النسبية الضائعة
الإثنين، 08 فبراير 2021 - 02:25 م
بوابة أخبار اليوم
العام هو العاشر على ثورة يناير التى هى أعظم ما مر بالبلاد منذ ثورة 1919 رغم كل ماجرى. وجدت نفسى عازفا عن الدخول فى مناقشات عن كيف ولماذا ضاعت الثورة فلا أحد سيقتنع، لكن المهم أن الغالبية من مرتادى مواقع التواصل الاجتماعى قرروا أكثر من كل عام نشر صور، والحديث عن ذكريات من أيام الثورة، خاصة الفترة من 25 يناير إلى 11 فبراير يوم تنحى مبارك عن الحكم. بدا لى الأمر وهو حقيقة، أن استرجاع هذه الأيام وصورها، هو اقتناع بأن الثورة لم تمت، وأن عشر سنوات فى عمر الشعوب شىء بسيط، على عكس ما هو فى عمر الفرد. لكنى وجدت ناقدا يتحدث عن الثورة وكيف دفعت إلى السطح فى الحياة الثقافية بأنصاف الموهوبين فى الشعر والرواية والقصة، وأن الثورة كانت سببا فى شيوع التافه من الأشعار وغير ذلك. أثارنى الحكم لكنى لم أفعل كغيرى وأتهمه بأى شىء، بل قلت مفترضا فيه حسن النية كعادتى ، ربما هو فى غيظ من الإنتاج الساذج الذى يحاصرنا، رغم أنه يشير إلى آليات الفضاء الافتراضي، وما تسببت فيه من أشكال جديدة متسرعة للكتابة، لكنه من ناحية أخرى اعتبر أن الثورة هى السبب. كان عليه أن يلتفت إلى ماهو حقيقى من إنتاج رائع، لكنى بعدت عن النقاش وأخذت أتذكر كم الروايات والقصص القصيرة الجيدة والممتازة التى ظهرت بعد الثورة، وكم القصائد والدواوين، وكم الأغانى والفرق الغنائية الجديدة، وكم الأفلام القصيرة التى وجدت طريقها. أخذنى الموضوع إلى قضية أوسع وهى المطلق والنسبى فى الحكم على الإبداع الإنساني. عندما نقول مثلا إن ثورة 1919 انتجت جيلا عظيما من الغناء والموسيقى على رأسه سيد درويش، ومن المسرحيين مثل نجيب الريحانى وغيرهم كثير جدا، وجيلا من كتاب الرواية والقصة مثل يحيى حقى وكتاب المدرسة الحديثة، فهذا يعنى أننا ننظر إلى الأثر الجيد للثورة كمفصل تاريخى فى حياة الأمم. لكن إذا نظرنا إلى الكباريهات والأغانى الجنسية والتافهة التى كانت واستمرت فى الملاهى الليلية، واعتبرنا أن هذا من إنتاج الثورة فهذا هو الخطأ الكبير. أعرف أنه ليس معنى أن تنتج الثورة الجميل فى الإبداع أنها ستمنع غيره، لكن هنا لا يجب أن يكون غيره وهو نسبيا قليل قياسا على الأفضل، هو العلامة الوحيدة على الثورة. المقياس هنا هو الفن لا ما تتيحه الآن صفحات الفضاء الافتراضى أو حتى الشاشات التليفزيونية التى تبحث عن متابعين. هذه يمكن أن تخدع الإنسان العادى لكن لا يجب أن تخدع الناقد. فضلا عن أن المجتمع لايمكن أن يكون كله على وتيرة واحدة، فالمهم هو الكم الجيد والكم الردىء، وغض البصر عن الجيد يفتح الطريق للردىء ويجعله يتصدر المشهد حتى لو انتقدته. الفنون ينتجها بشر وليس آلات تعطيها الأوامر أن تنتج ما تريد الثورة أو غيرها أو حتى الحروب. وعلى ذكر الحروب، كم رواية مثلا أو مسرحية أو فيلما انتجته حرب فلسطين أو حرب 1956 أو حرب 1967 أو حرب 1973وبينها حرب اليمن وجاءت كلها فى مستوى فنى عال؟ هل انخفاض مستوى بعضها سببه الحروب أم قدرة صانعيها ومواهبهم؟ روايات وقصص جيدة كانت عن الهزائم أكثر مما هو عن النصر فهل يعنى ذلك أن الحروب أتت لنا بكتاب لا قيمة لهم؟ على العكس روايات الهزيمة ممتلئة بالإنسانية وبروح القتال عند أبطالها رغم فشلهم.. أحداث كبرى مثل ثورة يوليو 1952 لم تنتج أكثر من أعمال أدبية قليلة عن الثورة وأفكارها وجاءت فى معظمها أقل قيمة من غيرها فهل كانت الثورة السبب أم قدرة الكاتب؟ معظم الأعمال استمرت فى طريقها لا تتوقف عند الحدث، أو كانت عن الفترة السابقة، وأكثرها حين دخلت إلى حدث الثورة لم تهلل للاشتراكية ولا القطاع العام ولا الإصلاح الزراعي، وأعظم ماكتب عن الصحافة مثلا كان عن الرقابة والرقيب وسقوط كثير من الأقلام . كُتب عن ذلك وتم تحويله لأفلام، والأمر نفسه عن المعتقلات وما جرى فيها، لكنا لم نر الكثير من هذه الأعمال إلا بعد هزيمة 1967 وكان كل مانراه قبلها أو معظمه تمجيداً فى الثورة وكان ردىء المستوى فهل كانت الثورة السبب فى الرداءة أم قدرات كتاب وفنانى هذه الأعمال. كما لا يمكن أن تنسب الأعمال الأخرى الجيدة عن انتقاد الثورة إلى الثورة المضادة . كل ما فى الأمر أن العالم كان ضيقا لا يسمح بظهور الانتقاد. وما حدث بعد ثورة يناير من تصدر المشهد للغث من الأشعار مثلا أو القصص هو من انتاج الفضاء الافتراضى الذى يتصور من يكتب فيه أن الجميع سيصدقونه، ومن انتاج البرامج التى تبحث عن مشاهدين ساذجين، بمعنى طيبين. يجعلنى هذا التفكير، وهو النظر من زاوية واحدة، أتساءل لماذا تشيع كثيرا النظرة الكلية فى أمر هو نسبى تماما؟ هذه النسبية التى للأسف تصبح حكما مطلقا كانت وراء حركات أدبية كثيرة، أبرزها حركة ماسمى بجيل الستينيات التى اعتبرت التجديد بدأ معها بينما التجديد بدأ منذ ثورة 1919 مع يحيى حقى والمدرسة الحديثة، ومع شخصيات أدبية مرموقة سبقت الجميع وحدها مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف الشاروني. لا يعنى هذا أن الستينيين لم يعرفوا التجديد، بل عرفوه بقوة أو على الأقل أكثرهم لأنهم كانوا أبناء مرحلة تغير كبير فى كل العالم، وكانوا جيلا لكثرتهم، وربما لعدم انفراد أحدهم عنهم بل هم الذين ساووا بعضهم ببعض وهذا غريب لا يتسق مع تفرد الكاتب أو سعيه إليه. هذا فى القصة والرواية. أما فى الشعر فحدث عن صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازى قبلهم، وأما فى المسرح فحدث عن الكثيرين من المجددين لم يكونوا من كتاب السيتنيات مثل سعد الدين وهبة وألفريد فرج ونعمان عاشور ويوسف إدريس وميخائيل رومان وغيرهم
. أكرر أنى لا أقصد من هذا أن الذين انفجروا فى الستينيات لم يكونوا مجددين ، لكن أقصد أنهم نسبوا التجديد إلى أنفسهم فقط، وهكذا صارت النسبية هى المطلق فى الأحكام النقدية الشائعة، وصارت بعدها طريقا للدراسات جعلتهم قرية وحدهم. صار النقد يجعل لنفسه حديقة يدخلها سعيدا غير ملتفت إلى الحدائق الأخرى والأشجار القديمة والجديدة التى لا تتوقف ظلالها على الحياة. بالتاكيد هى عملية أسهل أن يظل عملك النقدى فى إطار عدد قليل من الأشخاص، لكن لا يعنى ذلك أن تعتبر ماتفعله نهائيا، وإذا كنت أستاذا فى الجامعة تقوم بتدريسه على تلامذتك باعتباره المطلق. من حقك أن تريح نفسك لكن اترك الآخرين يتعبوا. استمر أمر الراحة فتم تصنيف كتاب بالسبعينيين والثمانينيين والتسعينيين وهكذا، وأنا لا أراه إلا راحة فى البحث حتى إنى كثيرا ما أضحك على تصنيفات من نوع أن الكتاب الشباب يتميزون بكسر التابوهات وأتذكر يحيى حقى ويوسف إدريس ونجيب محفوظ وغيرهم. أو بالكتابة عن المهمشين وأتذكر خيرى شلبي. أتفهم الخلاف حين تحدثنى عن طرق الكتابة لا موضوعاتها. على الناحية الأخرى لم أقرأ دراسة عن تطور أساليب الكتابة عند أعلام أى جيل، أو ما اعتدنا أن نسميهم جيلا، مستفيدين من تغير مظاهر الحياة حولهم، وكيف فعل من بعدهم بما فرضته أساليب الحياة الجديدة وظواهرها. لقد تحدثت كثيرا أن الأجيال هى بنت الأحداث الكبرى، ولا أرى حدثا موازيا لما جرى فى الستينيات فى كل العالم غير ثورة يناير 2011 وما سمى بالربيع العربى .لكن تم اختصارها بالردىء من الشعر أو الأدب الذى تفسح له القنوات التليفزيونية شاشاتها أو الفضاء الافتراضي. فصار النسبى هو المطلق، وصارت القنوات التليفزيونية ومواقع الفضاء الافتراضى هى الثورة، وهذا والله خطأ كبير، لكنه كما قلت ليس جديدا علينا فهو مريح.