أديلايد لابيه فى لقطة ذاتية لها مع اثنتين من صديقاتها
نافسن الرجــال وأسقطهن التاريخ l فنانات عصــر النهـضـة
السبت، 08 يناير 2022 - 12:04 م
رشيد غمرى
قبل عام تقريبا، عرض متحف فلورانسا لوحة العشاء الأخيرب لفنانة مجهولة من عصر النهضة، اسمها بلوتيلا نيلي، والتى بقيت غائبة طوال أربعمائة وخمسين عاما، لتعود فتلقى الضوء على صفحة مجهولة من تاريخ الفن، تتعلق بفنانات عصر النهضة، الرسامة التى عاصرت ليوناردو دافينشي، لم تحظ بالشهرة، ولم تكن الوحيدة التى أغفل ذكرها عمدا، فهناك عشرات من الفنانات، بعضهن حققن نجاحات باهرة، وسط ظروف بالغة الصعوبة، ومع ذلك أغفلهن التاريخ.
يرجع الإبداع التشكيلى النسائى إلى ما قبل التاريخ، يرجح علماء الأنثروبولوجيا أن فنون العصور الحجرية المبكرة، كانت من إبداع النساء على الأغلب، وهو ما أكده عالم الآثار "دين سنو" من جامعة بنسيلفانيا، بعد دراسة البصمات الملونة المتروكة إلى جانب رسومهم على جدران الكهوف، ووجد أن خمسة وسبعين بالمائة منها تطابق مواصفات أيدى النساء، وليس الرجال، كما أن النساء فقط من تخصصن فى رسم اللوحات التعبدية لآلهة الهندوس فى الهند طوال ما يقارب ثلاثة آلاف عام، وذكر أن "هيلانة بنت ديمون" كانت فنانة يونانية شديدة البراعة، جسدت أهم انتصارات الإسكندر الأكبر، كما حفظ التاريخ أسماء عدد من الفنانات اليونانيات ومنهن "تيماريتي"، و"إيريني"، و"أوليمبياس" و"أريستاريتي" وغيرهن، ورغم ذلك، ما زالت النساء يستبعدن من تاريخ الفن.
فى عصر النهضة كان هناك حظر مفروض على المرأة، فيما يتعلق بالتعليم، أو ممارسة الفنون، وفى الوقت نفسه انطلق الرجال، وبدأوا بدراسة الفن بشكل علمي، وفى سبيل ذلك قاموا بتشريح الجسد البشري. اللوحة المشار إليها فى المقدمة، قام بترميمها مجموعة نسائية بالكامل، كتحية لفنانة شديدة الموهبة، خاضت التحديات، وتمكنت من إتقان فنها، حتى أنها أسست مرسما داخل دير "سانتا كاترينا دى ديفاجيو" لتعليم النساء الموهوبات، وكانت أعمالهن تباع لطبقة النبلاء المحبة للفنون فى فلورانسا، وقد امتدح أحد مؤرخى ذلك العصر الفنانة "بلوتيلا نيلي" قائلا إنها شديدة الموهبة والبراعة، وكانت ستفعل أشياء عظيمة، لو أتيح لها ما أتيح للرجال".
أغلب الفنانات البارعات فى ذلك العصر، تصادف أن نشأن لآباء فنانين، وتعلمن فى مراسمهم، وخارج هذا النطاق كان من الصعب أن تحظى امرأة بحرية تعلم الفن وممارسته، وهذا يعنى أن الكثير من الموهوبات قد حرمن من فرصة إظهار مواهبهن.
"كاترينا فان هيمسن" فنانة إنجليزية، عاشت خلال القرن السادس عشر، وتفوقت على رجال عصرها، لكن الأعمال الباقية لها قليلة، أما الإيطالية "لافنينيا فونتانا"، فعاشت خلال الفترة نفسها، وتعلمت الرسم على يد والدها، وقد حققت النجاح حتى أنها عملت لدى البلاط البابوى، وعوملت بتقدير كبير، وانتخبت فى الجمعية الرومانية، كانت الموضوعات الدينية لا تزال مسيطرة، وفيها أبدعت فنانة أخرى تدعى "باربارا لوانجي"، عاشت بين القرنين السادس والسابع عشر أيضا، واشتهرت بلوحات السيدة العذراء والطفل، وهى أيضا كانت ابنة فنان، وبالمضى قدما نحو القرن السابع عشر، "حقبة الباروك"، نجد المرأة قد رسخت مكانتها كفنانة أكثر، فأكثر، وتبرز أسماء عديدة مثل الإيطالية "جيوفانا جارزوني"، لكن عصر الباروك لم يقتصر على إيطاليا بلد المنشأ، فشمل أيضا أسبانيا وفرنسا وهولاندا، ومناطق عديدة من أوروبا، ويعتبر امتدادا لعصر النهضة، وتميز فى العمارة والفنون بالضخامة، وعدم التناسق، وكثرة التفاصيل المثيرة، مع الاهتمام بالجوانب الحسية، وبجانب عظماء ذلك العصر من الفنانين الرجال، أمثال بيتر بول روبينز، ودييجو فلاسكيز، ورمبرانت، تألقت مجموعة كبيرة من الفنانات، ومنهن الهولندية "جوديث ليستر"، وكان لها مرسمها الخاص، وتلاميذها، وتزوجت لاحقا من الفنان "مينز مولنار"، كذلك الفرنسية "لواز ميلون"، والحفارة الهولندية "جيرتروديت روجمان" التى برعت على مستوى تقنيات فن "الجرافيك"، كما نجد البرتغالية المولودة فى أسبانيا "جوزيفا دى أيلا"، والتى برعت فى رسم الموضوعات الدينية والأسطورية، أما الفنانة الهولندية "ماريا فان أوسترفيك" فقد لفتت موهبتها انتباه العديد من الملوك والأمراء والنبلاء فى أوروبا، وحققت نجاحا ماديا من عائد لوحاتها، ومع ذلك لم يسمح لها بالانضمام لجمعية الرسامين، وهناك أيضا الفنانة الإنجليزية "مارى بل" خلال الحقبة نفسها.
بعض فنانات ذلك العصر، لهن قصص تستحق أن تروى، الإيطالية "إليزابيتا ثيراني" على سبيل المثال، كانت رسامة مميزة، نشأت فى "بولونيا"، وحققت النجاح والشهرة، بلوحات دينية وأسطورية، وقد سافرت إلى روما، وفلورانسا لمشاهدة ودراسة اللوحات هناك، كان أبوها فنانا، لكنها تفوقت عليه، كما كانت تتميز بالسرعة فى الرسم، وتمكنت من بيع بعض لوحاتها، والمساعدة فى نفقات أسرتها، اهتمت بلوحات عن النساء من التاريخ، ومن الكتاب المقدس، ومن أشهر أعمالها: كليوباترا، ومريم المجدلية، ودليلة. كانت نشطة حتى أنها افتتحت مرسما للسيدات، وكانت فكرة جديدة فى وقتها، ولم تقتصر موهبتها على الرسم، فكانت أيضا موسيقية، وشاعرة، وقد أصابها المرض، وعانت من الاكتئاب، وفقدان الوزن، وماتت فى السابعة والعشرين، بعد حياة قصيرة حافلة بالإنجازات والآلام، واتهم أبوها، وخادمتها بتسميمها، ولكن ثبت أنها ماتت بقرحة المعدة.
الفنانة "أرتيميسا جنتلسكي" أيضا كانت حياتها دراما حقيقية، تعرضت خلالها لكثير من العنف، والتقليل من شأن فنها، ولكنها كانت واثقة من نفسها، وأحرزت نجاحا كبيرا، حيث كانت أول امرأة يتم قبولها فى عدد من التجمعات الفنية، ومن أشهر أعمالها لوحة تصور فتاتين تذبحان رجلا، وهى مستوحاة من إحدى قصص الكتاب المقدس، وتقريبا كانت الوحيدة فى عصرها التى أقدمت على رسم هذا المشهد، ويرجح البعض أن هذا كان نوعا من الانتقام الأنثوى من الذكور، بسبب ما تعرضت له من الاغتصاب، فى فترة مبكرة من حياتها.
الفنانة "ماريا سيبيلا ماريان" ولدت فى ألمانيا، لسويسرى وهولندية، وكانت تقوم بالإضافة للوحات الفنية بعمل الرسوم التوضيحية للكتب العلمية، وقد انفصلت عن زوجها، وانضمت إلى جماعة دينية وارتحلت معها، أما الفرنسية "إليزابيث سوفى تشيرون" فتعلمت الرسم أيضا من والدها، وكانت متعددة المواهب بين الرسم والنحت والكتابة والموسيقى والترجمة، ومثلها كانت الرومانية "تريزا ديلبو"، والتى برعت فى تصوير الموضوعات الأسطورية، والوجوه، وكذلك كانت الفنانة "سوزان بينلوبى روسي"، أما "لويزا رولدان" فكانت نحاتة متميزة، وزوجة للنحات "لويس أنطونيو دى لوس"، وحققت الإنجليزية "آن كليجيريو" النجاح مبكرا حتى أنها كانت رسامة مهمة فى بلاط جيمس الثاني، بالإضافة لكونها شاعرة، وقد ماتت فى الخامسة والعشرين بعد تألق خاطف.
وبالمضى قدما حتى أواخر القرن السابع عشر، نجد الهولندية "راشيل رويش"، صاحبة الرسوم الغريبة، حيث ظهرت الحشرات والزواحف مع الفاكهة والزهور، وكانت تنحو للواقعية، وربما تأثرت بوالدها عالم النباتات، ومثلها كانت الرسامة الإيطالية "جيوفانا فراتيليني"، والتى تتلمذت على أيدى عدد من أهم فنانى عصرها، أما السويسرية "آنا واسر"، فقد ظهرت موهبتها الجامحة مبكرا جدا، عندما كانت فى الثانية عشرة، وخطفت الأنظار، ولا يمكننا أن ننسى أيضا الإيطالية "روزالبا كارييرا" التى امتدت حياتها بين القرنين السابع والثامن عشر، بأعمال شديدة الإتقان والتنوع، والقائمة طويلة.. ورغم كل ذلك غابت النساء عن تاريخ الفن، لأسباب متعددة، فكثير منهن لم يوقعن أعمالهن بسبب الحظر الاجتماعي، واكتفين بالعمل من مراسم آبائهن، كما عانين التحيز السلبى من بعض المؤرخين، عطاء المرأة فى الفن التشكيلى لم يتوقف، بل تصاعد خلال القرون التالية، وما زلنا بحاجة لمزيد من البحث، وإلقاء الضوء على إبداعاتهن فى كل العصور، لكن كل ما سبق يؤكد الفكرة البديهية، التى يحاول البعض إنكارها، وطمسها، وهى أنه لا نهضة بدون النساء.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة