقة، ويُنصف صاحب الحق. الحظ أحيانًا يُصاحب المجتهد، فبعد أن تولى رئاسة تحرير أخبار اليوم، قبل أن يُكمل الـ40 عامًا، راهن على الشباب، ومنحهم الفرصة   للتألق، وكانت الإجادة، وربح رهانه، فصار الشباب نجومًا يعرفهم الشارع، فى ذلك الوقت كانت أخبار اليوم لها نكهة خاصة ينتظرها القارئ، تُسعد البسيط، وتُزعج الوزير. أى كاتبٍ له معارضين فى الرأى، عدا الراحل سعدة، كانوا المعارضون يعتبرون مقالاته تُعبِّر عن حالهم، وتُساعدهم فى أداء واجبهم، فلقد كان قلمه جرئيًا  لا يعرف المهادنة،  ولا يرضى بأنصاف الحلول. من الحكم المأثورة، أن الشخص قليل الكلام، صاحب هيبة تخشاه العامة، وهذا كان واقع حال الكاتب الراحل إبراهيم سعدة، فهو يعلم تمامًا أن الله منحه القوة، عبر قلمه الساحر، وأنه ليس خطيبًا سوف يُسحر الناس بكلمات تخرج من لسانه، لذا لم يكن يُحب الظهور الإعلامى رغم شهرته العريضة التى تخطت عالم البحار. عند وصوله لمكتبه، كنا نرى حالات الترقُّب لمروره، رغم أنه لا يختال بنفسه، كان يمر علينا صامتًا، وجميعنا يراه المسؤول القوى، ذا الهيبة المخيفة، لكن قلبه نقىٌّ لا يعرف الكره والبغض، حنونًا مع من  يعرفه، ناصحًا بصدقٍ لمن أحب. كان أبناء جيلى سعداء الحظ، بأن القدر منحهم الفرصة للعمل والتعامل معه، فمن تعامل معه عن قُربٍ، ورأى الصورة الحقيقة لشخصيته، يُقسم  بأنه آخر  أساطير الصحافة فى العصر الحديث، لأنه كان غيورًا على المهنة، يرفع من شأن يعمل معه، ويدافع عن محرريه باستمانة لو كانوا أصحاب حقٍ مهما كان اسم المسؤل الكبير الذى يُواجهونه. إبراهيم سعدة مغامر لا يعرف التردد، ففى مطلع تسعينيات القرن الماضى، أصدر جريدتى أخبار الحوادث والنجوم خلال 6 أشهر، وهما إصداران كبريان، إجمالى طبعمها الأسبوعى كان يُقارب المليون نسخة، إذ سعدة لم يُصدر مجلات  عالية التكاليف، بل أصدر صحفًا واسعة الانتشار، لأنه مؤمنٌ بأن الثقافة والمعرفة، جزءٌ أصيلٌ فى بناء الأمم، وأن الصحافة والمعرفة، أهم أدوات القوة الناعمة، ولمن لا يعرف، فمطبوعات أخبار اليوم لم تكن تُوزع بمصر فقط، بل كانت العواصم العربية تُطالع إبداع محررى أخبار اليوم، بعد ساعاتٍ قليلةٍ من طباعتها بالقاهرة. أعتبر شباب الصحفيين فى زمننا الحالى قليلى الحظ؛ لأنهم لم يمنحهم القدر فرصة التعامل عن قُربٍ مع شخصياتٍ قريبة الشبه من أسطورة الصحافة العربية إبراهيم سعدة، وصحافة القرن العشرين كانت زاخرة بالنجوم، كما أن الشباب كان فيها نجومًا صاعدة، وللأسف  الرموز والنجوم فى وقتنا الراهن  عددهم لا يتجاوز أصابع اليد.. فى  أواخر سنوات القرن العشرين كان  موزع الصحف قارئًا يُتابع مقالات كبار الكتاب ويعرف مواعيد نشرها، وفى المقدمة المقالات المميزة التى ينتظرها الملايين، وكان الموقف السياسى الحدث الأهم فى صدر  الصفحة الأولى من أخبار اليوم، وكانت الدولة أيضًا ترد على الانتقادات الغربية بأن حرية الرأى ليست كبيرةً، فكانت تُرسل مقالات  رئيس تحرير أكبر مطبوعة فى الشرق الأوسط ينتقد الحكومة بقسوةٍ كل أسبوع، بحرية مطلقة دون توجيه لومٍ له.  رحم الله إبراهيم سعدة.. وحفظ مصرنا ورموزنا.