أسرار جديدة عن ثورة الشعب ضد الإخوان وحقيقة دور السيسى


كثيراً ما أحس أن عبدالفتاح السيسي شاهد الفيلم مسبقا!

أشعر أن المشاهد بحلوها ومرها ليست جديدة عليه. بعضها حاول أن يمنعها أو يؤجلها، لكنها كمحاولة من يريد صد كرة في إعادة لقطة هدف! .. لذا، أصدقه بلا تردد حينما يتحدث عن مصر التي في مخيلته، ويقول: بكرة تشوفوا!

تنبأ السيسي بثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ قبلها بتسعة أشهر!
حاول من خلال موقعه وقتها كمدير للمخابرات الحربية أن يدفع أسباب الاحتقان الاجتماعي ـ السياسي المؤدية حتما إلي انتفاضة جماهيرية هائلة، وكتب تقريرا توقع فيه قيام ثورة زنادها هو تنفيذ مشروع التوريث، كان تقديره أن مبارك الذي يعاني من وقع صدمة رحيل حفيده، قد يعتزل الحكم في ٤ مايو ٢٠١١ مع عيد مولده الثالث والثمانين، وأن الجماهير ستخرج رفضا لتوريث الحكم إلي نجله جمال، وأن الشرطة ستعجز عن مواجهة الجماهير، فسيضطر الجيش إلي النزول لحفظ الأمن.
سلم السيسي تقريره إلي المشير حسين طنطاوي الذي سأله: كيف تري موقف الجيش حينئذ؟.. فرد السيسي: قطعا لن يطلق جيش الشعب رصاصة علي أحد من أبناء الشعب، وسيحمي إرادته.
تقدم موعد الثورة الذي توقعه السيسي من شهر مايو إلي شهر يناير، والسبب أن تزوير انتخابات مجلس الشعب التي جرت في ديسمبر ٢٠١٠، كان فاحشا في فجوره، وأن ثورة الياسمين في تونس، كانت شرارة محفزة علي انفجار الجماهير المصرية.
***

في الأسبوع الأخير من يونيو ٢٠١٢.. وقبل أداء مرسي اليمين الدستورية.. سألت السيسي: هل تعتقد أن مرسي يقدر أن يكون قائدا لمنتخب بدلا من أن يظل لاعبا في فريق؟.. أو بالأحري هل يقدر أن يكون رئيسا لكل المصريين وأن يتحرر من سطوة الجماعة والمرشد؟
أجابني السيسي بسؤال عميق المغزي: المسألة ليست هل يقدر.. إنما هل هو يريد أصلا؟!

كانت قراءة السيسي للبناء الفكري والعقائدي لجماعة الإخوان المسلمين ويقينه بأنها تغلب مصلحتها كجماعة علي مصلحة الدولة، وكذلك دراسته لنسق العلاقات وتشابكاتها بين أعضاء الجماعة، هي مفتاح سؤاله العميق، وتوقعه بأن مرسي لا يريد، فضلا عن أنه لا يقدر!
حاول السيسي قبل انتخابات الرئاسة أن يثني تيار الإسلام السياسي عن خوضها، وصارح التيار السلفي في اجتماع خاص بمخاوفه من فشلهم في إدارة الدولة، لعدم وجود خبرة سابقة لهم بالحكم وشئونه، وقال لهم إنه يخشي أن ينعكس هذا الفشل المتوقع علي فكرة الدين وأن يسيء إلي الإسلام.
مع ذلك حينما نجح مرسي، بذل السيسي أقصي الجهد لإنجاح الرئيس المنتخب بكل إخلاص في النصيحة، رغم توقعاته المبنية علي تقدير صائب للموقف، ورغم كل الشواهد والقرائن والمعلومات، التي كانت تشير إلي أن مرسي وجماعته كانا يقتادان البلاد إلي طريق الهلاك.
سارت أحوال البلاد من سييء إلي أسوأ، وبدا أن عصمة الرئيس ليست بيديه، واصطدم النظام بالقضاء والشرطة والإعلام والمثقفين ولم يترك فئة إلا وخاصمها بنزق واستعلاء.
وفي شهر فبراير ٢٠١٣، ذهب الفريق أول عبدالفتاح السيسي إلي مكتب رئيس الجمهورية بقصر الاتحادية، وقرر أن يتكلم معه بكل وضوح وصراحة فيما آلت إليه أحوال البلاد، ولو أدي الأمر إلي أن يترك منصبه كقائد عام للقوات المسلحة.
قال السيسي لمرسي: "مشروعكم انتهي، وحجم الصد تجاهكم في نفوس المصريين لم يستطع أي نظام سابق أن يصل إليه، وأنتم وصلتم إليه في ٨ شهور"!
رغم ذلك.. ظل السيسي يسعي بالنصيحة والمعلومات وتقديم الحلول والبدائل، حتي بعد فوات الآوان.. إلي درجة أن كثيرين مساء الثلاثين من يونيو ٢٠١٣، أخذوا يتشككون في موقف الجيش وقائده الذي بدا وكأنه يحاول إنعاش قلب مات، بصدمات كهربائية لا تغير من قدر محتوم.
عصر الثالث من يوليو ٢٠١٣، وقف السيسي في القاعة الكبري بمقر الأمانة العامة لوزارة الدفاع، يتحدث إلي الشعب من علي منصة الخطابة، بينما جلس من حوله ممثلو فئات الشعب وقواه الوطنية ومؤسساته وظل مقعد واحد شاغراً بين الجالسين كان مخصصا لرئيس حزب الحرية والعدالة الذي أحجم عن الحضور، وتلا السيسي وهو يسند ذراعيه المفتوحتين علي المنصة، بيان خارطة المستقبل، الذي يعلن فيه إنفاذ إرادة الشعب بإزاحة نظام الإخوان من السلطة.
في أعقاب البيان.. غادر السيسي مقر وزارة الدفاع، إلي منزل والدته المريضة.
أحست والدة السيسي المريضة، وهي في سن تكاد معها لا تدرك كل ما كان يدور، بما يختلج في وجدان ابنها، فدعت له بأن يقيه ربه كل مكروه وينجيه من كل شر.
غادر السيسي منزل والدته، وفي مخيلته شريط يدور بمشاهد ٣٦٥ يوما وازدادوا ثلاثة، كلها تثبت صحة توقعات سبقت، ولعله كان يتمني لو خابت توقعاته!
***

    كنت أتوقع نزولاً ثانياً للجيش في مرحلة انتقالية ثانية، وكتبت عن «النزول الثاني» هنا في جريدة «الأخبار» يوم ١٢ فبراير عام ٢٠١٢.

    كنت لا أتمني فوز مرسي أو شفيق بالرئاسة واعتبرت الاختيار بينهما كالخيار بين الكوليرا والطاعون علي حد وصف المفكر الدكتور حسام عيسي.
    رغم ذلك.. حينما أعلن فوز مرسي بالرئاسة وددت لو نجح، وكتبت يوم أول يوليو ٢٠١٢، أن الفرق كبير بين ألا ترجو نجاح مرشح في انتخابات، وألا تتمني نجاح رئيس في إدارة البلاد، ففي عدم توفيق المرشح اخفاق له ولأنصاره، لكن في فشل الرئيس خسارة للأمة، وقلت بالنص: «من الأفضل للجميع أن تكون الجماعة سندا للرئيس علي مقعده، لا أن يكون الرئيس ظلا للجماعة علي كرسي الرئاسة».
    لم يكن الجيش إذن ولا الإعلام، كما يحلو لأبواق الإخوان الإدعاء والزعم، معاديا للرئيس مرسي منذ اللحظة الأولي لجلوسه علي مقعده، لكن الإخوان هم الذين اختاروا التملك والاستحواذ وأخونة مؤسسات الدولة وانتهجوا الاستعلاء والاستكبار والإقصاء مسلكا مع كل قوي المجتمع.. بينما ارتضي الرئيس أن يكون «عروس ماريونيت» علي مقعد الحكم، مشدودة بخيوط تحركها أصابع المرشد ونائبه الأول في هضبة المقطم!.
    أذكر أن أحد كبار قادة الجيش، عشية تسليم السلطة للرئيس المنتخب محمد مرسي، هاتفني سعيدا، وهو يقول: ها نحن قد أوفينا بالعهد، وسيترك الجيش السلطة، نفاذا لوعده للشعب يوم تنحي مبارك، عندما قال في بيانه أنه لن يكون بديلا عن السلطة التي يرتضيها الشعب، والآن.. اختار الشعب من يريد، وسوف نساند الرئيس بكل إخلاص وتفان، من أجل هذا الشعب».
    غير أن الرئيس المنتخب الذي قادته شهوته الجامحة للسلطة إلي دخول قصر الحكم من قبل أن يؤدي  إليمين، وأن يجلس علي كرسي الرئيس ويتقافز عليه من قبل أن ينصب رئيسا، عمل بهمة ونشاط علي تبديد أية آمال في رئاسته منذ  اليوم الأول، وسعي لاستعداء الجميع، حتي أولئك الذين غلبت نقمتهم علي كل من اقترب من مبارك، عدم ارتياحهم للإخوان ومرشحهم، وسموا أنفسهم بـ «عاصري الليمون»، وذهبوا إلي الصناديق لاختيار مرسي، وهللوا لفوزه!.
    ***

    الطريق من ٣٠ يونيو ٢٠١٢ يوم أدي مرسي  اليمين رئيسا، إلي ٣٠ يونيو ٢٠١٣ يوم ثورة الشعب علي نظام الإخوان، حافل بمحطات رئيسية وعلامات مصيرية بعضها لابد أنه معروف، وبعضها لعله يذاع لأول مرة، وبعضها لم يحن أوان الكشف عنه!.
     وأتوقف عند بعض محطات وبعض علامات، على طريق كان يفضى بأمة إلى هوة سحيقة، لولا معجزة شعب ووطنية جيش، ومن قبلها إرادة إلهية وتصاريف أقدار.

    1

    يوم الثلاثين من يونيو ٢٠١٢..
    أدي مرسي  اليمين الدستورية بعد جهد جهيد من قيادات المجلس الأعلي للقوات المسلحة، لكي يلتزم الرئيس المنتخب ببنود الوثيقة الدستورية وهي الإعلان الدستوري المكمل، ويؤدي  اليمين أمام المحكمة الدستورية العليا. وكان الرئيس يفضل بوازع من جماعته أن يقسم أمام مجلس الشعب الذي صدر حكم ببطلانه من نفس المحكمة.
    بعدها ذهب مرسي إلي قاعة الاحتفالات الكبري بجامعة القاهرة، ليؤدي   اليمين مجددا أمام ممثلي فئات الشعب وجمع حاشد من قيادات الإخوان بحضور أعضاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة. كان مرسي يؤدي القسم للمرة الثالثة، ففي الليلة السابقة وقف يؤديه في ميدان التحرير!.
    في قاعة جامعة القاهرة ـ وكنت من بين الحضور ـ أرتجت القاعة بهتاف ردده الإخوان من الشرفة: «يسقط حكم العسكر» وكان رد فعل قيادات الجماعة هو الصمت، لولا الغضب الذي أبداه اللواء حسن الرويني قائد المنطقة المركزية في ذلك الوقت.
    كان الهتاف ظلما فوق ظلم للمجلس العسكري. فالمجلس وعلي رأسه المشير طنطاوي كان متهما من قطاع واسع في الشارع المصري بأنه تواطأ مع الجماعة وزور الانتخابات لصالح مرسي وسلم الإخوان السلطة.
    وفي نفس الوقت، متهما من الإخوان بأنه كان لا يريد فوز مرسى وأنه حرض مؤسسات الدولة على الانحياز لشفيق.
    كلا الاتهامين باطلان. فلم يتدخل أعضاء المجلس ولارئيسهم في الانتخابات علي الإطلاق. ولم يعلم أحد منهم بنتيجتها إلا مع كل المواطنين وهي تعلن علي لسان المستشار فاروق سلطان رئيس المحكمة الدستورية العليا ورئيس اللجنة العليا للانتخابات عبر شاشات التليفزيون بل إن المشير طنطاوي حينما حادثته شخصية عسكرية أثناء فترة عدم التيقن التي أعقبت التصويت، ووجود شكوك في حدوث عمليات تزوير أهمها ما جري داخل المطابع الأميرية لصالح مرسي، وطلبت هذه الشخصية منه أن يلمح للجنة الانتخابات الرئاسية، بأنه لا يمانع في إعادة الانتخابات لتأتي معبرة بدقة عن إرادة الجماهير، رد المشير طنطاوي بحسم: «هذا أمر يأباه شرفي العسكري».
    بعد احتفال جامعة القاهرة.. أقامت القوات المسلحة في نفس اليوم احتفالاً بتسليم السلطة إلي الرئيس المنتخب في ساحة العروض العسكرية بالهايكستب.
    وقال المشير يومها: «أوفينا بالعهد الذي قطعناه علي أنفسنا، وقدمنا نموذجا فريدا في الولاء للشعب والوطن، وأصبح لدينا رئيس لمصر».. ثم أضاف: «آن الآوان لنضع الماضي خلفنا».
    لكن بدا واضحا من هتاف الإخوان أن الماضي هو ما يحركهم وأن تصفية الحسابات هي برنامجهم في الحكم!
    كنت أستشعر أجواء مريبة في علاقة مرسي بالجيش، وأن هناك ثمة تربص بقادته، رغم أنهم استقبلوا مرسي وودعوه في الاحتفال بأداء التحية العسكرية له بكل احترام وتوقير.
    وكتبت يوم ٧ يوليو ٢٠١٢، أي بعد أسبوع من تولي مرسي السلطة أدعو المشير طنطاوي إلي أن يترجل عن جواد القيادة، وإن يسلم قيادات القوات المسلحة إلي قائد شاب، وقلت أن مسئوليته تجاه مستقبل القيادة في القوات المسلحة، أكبر وأخطر من أن يتركها لغيره دون أن يحسمها في وجوده.

    2

    مساء الثامن من يوليو، أي بعد ثمانية أيام لاغير من توليه الرئاسة.. خضع مرسي لضغوط أهله وعشيرته، وألغي قرار إنفاذ حكم المحكمة الدستورية العليا ببطلان مجلس الشعب.
    عم الغضب الشارع المصري، وساد الاستياء بين قادة القوات المسلحة، فالرئيس الجديد قد حنث في أول أيامه باليمين وانتهك الوثيقة الدستورية التي أقسم علي احترامها، وكان محددا في برنامجه أن يشهد في اليوم التالي احتفالي  المعهد الفني والكلية الفنية العسكرية بتخريج دفعتين.
    والمثير للدهشة، أن المجلس الأعلي كان قد قرر في لفتة تجاه الرئيس الجديد أن يترك له التصديق علي قرارات تعيين الضباط الخريجين رغم انه كان أمامه ثلاثة أشهر لتولي منصب القائد الأعلي للقوات المسلحة طبقا للإعلان الدستوري المكمل، كما ابقي المجلس علي نص يمين الولاء لرئيس الجمهورية، رغم أن مطلب الشعب وضباط الجيش كان الاكتفاء بالقسم علي الولاء للشعب.
    فور إذاعة قرار مرسي.. اتصل به المشير طنطاوي محاولا إثناءه عنه لمخالفته للوثيقة الدستورية لكن مرسي تمسك.. وحاول المشير اقناعه بعدم حضور احتفالي التخرج بسبب الإجواء المتوترة التي أثارها قراره، لكن مرسي قال له:»رايح يعني رايح»!.
    في يوم الاحتفال.. كنت في المنصة الرئيسية حانقا علي أول قصيدة مرسي في الحكم، وكنت أري الوجوم علي وجوه قيادات الجيش والمسئولين غضبا مكتوما.
    وقبل أن يدخل مرسي إلي المنصة.. وجدت أمامي اللواء محمد العصار مساعد وزير الدفاع وأخذت أنفس له عما في صدري لكن الرجل الهاديء دمث الخلق، لم يشأ أن يرد وترك عينيه تتكلمان!.
    ثم التفت إلي اللواء محمود حجازي رئيس هيئة التنظيم والإدارة حينذاك، وقلت: هذا رئيس حنث بقسمه. فرد اللواء حجازي قائلا :»دعني فيما أنا فيه، فلم أنم منذ سمعت القرار»!.. وكان ذلك أمام الدكتور أحمد فهمي صهر الرئيس مرسي ورئيس مجلس الشوري الذي امتقع وجهه مما يسمع!.
    دخل مرسي إلي المنصة التي تغلفها سحابات الغضب، وكان أول من قابله من القادة في الصف الأول المرحوم الفريق رضا حافظ قائد القوات الجوية الذي كان يرتدي كابه، فرفع يده نصف رفعه وكأنه يؤدي التحية، ثم مر مرسي بالفريق عبدالعزيز سيف الدين قائد قوات الدفاع الجوي الذي خلع كابه واكتفي بمصافحة الرئيس دون أن يحييه، وأدرك مرسي حالة الغضب التي تعتري الحضور، وسر نصيحة المشير طنطاوي!
    بعدها بأيام.. حل شهر رمضان والتقي مرسي مع القادة علي حفل الإفطار السنوي للقوات المسلحة.. ونظر إلي الفريق سيف الدين معاتبا علي أنه خلع كابه ولم يؤد له التحية.. فقال له الفريق بصراحة: «لأنك لم تحترم الشعب الذي انتخبك والوثيقة الدستورية التي أقسمت علي احترامها».

    التقطت إشارات سيناريو الإطاحة بطنطاوى وعنان قبلها بيوم
    سيف الدين قال للمشير: "امشى وخد عنان وقادة الأفرع وهات السيسى"

    3

    وقعت مذبحة رفح الأولي يوم السادس من أغسطس.
    كان الحادث فرصة ذهبية لجماعة الإخوان للكيد للمجلس الأعلي للقوات المسلحة، والتعريض بالجيش.
    وفي الأيام الخمسة التالية للحادث تتابعت إشارات حمراء!
    قبل المذبحة، كتبت مقالاً بعنوان «جملة اعتراضية في تاريخ الوطن»، كنت أصف فيه بصراحة حكم الاخوان، وتنبأت بأن زواله سيكون في غضون عام، كان آخر مقال لي قبل أن يزيحني مجلس الشوري الإخواني من رئاسة تحرير «الأخبار» ومعي كل رؤساء التحرير الذين لا يرضي عنهم المرشد وخيرت الشاطر!!
    وكان ذلك يوم الثامن من اغسطس، وصدرت جريدة «الأخبار» في آخر عدد يحمل اسمي بمانشيت رئيسي: «في جنازة الشهداء.. حضر الشعب وغاب الرئيس»!
    بدا لي من مسار قرارات مرسي ولقاءاته أن هناك سيناريو معداً سلفا للإطاحة بقيادة الجيش، وأن مذبحة رفح التي لم يكشف بعد عمن وراءها، هي تكئة لتنفيذ السيناريو، أو أنها كانت بداية العد التنازلي لخطة سابقة التجهيز!
    التقطت الإشارات الحمراء تباعا، وكنت في منزلي أجبرت علي ترك «الأخبار» ولم أذهب بعد إلي «المصري اليوم» والتي مكثت في ضيافتها ٥٠٠ يوم رئيسا لتحريرها!
    أول الاشارات كانت يوم ٨ أغسطس، بعزل اللواء مراد موافي مدير المخابرات العامة من منصبه بحجة أنه أعلن عن  أنه قدم ما وصل إليه من معلومات للرئاسة قبل وقوع مذبحة رفح، وكنت أعرف قبلها أن مرسي يخطط للقرار وحذف اسم مراد موافي من قائمة الوفد المرافق له في زيارة مرتقبة للصين.
    ثاني الإشارات، كانت عزل اللواء نجيب عبدالسلام قائد الحرس الجمهوري واللواء حمدي بدين مدير الشرطة العسكرية، بعد ساعات من صدور قرار موافي.
    ثالث الإشارات: كان يوم ١١ أغسطس عندما التقي مرسي دون مناسبة مع الفريق أحمد فاضل رئيس هيئة قناة السويس والفريق حمدي وهيبة رئيس الهيئة العربية للتصنيع واللواء علي صبري وزير الدولة للإنتاج الحربي.
    بعد تناول الإفطار في الأمسية الرمضانية يوم ١١ اغسطس، اتصلت بالفريق سامي عنان وأفضيت إليه بهواجسي، لكنه كان قد التقي عند الظهيرة مع مرسي، ولم يستشعر منه أي نية غدر.
    ضرب جرس الإنذار في رأسى عندما التقطت الإشارات، وأدركت أن مرسى يعتزم إعفاء قادة الأفرع الثلاث من مناصبهم، وتعيين الفريق مهاب مميش قائد البحرية رئيسا لهيئة القناة، والفريق عبد العزيز سيف الدين قائد الدفاع الجوى والفريق رضا حافظ قائد القوات الجوية في منصبى رئيس العيئة العربية ووزير الإنتاج الحربي.
    وأخدت أربط قرارات العزل المتتابعة بهذه اللقاءات، وتوقعت أن يصدر مرسى في غضون ساعات قرارات بتغيير قادة القوات المسلحة، خاصة أن زيارته لرفح في أعقاب المذبحة بصحبة المشير طنطاوي والفريق سامى عنان في اليوم السابق كانت كارثية، وبدا فيها الجباء التان بينه وبين المشير.
    بعد تنازل الإطار في الأمسية الرمضانية يوم 11 أغسطس، اتصلت بالفريق سامى عنان وأفضيت إليه بهواجسى، لكنه كان قد التقى عند الظهيرة مع مرسى، ولم يستشعر منه أى نية غدر.
    لم اطمئن، واتصلت بالفريق سيف الدين وسردت له تلك الإشارات مجتمعة في نسيج واحد، وقلت إنني أتوقع أن يصدر مرسي قرارا غدا بإعفاء قادة القوات المسلحة من مناصبهم.
    لم يستبعد الفريق سيف الدين الاحتمال ثم قال لي إن المجلس الأعلي المصغر للقوات المسلحة انعقد منذ يومين بعد عزل قائدي الحرس والشرطة العسكرية، وأن بعض القادة وكان واحدا منهم، طلبوا تقديم استقالة جماعية للرئيس، وجري التصويت علي الاقتراح، لكنه لم ينل إلا موافقة ٤ أعضاء.
    ثم أضاف أنه في الليلة السابقة التقي وأعضاء المجلس العسكري المصغر مع مرسي في قصر الاتحادية، وأثناء وجودهم بالصالون في انتظار لقاء رئيس الجمهورية، مال علي أذن المشير طنطاوي وهمس في إذنه : «امشي ومعاك عنان واحنا قادة الأفرع، وهات السيسي وزيرا للدفاع، هذا هو أسلم حل» لكن المشير لم يعلق.
    في اليوم التالي، ١٢ أغسطس ترك المشير طنطاوي اجتماعاً كان يعقده للمجلس الأعلي للقوات المسلحة، واصطحب معه اللواء محمود نصر مساعد وزير الدفاع للشئون المالية إلي الاتحادية للقاء الرئيس مرسي في موعد كان مرتباً سلفاً.
    كان مرسي يريد من المشير ان تدفع القوات المسلحة ١٫٥ مليار دولار، غير ١٫٧ مليار دفعتها قبلها للوفاء ببعض المستلزمات للدولة.
    بعد قليل.. تلقي الفريق عنان الذي كان يترأس اجتماع المجلس الأعلي طلب استدعاء إلي الرئاسة.
    ثم تلقي اللواء عبدالفتاح السيسي مدير المخابرات الحربية بعد فترة استدعاء مماثلا.
    عند وصول السيسي.. أبلغه مسئولو الرئاسة بأنه عين قائدا عاما للقوات المسلحة برتبة فريق أول، وطلب منه دخول القاعة لأداء اليمين كوزير للدفاع.
    سأل السيسي: هل يعرف المشير؟.. فأجابوه: نعم.. هو الذي رشحك.
    في ذلك الوقت، استأذن مرسي من المشير طنطاوي والفريق عنان واللواء نصر بعض الوقت، وتركهم مع المستشار محمود مكي الذي كان قد أدي اليمين نائبا للرئيس.
    ذهب مرسي الي قاعة أخري في الاتحادية وأدي السيسي اليمين أمامه، وهو يرتدي رتبة اللواء، فلم يكن يعرف أنه سيعين وزيرا أو أنه رقي لرتبة الفريق أول.
    بعد مراسم اليمين.. أبلغ مرسي، طنطاوي وعنان بأنه عين السيسي وزيرا للدفاع، وأنه قرر تعيينهما مستشارين له، ومنح طنطاوي قلادة النيل وعنان قلادة الجمهورية تكريما لهما.. فقال له طنطاوي: لكن الاعلان الدستوري المكمل لا يعطيك حق تعيين قادة القوات المسلحة. فرد مرسي: نسيت أقولك أنا ألغيته أمس!
    أي أن مرسي ألغي الوثيقة الدستورية التي أقسم علي حمايتها.
    خرج السيسى من الاتحادية الى مقر وزارة الدفاع، متصورا أن طنطاوى قد سبقه إليها. لكن طنطاوي وصل بعد قليل مع عنان، وعندما شاهده السيسى شكره وقال: لم أكن لأؤدي اليمين لولا أنني عرفت أنك رشحتنى.. فرد طنطاوى: لم أكن أعرف!
    وهنا قال السيسي بإخلاص: «يا فندم لو عاوزني أمشي حاقدم استقالتي فورا».
    فاحتضنه المشير طنطاوي وقال: «انت ابني وعارف قدرك عندي ومدي اعتزازي بك، ومش حنلاقي أحسن منك يا عبدالفتاح؟
    واقع الأمر، لم يعين مرسي، عبدالفتاح السيسي قائدا عاما، ولا صدقي صبحي رئيسا للأركان. كان هذا هو قرار القوات المسلحة، وكان معلوما للقادة المقربين من طنطاوي أنه حين يترك منصبه سيعين القائدين الشابين في المنصبين الأول والثاني في سلم قيادة القوات المسلحة. وأدعي أنني كنت علي علم بهذا القرار المنتظر، ولعلي هنأت مبكراً اللواء صدقي صبحي.
    كان مرسي بسطوة شرعية مقعد الرئيس، يستطيع أن يلغي الإعلان المكمل ويعفي قيادة القوات المسلحة من مناصبها لكن توازنات القوي، وحدود القدرة، لم تكن تسمح له بأن يعزل من يريد ويأتي بمن يريد في القيادة العامة للقوات المسلحة.
    كان الإتيان بقيادة جديدة علي غير رغبة الجيش، فوق أدوات قوة الرئيس ومكتب إرشاد الإخوان واضع السيناريو!
    ولم يخف السيسي القائد ذو الشعبية الكاسحة في صفوف الجيش، ضيقه من الطريقة التي أخرج بها المشير طنطاوي من منصبه.

    4

    حلت ذكري انتصارات أكتوبر.
    كان السيسي قد أقام سياجا منيعا حول القوات المسلحة، يحميها من ميكروبات الصراع السياسي،  ويكفل لها ان تعكف علي تنفيذ خطة جامحة في طموحها، لإعادة تأهيل وحدات القوات المسلحة نفسيا ومعنويا وتدريباً وتسليحاً واستعداداً قتالياً.
    للمرة الأولي.. سحب مرسي تنظيم الاحتفال بذكري النصر من القوات المسلحة، وسلمه الي وزير الشباب الإخواني أسامة ياسين قائد الفرقة الإرهابية «٩٥ إخوان»!
    مدرجات ستاد القاهرة اكتظت بعناصر تنظيم الإخوان، بينما تصدر المنصة قتلة الرئيس السادات قائد حرب أكتوبر المظفر وعلي رأسهم عبود الزمر، بينما نحيت قيادات القوات المسلحة إلي أطراف المنصة، ودخل مرسي إلي مضمار الاستاد مستقلاً سيارة مكشوفة يحيي بكلتا ذراعيه الجماهير الإخوانية، وكأنه أحمد اسماعيل علي مشير حرب أكتوبر، أو برنارد مونتجمري ماريشال العلمين!
    عم الغضب صفوف القوات المسلحة لهذا الاحتفال المهين، وتحول إلي حالة تذمر في الوحدات بفعل سلسلة من الأحداث المتلاحقة من جانب جماعة الإخوان.
    فقد بدأ عدد من قادة الجماعة وحلفائها في الإدلاء بتصريحات تسيء للقوات المسلحة وتقدح في كفاءتها، ونشروا أخباراً فاضحة الكذب تطعن في ذمة المشير طنطاوي والفريق سامي عنان، ثم أخذوا في بث شائعات تقول إن وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي إخواني يدين بالولاء للمرشد!
    وعشية «مليونية الحساب» التي دعت إليها قوي يسارية وليبرالية، دعا الرئيس مرسي الي اجتماع بحجة بحث تأمين المليونية المقرر تنظيمها صباح اليوم التالي ١٢ أكتوبر وكان من بين المدعوين لحضور الاجتماع الفريق أول السيسي، غير أن السيسي أكتشف أن الغرض من الاجتماع هو تنفيذ مؤامرة استبعاد المستشار عبدالمجيد محمود النائب العام من منصبه، وأنه الهدف من دعوته هو الاستقواء بالجيش في معركة دبرتها الجماعة لإخضاع القضاء وأخونته. وفي اليوم التالي أدرك السيسي بعد اعتداء ميليشيات الإخوان علي الشباب الليبرالي واليساري في «جمعة كشف الحساب» التي سميت بـ «جمعة الغدر» أنه كان هناك هدف آخر من وراء دعوته لحضور الاجتماع، هو توريط الجيش وإظهاره وكأنه مؤيد لتلك الاعتداءات الدامية.
    إثر تلك الأحداث صدر لأول مرة في تاريخ الجيش المصري بيان باسم قادة وضباط وصف وأفراد القوات المسلحة يعبر عن استيائها من الإساءة للجيش ولقادته السابقين.
    بعد أقل من ١٠٠ يوم علي رئاسته، كان مرسي قد خاصم الإعلام والقضاء وأغضب الجيش.
    وأذكر أنني كتبت يوم ٢٠ أكتوبر ٢٠١٢ مقالا في «المصري اليوم» بعنوان :»وما أدراك ما الجيش إذا غضب»، أحذر فيه من غضب الشعب وجيشه!

    5

    بداية النهاية لنظام مرسي، كانت شرارتها مع إصداره إعلانا دستوريا يوم ٢٢ نوفمبر ٢٠١٢ يحصن فيه القوانين والقرارات التي يصدرها من الطعن عليها أمام القضاء ويحظر حل مجلس الشوري أو الجمعية التأسيسية التي قرر تمديد عملها، من قبل أي جهة قضائية، كان هذا الاعلان بمناسبة انقلاب دستوري، ووصفه المجلس الأعلي للقضاء بأنه اعتداء غير مسبوق علي استقلال القضاء وأحكامه.
    وأذكر انني اتصلت بالسفير محمد رفاعة الطهطاوي رئيس ديوان مرسي، أسأله عندما تواترت إلي مسامعي أنباء أولية عن هذا الإعلان، فأجابني: «ان هذا يوم الرجال والمواقف» ورددت عليه متأسفا لموقفه ومحذرا من تبعات الإعلان.
    في نفس الليلة تشكلت جبهة «الإنقاذ» من ٣٥ حزبا وحركة سياسية وأصبحت هي مركز المعارضة السياسية الذي يتحلق حوله الجماهير ضد نظام الإخوان.
    وفي اليوم التالي.. خرجت الجماهير الي ميدان التحرير وميادين عواصم المحافظات في مليونية «الغضب والإنذار»، رفضا لإعلان مرسي الدستوري الذي رفع حرارة سخط الشارع المصري إلي درجة الغليان!
    بعدها بيوم كتبت في المصري اليوم مقالا بعنوان «انقلاب حاصل.. وانقلاب محتمل».. وقلت بالحرف: «أري انتفاضة ستشتعل،فمصادمات ستقع، فدماء ستراق، فأرواحا ستزهق، فحريقا سيندلع، فشرطة ستعجز، ففوضي ستعم، فجيشا سينزل»!
    يوم الثلاثاء ٤ ديسمبر.. دعت جبهة الإنقاذ الجماهير إلي الخروج للاعتصام أمام قصر الاتحادية، ونزلت أعداد بمئات الآلاف من الجماهير تحاصر القصر، بينما استبد اليأس بمرسي إلي درجة أنه تدارس مع معاونيه احتمالات سقوط النظام، وارتكب بعض قادة الجبهة خطيئة دعوة الجماهير إلي العودة لمنازلها، بينما بقي أعداد باتت أمام القصر لتفاجأ في اليوم التالي بميليشيات الإخوان تنقض عليها بالأسلحة النارية والبيضاء وترتكب مجزرة مروعة فيما أصبح معروفا باسم «أحداث الاتحادية».
    قبل تلك الأحداث بيومين، تجمع مئات من أنصار الإخوان وحلفائها من قوي الاسلام السياسي أمام مقر المحكمة الدستورية العليا، وحاصروه لمنع قضاة المحكمة من الدخول، ونظر دعاوي تطالب بحل مجلس الشوري وحل الجمعية التأسيسية، وظل الحصار مفروضا علي المحكمة طيلة ١٨ يوماً، وسط تحريض وتواطؤ واضح من نظام الحكم الإخواني، في واقعة بلطجة سياسية غير مسبوقة.. وكانت تلك الواقعة ومعها الدماء التي سالت امام الاتحادية، بداية العد التنازلي لسقوط نظام الإخوان.

    6

    في الثامن من ديسمبر ٢٠١٢.. حاول مرسي الالتفاف علي أزمة إعلانه الدستوري، وأصدر إعلانا معدلاً، جعله أيضا غير قابل للطعن عليه أمام القضاء، وأبقي فيه علي الجمعية التأسيسية المكلفة بوضع الدستور الجديد.
    لم تنطل الحيلة علي الجماهير المصرية الغاضبة، ولا علي القوي السياسية، ولا علي قيادات الجيش التي كانت تتابع مسار الأزمة السياسية من بعيد. وأيقن الجميع أن الإخوان ماضون في مخططهم نحو التمكين وأخونة مؤسسات الدولة.
    فكر السيسي في مبادرة للم الشمل، وجمع الصف، وتجاوز الأزمة السياسية.
    وفي يوم ١١ ديسمبر، اتصل السيسي بمكتب رئيس الجمهوري، ورد عليه مدير المكتب أحمد عبدالعاطي، وطلب منه السيسي أن يعرض علي الرئيس اقتراح قيام القوات المسلحة بدعوة ممثلي فئات الشعب المصري وقواه السياسية إلي لقاء يحضره رئيس الجمهورية لترطيب الأجواء.
    استحسن عبدالعاطي الفكرة، وقال له السيسي: اعرض علي الرئيس وخليه يكلمني.
    بعد قليل.. اتصل مرسي بالسيسي وقال له: إنها فكرة رائعة.. فرد السيسي: نتحرك لتنفيذها.. فقال مرسي: تحركوا.
    أعلن السيسي عن فكرته في المساء خلال احتفال جمع رجال الشرطة بالجيش.
    في الصباح التالي.. تلقيت دعوة حضور هذا اللقاء، وتحدد مكانه في القرية الأوليمبية للدفاع الجوي بطريق التجمع الخامس.
    اتصلت بالفريق أول عبدالفتاح السيسي، وسألته عن سر المبادرة. قال: هناك أزمة سياسية طاحنة، ونذر تشير إلي ما هو أسوأ، ولا يبدو كل طرف راغبا في قطع منتصف الطريق نحو الآخر.. ووجدت أن من واجب القوات المسلحة كمؤسسة وطنية تتمتع باحترام الجميع، أن تبادر لتهدئة الاحتقان وتنقية الأجواء.
    فهمت من عبارات السيسي أن الخلاف بين مؤسسة الرئاسة والقوي السياسية قد يستدرج القوات المسلحة إلي الدخول في معترك سياسي لا تريد الخوض فيه، كان باختصار لا يريد للجيش أن يتورط، ولا للدولة أن تخسر.
    اقترب موعد اللقاء، وبدأ المدعوون في التحرك الي مكان الدعوة، وفجأة انهالت عليهم اتصالات عاجلة تخبرهم بإلغاء اللقاء!
    وعلمت أن الرئيس تراجع، وطلب من وزير الدفاع إلغاء الاجتماع. استجاب السيسي حفاظا علي مكانة الرئاسة، ورغبة منه في عدم إضفاء مزيد من التعقيدات علي الأزمة.
    وتوقعت أن مرسي تعرض لضغوط من المرشد وخيرت الشاطر لإلغاء اللقاء، وعرفت فيما بعد أن توقعي كان صحيحا!
    أضاع مرسي علي نفسه طوق نجاة ألقاه له السيسي وسط دوامات أوشكت علي أن تجرفه ونظامه إلي قاع اليم!
    الأيام المتبقية من شهر ديسمبر ٢٠١٢، استنفدت في إجراءات الاستفتاء علي الدستور، وشابت عملية التصويت بمرحلتيها في ١٥ و٢٢ ديسمبر، جرائم تزوير فاضحة نشرت بصورها في الصحف الخاصة، وانتهي الاستفتاء بمزيد من الانقسام في الشارع، والتباعد بين القوي السياسية والرئاسة!

    حوارات لندن بينى وبين موسى والبرادعى وعنان فى الأسبوع الأخير لحكم الإخوان

    7

    حل العام الجديد.. وبدت القطيعة بين الشعب ومؤسسات الدولة وبين الرئاسة ونظام الإخوان غير قابلة للوصل!
    في الأسبوع الأخير من يناير، تفاقمت الاحتجاجات الشعبية ضد نظام مرسي وراح ضحيتها ٥٢ قتيلا في غضون ٤ أيام، وأعلن مرسي حظرا للتجول في مدن القناة الثلاث يوم ٢٨ يناير، غير أن جماهير القناة حولت الحظر الي مثار سخرية من نظام الإخوان مرشدا ورئيسا.
    ٣٠ يناير، كان نقطة تحول في موقف الجيش يومها أطلق السيسي تصريحات مدوية في لقاء مع طلبة الكلية الحربية.
    قال السيسي بالحرف: «ان استمرار صراع مختلف القوي السياسية واختلافها حول إدارة شئون البلاد، قد يؤدي إلي انهيار الدولة ويهدد مستقبل الأجيال القادمة، وان استمرار هذا المشهد دون معالجة من جميع الأطراف يؤدي إلي عواقب وخيمة».. وحرص السيسي علي أن يشير إلي أن الجيش المصري هو جيش جميع المصريين علي اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم.
    كان لهذا  التصريح وقع كبير علي جماعة الإخوان، التي تأكدت أن الجيش عصي علي الأخونة والاختراق.
    في تلك الأجواء.. طلب خيرت الشاطر من اللواء محمود حجازي مدير المخابرات الحربية أن يلتقي به في مكتبه بمقر القيادة المشتركة، ليتناول فنجان قهوة معه!
    في اليوم التالي.. ذهب الشاطر الي مكتب حجازي، وعندما دخله، فوجئ بأن الجالس هو الفريق أول السيسي وزير الدفاع شخصيا. وقال له السيسي: «اتفضل اشرب قهوتك»!
    أيقن الشاطر وإخوانه حينئذ أن أي محاولة للالتفاف علي قيادة الجيش لن تنجح.
    في أحد أيام شهر فبراير، كان الكيل قد فاض بالسيسي، وذهب إلي مرسي وقال له قولته الشهيرة «مشروعكم انتهي»!
    لم يتردد السيسي لحظة حتي لو كان الثمن أن يترك منصبه، كان يعرف أن موقفه من أن الجيش ملك جميع المصريين وحامي إرادة الشعب، ليس موقفا شخصيا، إنما هو موقف كل القادة في القوات المسلحة.
    في منتصف فبراير.. كان الفريق صدقي صبحي رئيس الأركان في زيارة إلي الإمارات وهناك أطلق قنبلة عبر شاشة تليفزيون أبوظبي عندما قال: «إن القوات المسلحة لا تنتمي لفصيل ولا تمارس السياسة، وعينها علي ما يدور، وأنها رهن إشارة الشعب إذا ما احتاجها، ففي أقل من ثانية ستكون موجودة في الشارع».
    في يوم ١٧ فبراير.. سرت موجة من الشائعات عبر المواقع الإلكترونية تفيد بوجود نية لإقالة كبار القادة وعلي رأسهم السيسي، وتبين أن تلك المواقع تابعة لجماعة الإخوان.
    وصلت شدة الغضب في الجيش إلي حالة فوران.
    وفي اليوم التالي.. صدر تصريح ناري لـ «مصدر عسكري مسئول» يقول: «إن المؤسسة العسكرية لن تسمح بأي حال وتحت أي ظرف أن يتكرر سيناريو المشير حسين طنطاوي والفريق سامي عنان مع الفريق أول عبدالفتاح السيسي، وأن المساس بقادة القوات المسلحة خلال الفترة الراهنة سيكون أشبه بحالة انتحار للنظام السياسي بأكمله».
    أذيع التصريح في المواقع الإخبارية الخاصة وبالصحف الخاصة التي لم تكن تحت سيطرة الإخوان، وأطلقت الجماعة والرئاسة ذيولها لتعرف اسم المصدر العسكري المسئول، وخابت مساعيها!

    8

    مبكرا.. كنت أوقن أن نظام الإخوان إلي زوال. وكتبت كثيرا في هذا المعني، لكن في يوم ١١ مارس ٢٠١٣، نشرت في المصري اليوم مقالا بعنوان «متي ينزل الجيش؟»، وكانت لا تساورني شكوك في أن إسقاط مرسي ونظام المرشد مسألة أسابيع.
    في هذا المقال قلت بالحرف:  «لن ينزل الجيش إلا مضطرا لتلبية نداء واجب وطني يمليه التاريخ والمسئولية والدستور، درءا لفوضي، وحقنا لدماء، وصونا لأمن وطن، وحماية لمقدرات شعب، وحفاظا علي تماسك دولة تلين مفاصلها وتتداعي. حينئذ لن يكون الجيش قد حنث ـ كغيره ـ بيمين ولاء وقسم. فالإخلاص لرئيس الجمهورية مرهون بإخلاصه للشعب، ومقرون بتمتعه بشرعية لم تنزعها عنه الجماهير فالطاعة للرئيس القائد الأعلي واجبة، إلا في معصية الشعب».
    واختتمت المقال: «أكاد أري فيما يري اليقظان، وهج انفجار لتفاعل متسلسل، يشعل فتائله نظام حكم بائس، كفيف في رؤاه، عنين في تفكيره، قعيد عن النهوض بواجباته، أصم لا يسمع أجراس خطر تدق، وهو يندفع بالبلاد اندفاعاً علي طريق الهلاك»!
    جاء شهر ابريل.. وخرج مرسي بتصريحات خطيرة تطعن في سيادة مصر علي حلايب ويعلن عن مشروع غير مدروس يهدد أمن مصر القومي في منطقة القناة، والأخطر أنه قال للرئيس الفلسطيني أبومازن ـ كما أبلغني شخصيا فيما بعد ـ أنه يستطيع إعطاء غزة ١٦٠٠ كيلو متر مربع من شمال سيناء!
    أثارت تلك التصريحات الشعب والجيش معا، وطلب السيسى من مرسى الاجتماع بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة وانعقد المجلس يوم 12 إبريل، وسمع الرئيس عرضا أمنيا للوضع المتردى في البلاد، وأراء قاطعة في مسائل حلايب وشلاتين وقناة السويس.
    خرج مرسي من الاجتماع وتحدث هو والسيسي إلي كاميرات التليفزيون، ثم التقطت للرئيس وقيادات القوات المسلحة صور تذكارية، عبرت عن جفوة وهوة تعذر اخفاؤها!
    بعد أيام وبالتحديد يوم ٢٤ ابريل، انطلقت حركة تمرد ضد حكم مرسي ونظام الإخوان سخر منها أتباع الجماعة وقللوا من شأنها.
    لكن دعوة الشبان الثلاثة محمود بدر، محمد عبدالعزيز، حسن شاهين، تلقفتها الجماهير ونسخت استمارات سحب الثقة من الرئيس ونظامه علي نفقتها، وأصبح التوقيع علي استمارات تمرد ككرة ثلج تتضخم كل ساعة بمتوالية هندسية وحددت الحركة يوم ٣٠ يونيو للإعلان عن تقديم الاستمارات!
    وهكذا بدأ الفصل الأخير في حكم مرسي.

    9

    ١١ مايو ٢٠١٣.. كان إحدي المحطات البارزة علي طريق ٣٠ يونيو..
    في ذلك اليوم.. دعت القوات المسلحة مثقفين وإعلاميين وفنانين ورياضيين لحضور تفتيش حرب في مقر قيادة الفرقة التاسعة المدرعة بدهشور، بعد أن تم تسليح تشكيلات ووحدات الفرقة بأحدث دبابة في العالم من طراز «إم ـ ١».
    اختلط المدنيون بالعسكريين في مشهد مصري خالص، ووقف الفريق أول السيسي يحث رجاله وضيوفه من فوق برج دبابة.
    ثم التقي الحضور في منصة الاحتفال، وبدأ يتكلم، لكن عددا من المثقفين والفنانين قاطعوه أكثر من مرة، مطالبين الجيش بالنزول إلي الشارع وتسلم السلطة.
    جاء رد السيسي علي غير هوي المتحدثين ممن تصوروا أن الجيش يمكن أن ينوب عن الشعب في الثورة وأن يطيح بالنظام في انقلاب عسكري.
    دعا السيسي القوي السياسية الي ايجاد صيغة تفاهم بينها وقال ان نزول الجيش «في انقلاب» سيعيد البلاد ٤٠ عاما الي الوراء، وأن الوقوف أمام صناديق الانتخاب ولو ١٠ ساعات أفضل.
    ثم وجه تحذيرا إلي من يعنيهم الأمر قائلا: الجيش نار.. لا تلعبوا به ولا معه!
    ساد وجوم علي وجوه الحاضرين.. وقال لي أحدهم: هل باعنا الجيش؟!
    في ختام الاحتفال.. دعي الحضور الي الغداء مع القائد العام وقيادات الجيش، وذهبت إلي مائدة الفريق أول السيسي وانتحيت به جانبا، سألني عن رأي في كلمته قائلا: «لابد أنك تعرف أن الانقلاب العسكري ليس من أدبياتنا». فقلت له ان كلمته قد فهمها كثيرون علي غير المقصود منها. وربما تتصور الجماهير عندما تسمعها أن الجيش سيتخلي عنها حتي لو نزلت بالملايين إلي الشوارع، والاخوان قد يظنون أن الكلمة ضوءا أخضر لهم ليفعلوا ما يريدون بالشعب.
    ثم سألته بوضوح: هل كان هذا مقصدك؟! فرد بعبارة قاطعة لا لبس فيها: «طبعا لا.. موقفنا واضح، نحن مع إرادة الشعب حيثما تذهب».
    قبل أن يغادر الحضور قاعة الطعام.. أمسك السيسي بالميكروفون، وودعهم بكلمة شكر قصيرة.. ثم قال عبارة كان لها وقع السحر في نفوسهم: «ماتستعجلوش.. وكررها قائلا: «علشان خاطري ما تستعجلوش»
    كان السيسي بكلامه في هذا اليوم وكأنه يسير علي حد سكين. كان يريد من الحاضرين أن يستبعدوا تماما فكرة الانقلاب العسكري من أذهانهم لأنها لن تحدث وأيضا كان لا يريد أن يكسر بخاطر الشعب ويشعره بأن الجيش سوف يتخلي عنه لو نزل إلي الشارع ويتركه نهبا لميليشيات الإخوان!
    بعد اللقاء.. اتصل السيسي بالرئيس مرسي وقال له: «الآن عندك فرصة لمبادرة حقيقية. أنا دفعت الثمن من كلامي، وبادفع الثمن علشان أنا خايف من بكره. أنا هيأت لك الأجواء لتطرح مبادرة، ولن يقول أحد إنها جاءت بضغط من القوي السياسية أو المؤسسة العسكرية».
    أثناء مغادرتي الاحتفال.. وقفت والصديق عماد الدين حسين رئيس تحرير «الشروق» مع اللواء أحمد وصفي قائد الجيش الثاني  حينئذ ـ وقلت له: البلد يختنق والناس في إحباط. ثم استفززته وأنا اسأله: «هل ستتركون الناس لو نزلت بالملايين فريسة للميليشيات؟» فرد قائلا: «نحن رهن إرادة الشعب». ثم أمسك خنصره بإبهامه مشيرا بأصابعه الأخري برقم «٣»، وقال: «لو نزلت الجماهير ٣ أيام في الشارع».

