نصف حياة
الثلاثاء، 21 ديسمبر 2021 - 10:12 ص
آخر ساعة
تسللت أشعة الشمس إلى فروع الشجرة الكبيرة أمام شرفتى فزينت أوراقها كمصابيح مضيئة.. ملأ تلألؤها المبهر روحى فسرى فى نفسى إحساس بالتفاؤل والرضا.. شعرت أنها رسالة ربانية تحسم لى ترددى فيما كنت أفكر فيه.. أو ربما أردت قراءتها كما يحلو لى وترجمتها كما يتوافق مع ماكنت أنتوى عليه.
أعترف أن قرارى لم يكن سهلا علىَّ، لكنها الحياة تفرض علينا دوما الوقوف بين حين وآخر عند مفترق طرق.. تجبرنا على الاختيار والحسم لا تترفق بنا أو لا نترفق نحن بأنفسنا فنميل للحسم بما يريح مشاعرنا ولا نكترث كثيرا بما تمليه علينا ضمائرنا وعقولنا.
بحساب المشاعر كنت أرغب فى الموافقة عليه.. أحببته رغم ظروفه الصعبة المعقدة.. جذبنى بوسامته.. هيبته.. مركزه المرموق.. حضوره الطاغى.. وفوق ذلك مستوى مادى مبهر.. لم أكترث لحالته الاجتماعية.. لم يهمنى أنه متزوج من امرأة كان الكل يعرف أنه يحبها.. عشر سنوات من زواج تصورناه كلنا الأسعد.. لكنها لم تخل من ابتلاء.. لم يرزقه الله بطفل كان يحلم به طويلا.. وربما كان فى ذلك نقطة ضعفه التى تسللت منها أو انجذب هو إلىّ منها.
لا أعرف كيف وافقت على الاستسلام لمشاعر الحب التى تسللت إلىَّ لكن إعجابى الكبير به فتح لى الطريق على مصراعيه.. وبمجرد أن شعرت بميله لم أتردد فى تشجيعه.. لم أكترث بأننى أدمر مشاعر أخرى بينما أطلق لمشاعرى العنان.. وأهدم بيت أخرى لأقيم بيتى على أنقاضه.. أعترف أن شعورا بالذنب كان يداهمنى بين الحين والآخر لكن حبى له كان أقوى من أن يكتم كل صحوة ضمير.. وكان هو الأكثر حسما عندما صارحنى بأنه لن يتخلى عن زوجته وأن علىّ قبول وضعى كزوجة ثانية بكل تبعات ذلك الاختيار.. ووافقت بكل رضا ودون أى شروط.
تزوجنا وبعد شهور رزقنا الله بطفلة جميلة تشبه أباها كثيرا فكانت فرحته مضاعفة.. تعلق بها بقوة.. ملأت عليه كل حياته.. كان يخلق الأعذار لعدم الذهاب كثيرا للعمل ليقضى معها أكبر فترة.. قلل زياراته لزوجته الأولى.. لم يستطع أن يعود لتوازنه والنظام الصارم لحياته وعمله إلا بعد فترة طويلة.. أكثر من عام من السعادة لم يكدرها سوى إحساس بتأنيب الضمير يراوده يترجمه شرود أعرف ماوراءه جيدا.. حنينه لزوجته الأولى لم يغب لحظة عنه.. كنت أشعر بأنها الأقرب لقلبه ولمشاعره.. فزاد إحساسى بالغيرة منها.. كنت أحاول طمأنة نفسى بأننى أملك مفتاح سعادته.. فأنا من وهبته ابنتى قطعة منه كانت هى حلم حياته.
لم أعش فى أوهامى كثيرا فسرعان ماتدخل القدر ليسقينى من جنس عملى.. بعد سنوات من العقم كانت المفاجأة أن حملت زوجته الأولى.. وهنا كانت بداية الصدمة.. فرحة زوجى بخبر الحمل كان مضاعفا.. خوفه عليها طوال شهورها الصعبة فاق كل ما منحنى إياه.. كانت عيناه تنطق بكل مشاعر الحب بينما ينتظر ابنه منها.. كان يجاهد ليخفى تلك السعادة وذلك الحب الطاغى الذى يكنه لها.. لكنه لم ينجح أبدا.. فإحساسى كامرأة تمتلك ذلك الرادار الخفى الحساس الصادق يشى بأننى لم أكن يوما حبيبة له أو بالأدق لم أصل يوما لتلك المكانة التى تتمتع بها زوجته الأولى والتى توهمت يوما ما أننى فزت عليها بامتلاك قلبه.
كان كمن ينتظر إشارة بسيطة ليرمى مشاعره تجاهى بعرض الحائط.. وجاءه نور ساطع وليس مجرد إشارة.. نور أضاء حياة الأخرى وسحب منى نور الحياة.
الكارما.. الجزاء من جنس العمل.. فكما تدين تدان.. لم أتخيل وأنا أطلق الاسم على ابنتى أنها رسالة أخرى من السماء وربما اعتراف ضمنى منى بخطئى وبقية من تأنيب ضمير دفعتنى لاختيار ذلك الاسم، وحسم القدر يأتى أسرع من تصوراتنا وتوقعاتنا وتخيلنا.
لكنى لم أكن أتصور أننى مذنبة لتلك الدرجة التى دفعت زوجى للتهرب منى تباعا حتى انقطع تماما عن البيت.. تعلل فى البداية بظروف حمل زوجته الصعبة وبررت له فيما بعد بفرحته بطفله الجديد.. مواسية نفسى بتلك الشهور التى أمضاها معى بعد مجيء ابنته.. كنت أعرف أننى أخدع نفسى لأن فرحته بابنه كانت تبدو كمن يرزق بطفل لأول مرة.. وأفقت على تلك الحقيقة بعدما شعرت بجفاء وعدم اهتمام فى تعامله مع ابنتى.. لم أكن متوهمة فالتغيير بدأ يزداد تدريجيا حتى باتت كل تفاصيل حياتنا بعيدة عنه بل وملامحها التى تتغير يوما بعد يوم لم يكن شاهدا عليها بعدما أسره الطفل الجديد من زوجته التى لم يعشق مثلها.
ضربات موجعة لم أكد أفق من إحداها حتى تصدمنى أخرى بقسوة.. أصبحت أعيش نصف حياة.. زوجة على الورق الرسمى فقط.. وبيت يفتقد دفء الزوج.. وطفلة تعيش اليتم بينما والدها على قيد الحياة.
حاولت أن أستعيد حياتى.. أن أنبهه لحقوقى وحقوق ابنتى عليه.. فكان كل ما يفعله مزيدا من العطايا المادية أما الوقت والاهتمام والرعاية فكانت خارج كل حساباته.
أشعر بالعجز ويزداد إحساسى بتأنيب الضمير نحو ابنتى بأننى تسببت لها فى ذلك المصير التعس.. ولا أدرى ماذا أفعل؟
لصاحبة تلك الحكاية أقول:
فات أوان تأنيب الضمير.. والجزاء كما اعترفت أنت يكون من جنس العمل.. أسأت الاختيار عندما سمحت لمشاعرك بالانجراف نحو رجل تعرفين أنه ليس زوجا عاديا لكنه زوج محب لزوجته.. استمرأت اللعب على نقطة ضعفه بتأخره فى الإنجاب.. لم يردعك شعور زوجة تدركين أنك لا تسرقين فقط زوجها لكن الأهم رجلها الذى أحبته.. رضيت أن تبنى بيتك على أنقاض بيتها كما عبرت بكلماتك فنجحت هى فى استعادة بيتها وشيدته بما هو أجمل .هى الكارما كما وصفت.. أعرف أن كلماتى ربما تكون قاسية لكنها ليست أقل قسوة مما فعلته بتلك الزوجة.
لم يبق أمامك سوى الاختيار بين حلين كلاهما مر.. إما قبول الوضع على ماهو عليه مراهنة على عودته بعد مرور الوقت ويقظة ضميره بإغفاله حقه تجاهك وتجاه ابنته.. وإن كنت أشك فى ذلك.. فيكون الاختيار الثانى هو الخروج من حياته بطلب الطلاق الذى ربما يدفعك إليه بإهماله وتقصيره نحوك.. لا أعتقد أن حقوقك وحقوق ابنتك المادية ستتأثر.. والأرجح أنه سيلتزم بتلك الحقوق كما شهدت أنت.
أعرف أنه قرار صعب لكن الانسحاب فى الوقت المناسب سيكون أفضل لك بدلا من التعلق بأوهام كاذبة أو استنزاف طاقتك وتفكيرك وجهدك فى كيفية استرجاع زوج لم يكن يوما لك.
لن تتوقف حياتك على ذلك القرار الصعب.. لكنها من المؤكد أنها ستكون بداية لصفحة أكثر نقاء وصفاء ورضا.
أما ابنتك فبالطبع لا يمكنك التنازل عن حقها فى الأبوة.. جاهدى بكل طاقتك لتستعيدى مشاعره واهتمامه ومسئولياته تجاه ابنته.. وظنى أن تصرفك الراقى سيفتح له الطريق لذلك.
مفترق طرق جديد عليك مواجهته بشجاعة.. يبدو الابتلاء صعباً.. لكن هكذا تمضى بنا الحياة.. فمن منا يسلم من الخطأ ومن منا لا يسدد كشف حساباتها المرهقة؟.