سليمان نجيب يشتبك مع معدته فى مقال يكتبه لآخر ساعة من لندن

الطعام فى حياته كان له شأن عظيم - سليمان نجيب يكتب حواره مع معدته

الأربعاء، 23 يونيو 2021 - 05:31 م

عاطف النمر

سافرت إلى لندن لأكون ضمن رعايا المستر " ليف " المعالج الطبيعى الذى لا شأن له بالطب ولا دخل له فيه، لأنه يعالجك علاجا لا علاقة له بالجراحة أو الدواء، دار بديعة فى ريف إنكلترا النظيف الهادىء أطلق عليها "دار ليف للعلاج الطبيعى"،أعدها بحماماتها ومدلكيها وحقنها ونجح نجاحا لا مثيل له، والدليل القاطع على هذا أننى أحجز فى ينايرغرفتى التى سأنزل فيها فى شهر أغسطس، وفى أوروبا مدن عديدة يذهبون إليها ليتركوا وراءهم الزائد من وزن الجسم ويعودوا إلى طبيعته وينظفوا المصارين الغلاظ ويعود إليهم نشاطهم وبريق عيونهم، فى تشيكوسلوفاكيا مثلا كارلسباد ومارينباد، وتحضرنى أبيات ستة فى وصف مارينياد من شعر الأديب السيد حفنى ناصف فقد كان بدينا يحتاج إلى علاج مارينياد كل عام تقريبا فقال طيب الله ثراه " ارجعوا لى يا غيد مارينياد، مهجتى قبل عودتى لبلادى، أننى شددت رحلى وأهلى فى انتظارى فأطلقوا لى فؤادى، حدثوا أن فى حماكم عيونا، تذر الناس ضامرى الأجساد، صدقوا أنها عيون ولكن، كحلت منذ خلقها بسواد، جنبونى ذكرى العيون فقلبى، فى ارتعاش من فعلها وارتعاد ". ونعود إلى حديث الجوع والصيام والإستشفاء فى فرنسا فنجد فيشى وفيتل وبريد ولكن شتان ما بين هاتيك جميعا وهذا العلاج الطبيعى العظيم الذى أساسه الصيام،أساسه القول المشهور "جوعوا تصحوا" قوامه الحديث الشريف" نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع " ودعامته "المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء"، وعلاقتى بهذا النوع من العلاج قديمة، فقد عرفته من رئيسى العظيم على ماهر أيام كان وزيرا للعدل، إنه يؤمن به وبفائدته ولا يزال يسيرعلى الكثير من سننه أما أنا فلم أجربه إلا بعد الحرب الأخيرة، وبدأت علاج السبوعين وأنا اعرف ما سألاقيه، عشرة أيام أعيش فيها على عصير برتقالتين ظهرا ومثلهما فى المساء مع بروجرام بديع تناولتنى فيه يد المدلك يوما وحقنة المصارين يوما آخر وبطاطبن الحمام التركى فى اليوم الثالث، ومر اليوم الأول على خير، والثانى أيضا، ثم سمعت بطنى تقرقر ومعدتى تحاول أن تتكلم، ولم أعرها أى إهتمام، لم أحاول أن أفاتحها بالحديث، بل تركت ذلك لها، المعدة حين تتكلم أو تحتج فصيحة قوية الحجة ولم يقولوا الجوع كافرعبثا، وكاد اليوم الثالث يمر بسلام ولكنى شعرت ببدء العاصفة، فقد خيل إلى أنها تحاول بعد أن قرقرت واحتجت دون فائدة، خيل إلى أنها تريد أن تنكمش أكثر مما انكمشت لتصعد القناة الموصلة إلى فمى لتحادثنى وجها لوجه، فقلت لنفسى وبصوت مسموع : - " الله.. وبعدين بقى.. يعنى ما فيش تضامن ولا إيه ؟ "، وخيل إلى أنها استقرت وهدأت. وخجلت أن تكون شاذة عن بقية الأعضاء التى ضايقها الصيام والجوع، وبينما أنا أقرأ جرائد القاهرة التى وصلتنى مع بريد الصباح وقد كاد اليوم الرابع أن يمر بسلام وإذا بها تطل من ناحية فمى وهى تقول بصوت الذى أنهكه الجوع : " جرى إيه يا أخينا ! ماذا حدث ؟ لقد صمنا رمضان سويا فى القاهرة، صمنا ولكنا كنا نفطر عند الغروب، وأشهد أننا كنا نفطر باعتدال، فماذا حدث ؟ رمضان آخر بعد ثلاثة اشهر؟ هذا ليس من العدل فى شئ ". - " تقول ماذا ؟ أنك لست مريضا لتعيش على عصير4 برتقالات فى اليوم وأنا لا أحتمل هذا". - مالى أنا والسيد توفيق رحمه الله، لقد قلت لك أنت لست بالمريض، إنك تسير فى الحديقة بخطى متزنة وتنزل المدينة فتسير على قدميك ساعة وأكثر، فهل هذه علامات المريض ؟ - هذا ليس بعدل، عصير برتقال فقط، مفيش لقمة، مفيش حتة جبنة أوعنقود عنب مثلج لذيذ ؟ - يعنى أنك تريد أن تخرق بروجرامك وتنسى عهدا قطعته على نفسك، وعلى فكرة إلى متى ستدوم فترة صيامك العجيب هذا ! - ستة أيام ؟ ! لقد تعودت شخصيا عليها وأصبح عدم الأكل عندى أمرا عاديا. - يا عزيزى أنت تعذبنى شتاء بنهمك وإكثارك وتعذبنى صيفا بهذا الصيام الذى لا يحتمل، فهل من إعتدال يحفظك ويبقى على؟ هل من معاهدة شريفة اكتفى منك فيها بكلمة شرف أنك تحافظ على وزنك هذا وإنك إذا أكلت لا تشبع. لم أخرج من صمتى بلا أو بنعم، لذت بالصمت مفكرا وقلت لنفسى أن الحق معها ولكن، ولكن البقية الباقية من العمر بعد الستين تستحق العناية فليس الجسم ولا المعدة ولا الكبد فى صلابتها أيام كنت تمرح فى سن العشرين أو الثلاثين، وكما تحتاج قدمك إلى يدك ويدك إلى عصا تتوكأ عليها فى شيخوختك،هكذا تحتاج أداة الحياة فى باطنك معدة وكبدا ومصارين، إلى مساعد يأخذ بيدها حتى تسكن ثورة هذه الحياة، وهذا المساعد هو الإعتدال، دارت كل هذه الافكار فى مخيلتى واقتنعت بها والتفت إلى هذه المعدة المسكينة التى قاست من الهضم والعمل ستين عاما وقلت لها وأنا مبتسم وهادىء سليمان نجيب "اخر ساعة" - 8 أكتوبر 1952