رجائي عطية
رجائي عطية


مدارات

مصر وفجر الضمير.. ومسئولية الحاضر

رجائي عطية

الجمعة، 14 مايو 2021 - 07:26 م

لست أعرف، وذلك محال، أعداد من قرأوا كتاب : «فجر الضمير» الذى ألفه جيمس هنرى بريستيد، وترجمه للعربية عالم المصريات الكبير الدكتور سليم حسن، ولكنى أستطيع أن أحدس أن من لم يقرأوه كثيرون، أجزم بذلك بما أحسه من تراجع القراءة بعامة. معظم الناس يفضلون الكلام واللغو فيه على تعب القراءة والتأمل. لست عن العامة أتحدث، وإنما لاحظت ذلك فيمن يدرجون فى عداد المثقفين، فصارت الثقافة محض « حلية » يتمسح فيها الراغب فى اللقب.. لقب المثقف، دون أن يكلف نفسه عناء التواصل الحقيقى مع دنيا الثقافة وما تحفل به !! 
هذا الكتاب إقرار موثق بسبق الحضارة المصرية وأثرها على العالم. ظنى أنه أعظم ما يمكن أن يزجى لمثقف راغب فى فهم الحياة ونشأت الأخلاق وتطورت الديانات من عبادة ظواهر الطبيعة إلى أن اهتدى إلى وحدانية الله. هذه الرحلة الطويلة المفعمة بالعبر، قد جرت فى مصر التى يراها المؤلف « جزيرة المنعمين ». 
مؤلف الكتاب محب لليهود، وعلى صداقة وطيدة بكثيرين وبذوى المكانة منهم، يسجل ذلك من البداية ليؤكد أن ما اهتدى إليه بحثه ليس نابعا عن معاداة للسامية، وإنما هو انصياع للمنهج العلمى وما هداه إليه. 
يكشف المؤلف كيف فى البداية اعتراه القلق حين أظهرت التجارب أن المصريين كان لهم مقياس خلقى أسمى بكثير من الوصايا العشر، وأن هذا المقياس ظهر قبل أن تكتب الوصايا العشر بألف سنة ! وكيف تجلى له فى كشفه العظيم أن حكمة « أمينمو بى » المحفوظة فى ورقة مصرية بالمتحف البريطانى، كانت قد ترجمت إلى العبرية فى الأزمان الغابرة، وأنه بذيوعها فى فلسطين صارت مصدراً استُقِىَ منه جزءٌ بأكمله من كتاب الأمثال فى العهد القديم.. لا يتردد « بريستيد » أن يسجل من حصاد بحث طويل : « إن التقدم الحضارى فى الممالك التى تحيط بفلسطين كان أقدم بعدة آلاف من السنين من التقدم العبرى، وأنه أصبح الآن من الواضح الجلى أن التقدم الاجتماعى والخلقى الناضج الذى أحرزه البشر فى وادى النيل الذى يعد أقدم من التقدم العبرى بثلاثة آلاف سنة، قد ساهم مساهمة فعلية فى تكوين الأدب العبرى الذى نسميه نحن « التوراة »، وعلى ذلك فإن إرثنا الخلقى هكذا يقول بريستيد  مشتق من ماض إنسانى واسع المدى أقدم بدرجة عظيمة من ماضى العبرانيين، وأن هذا الماضى لم ينحدر إلينا من العبرانيين، بل جاء من المصريين ». 
مصر هى مهد الحضارة وأصل مدنيات العالم، ومنبت نشوء الضمير، والبنية الأولى التى نمت فيها الأخلاق، وهو ما وثقه الأستاذ عباس العقاد فى كتابه عن أسبقية الحضارة العربية على الحضارة اليونانية والعبرية. 
هكذا كانت مصر التى بزغ فيها المسيحية والإسلام، واتسعت باحتها لتتآخى الأديان فيها وتتعايش ولا تتصارع.
كتبت كثيرًا عن الجماعة الوطنية، وجمعت ما كتبته فى كتاب صدر سنة 2008، ثم أعيد نشره، بعنوان « الوحدة والجماعة الوطنية »، ضم فصولاً عن الإسلام واحترامه كافة الرسالات، وعن سماحة المسيحية، وعن كون الأديان « هداية، لا أمجاد »، وبراءة الأديان وبنيانها وتعاليمها من أسباب الاحتقان، وإنما تأتى السحابات من خارج الدين، وكيف ثبتت الوحدة الوطنية فى مصر أمام أقوى الأعاصير، كما ضمت فصلاً عن « محبة المسيح » فى نسيج الإسلام والمصريين. 
هذه هى مصر التى نعيش فيها، وتعيش فينا. مهدًا فى السالف والحاضر للحضارة، ومنبت نشوء وحياة الضمير.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة