فى متاهة الإسكندرية.. لعلاء خالد.. نشوة رواية الحياة
الأحد، 03 أكتوبر 2021 - 09:13 ص
آخر ساعة
سلمى قاسم جودة تكتب
عشقت التيه عبر شرايين الزمن.. عبر الشوارع المبللة برذاذ المطر.. رحيق البحر، الملح والخيال يغمر المدينة الكونية.. يزف ذاكرة الشوق، فالكلمات تومض بعبقرية لتبعث ما كان من خلال الرواية البديعة "متاهة الإسكندرية" للأديب والشاعر علاء خالد، الصادرة مؤخرا عن دار الشروق، هنا فى الإسكندرية عاصمة الحنين الإنسانى تتجلى متاهات الحياة، الموت، الرغبة والفنة والحياة لا تعنى التحقق، والموت لا يعنى الغياب، والحب لا يعنى الدوام.. والتلصص على الزمان والمكان عبر النوافذ المغبشة، فناجين القهوة، العيون، وعدسة الكاميرا، ريشة وألوان، وظلال الفنانين تكتنز الخلود.. النص عامر بالصدق برهافة الحس، الشاعرية والعمق، والقدرة على الولوج إلى عورات الروح، وأذكر عبارة ماركيز: "إن الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، ولكن مايتذكره وكيف يتذكره ليرويه".:
انعكاسات مرايا الزمن المدغل يتصابى تارة ويتغضن تارة، يهدهد ويصفع، يمنح القبلات واللطمات، فى ثناياه الحب والكره يجتمعان فى آن، ونصف الحقيقة دوما غائب.. "متاهة الإسكندرية" تحيلنى إلى "البحث عن الزمن المفقود" لبروست، فلا شيء يبعث الزمن ويمتلك القدرة على إحياء العدم سوى الإبداع، ويقول إبن عربى "الزمان مكان سائل .. والمكان زمان ثابت".. فتنتنى نداهة متاهة الأديب الاستثنائى علاء خالد، فوجدت نفسى أنتعل رمال الإسكندرية، أدلف إلى المقاهي، المطاعم، الفنادق، الأحياء الشعبية المشبعة بالرطوبة والحيطان المتهالكة، المناطق الراقية، مقهى على كيفك، كريستال، بوفيه فيليب، حديقة البوريفاج، سان ستيفانو، تريانون، إليت، ديليس، فلوكيجر، أنا الآن فى قلب ما يسمى سيريندبتى (Serindipity)، أى عندما تبحث عن شيء فتجد نفسك مأخوذا فى خضم شيء آخر.. تلك السيرة الروائية تتعرض لمرحلة التكوين لدى الشاب، هو الراوى وأيضا فرد فى شلة جمع بينهم الفن كوشيجة، ثم العشق، الغيرة، الكراهية، أحيانا العطب النفسى ثمرة التفاوت الطبقي، الراوى ابن الطبقة البورجوازية، عاش قصة حب وفراق مع سميحة، مصورة وفنانة تعشق الأشياء القديمة، وهناك ثائر، عاصم، محسن ابن طبقة البروليتارية والأب الكادح فى شركة الغزل والنسيج فى فترة الزعيم جمال عبدالناصر، سامى صاحب الحجرة الكونية والنافذة المطلة على دفق وألق الحياة والموت، إحسان ذات الجسد الفائر، المراود مشعل الشهوات الكامنة، المتربصة، يوسف وماريان مالكا الثروة البائدة بفعل التأميم، لتصبح ماريان مسئولة عن صالة عرض الفن التشكيلى (بهمان) وحبيبة الفنان سلامة والي، كاترين الفرنسية زوجة ثائر فيما بعد.. نبغ علاء فى صنع البورتريه الإنسانى لكل شخصية بعمق وعذوبة، ففى جمعية المكفوفين يدهشك القلم الغائر والتفاصيل للقاص فى تجسيد كاراكتر الأستاذ عطية الكفيف، المستغل منزوع الموهبة فى الكتابة، ولكنه يعانى من تضخم الأنا، ويضمِّد الراوى هشام الشفقة بالسخرية.. وسوف يداهمك فى آتون النص أن الإبصار لا يعنى أنك ترى ولا يعنى أنك امتلكت الوعى والبصيرة.. هو أيضا ينتمى مع الشلة (لجمعية الحمير)، فالحمار هو رمز للعمل الدؤوب والتضحية المزمنة.. يحيلنى النص أيضا إلى (المرايا) لنجيب محفوظ، تلك الومضات الثاقبة تتوغل فى غياهب النفس البشرية، تخلِّد شخصيات أثناء عبورها تحت وهجة الضوء السريع، الفاني، الرصيد الثقافي، الموسوعى شاهق الثراء للأديب، بزغ من خلال تعشيقة خلّابة تلقائية ليتماهى الخاص والحميم مع التراث الكوني، فتسترجع عيسى الدباغ فى (السمان والخريف) ومشهد محمود مرسى بجوار تمثال سعد زغلول، الفتوة.. حميدو الفارس يحيلك إلى عاشور الناجى فى (الحرافيش).. شفاعات تحية كاريوكا فى (شباب امرأة) اقتفاء أثر بنسيون (ميرامار) الأصلي، سيف وانلى يرسم بتنوة القهوة فى المطاعم، رأس ميدوزا وشعرها، أفاعى تسعى تزين بنايات الإسكندرية، (عودة الروح) (رباعية) داريل.. القبلات المتبادلة فى مقابر الإسكندرية (الكاتاكومب) مع سميحة والجنس فى منطقة وسطى بين الحياة والموت، ليذوب الزمان والمكان فأيروس وتاناتوس إله الجنس وإله الموت صنوان، ماكينة الحياكة (سينجر)، العود، بدلة عامل النسيج، صندوق الأرابيسك، حيث رفات والد يوسف، الأشياء باقية بعد زوال البشر.. يقول علاء: (الشارع مكان لتبديد الذكريات المؤلمة وسط الناس والصخب والزحام.. (الحياة مفاجأة)، أكبر من قدرة استيعابها وحصرها فى طريق واحد، الحياة لا يمكن فهمها إلا بالسير كالمجذوبين فى كل الطرق، لعل أحدها يحمل لنا العزاء والسكينة، وهذا يستدعى عمرا فوق أعمارنا، وثروة فوق ثرواتنا، وجبا وشفقة وحنانا، وقسوة فوق عمرنا وحبنا وقسوتنا وشفقتنا، ذائقة السير فى المدينة البحرية، شغف مشترك مع قائمة من المبدعين نيتشه.. سيمون دى بوڤوار ونجيب محفوظ..
أما ذاكرة الحواس، الرائحة والمذاق فبمثابة الدليل السحرى لاسترجاع الزمن، فيصف علاء حلوى (الكرافن) المزينة بالسكر ومكتظة بمربى المشمش بلون الشمس والذهب تحيلنى إلى الليسيه وطفولتى تماما مثل حديقة البوريڤاچ.. وأخيرا سطر الرائع علاء خالد: (الدفء هو المعنى الحقيقى للمطبخ بالنسبة إليّ، وعبر ثلاث نوافذ تقع خلفها عدة أشجار كافور معمرة، أرى الحياة بشكل مختصر، أمطارا، وأشجارا، وسماء، ونارا).. بجانب الروائح المتكررة التى تشعرنى بأنها واحدة من الأشياء القديمة للحياة التى لن تتغير).. أما الخاتمة فهى مربكة، فهناك وثبة زمنية ابتلعت سنوات، ولكن عادت الأحداث كتنويعة موسيقية تتكرر.