    10

    حل الشهر الأخير في حكم الإخوان.. يونيو ٢٠١٣.
    كانت استمارات «تمرد» تزداد بمئات الآلاف كل يوم. وكان الشارع المصري في حالة «شياط»!
    في منتصف الشهر.. داهمتني أزمة قلبية ثالثة تحت وطأة العمل والترقب والقلق.
    أجريت لي عملية لتركيب دعامتين بالقلب.
    وسافرت إلي لندن لاستكمال العلاج.
    في العاصمة البريطانية.. لم أكن بعيدا عن أجواء ما يجري في مصر.
    قابلت عمرو موسي الذي كان في زيارة لحضور منتدي سياسي. وعلي الغداء تبادلنا الحوار ومعنا المهندس صلاح دياب مؤسس جريدة «المصري اليوم» عما ستئول إليه الأمور في مصر. لم يختلف أحد منا علي أن يوم ٣٠ يونيو سيكون فاصلاً، وأن الجيش حتما سينزل لحماية الجماهير وإرادتها، وكان التساؤل عن دور القوي المدنية في مرحلة ما بعد الإخوان.
    تلقيت اتصالا هاتفيا من الدكتور محمد البرادعي دام نحو الساعة، كان يطمئن علي صحتي.
    وبالطبع جري الحديث بعدها عن أحوال البلاد. اتفق معي الدكتور البرادعي في الرأي علي أن نظام الإخوان قد انتهي، وأن الجيش لابد ان ينزل، وكان التساؤل هل سيتولي إدارة شئون البلاد مجلس رئاسي أم رئيس المحكمة الدستورية العليا. وكان البرادعي يميل إلي فكرة المجلس الرئاسي.
    وبالصدفة.. وجدتني أقيم في نفس الفندق الذي يقيم به الفريق سامي عنان وكان في زيارة ومعه أسرته لفرنسا ثم بريطانيا.
    وكنت التقي معه بشكل يومي بعد معاودتي للأطباء، ولم يكن الحديث ليخرج عن حالة البلاد ومستقبل نظام الإخوان!
    في أسبوع وجودي بلندن.. شاهدت السيسي يتحدث عبر شاشات التليفزيون يوم ٢٣ يونيو ويعطي الجميع «القوي السياسية والرئيس قطعا» مهلة مدتها ٧ أيام للتوافق وانهاء الأزمة.
    كان السيسي يتحدث في ندوة تثقيفية للقوات المسلحة أمام رجال الجيش، وقال يومها عبارته التي دخل بها قلوب المصريين: أي مروءة عند ضباط الجيش ممكن نعيش بها، عندما نجد أهلنا يروعون، ونقعد ساكتين، إحنا نروح نموت أحسن».
    تابعت أيضا عبر شاشات التليفزيون خطاب مرسي الشهير يوم ٢٦ يونيو الذي ألقاه مع حلول منتصف الليل، وكان آخر مسمار يدقه هو في نعش نظامه!
    عدت من لندن يوم ٢٧ يونيو، غداة خطاب مرسي.. وكان كل ركاب الطائرة وطاقمها وقائدها لا يتحدثون إلا عن النزول يوم ٣٠ يونيو.
    فور عودتي عرفت بتفاصيل ما جري، وتابعت مجريات الأمور حتي اليوم المشهود وما بعده.
    علمت أن السيسي ذهب إلي مرسي قبل بيان مهلة الأيام السبعة، وأبلغه بالبيان، لم يغضب مرسي، لكنه كان متحفظا علي رد الفعل.
    وكان السيسي قد عرض البيان والمهلة علي اجتماع مصغر للمجلس الأعلي للقوات المسلحة يوم ٢٣ يونيو.
    في اليوم التالي.. طلب خيرت الشاطر نائب المرشد وسعد الكتاتني رئيس حزب الحرية والعدالة لقاء السيسي في مكتبه.. وبالفعل تم اللقاء يوم الثلاثاء ٢٥يونيو.
    بدا الشاطر منتفخ الأوداج وهو يتحدث لوزير الدفاع معاتبا علي مهلة الأيام السبعة. ثم أخذ يتكلم لمدة ساعة كاملة، محذرا من أن جماعة الإخوان لن تستطيع السيطرة علي كوادرها أو كوادر حلفائها من الجماعة المسلحة في حالة استمرار توتر الأوضاع أو المساس بالشرعية. وأخذ يحرك سبابته وكأنه يضغط علي زناد ويصدر بفمه أصواتا يقلد وقع إطلاق الرصاص.
    كان السيسي يجلس طوال هذا الوقت مبتسما وهو يستمع إلي الشاطر، مما أدهش اللواء عباس كامل مدير مكتبه الذي يعرفه حق المعرفة منذ كان السيسي برتبة المقدم وكان هو برتبة الرائد.
    ثم قال السيسي للشاطر: خلصت؟!
    وعلي النقيض انفجر السيسي في الشاطر والكتاتني بصورة لم يرها اللواء عباس من الفريق أول السيسي منذ تعارفا!
    انطلق السيسي وهو يصيح والشرر يندفع من عينيه: «ماذا تريدون.. إنتم عايزين يا تحكمونا، يا تموتونا؟ اهضموا ما أكلتموه قبل أن تفكروا في مزيد من الطعام. لقد خربتم البلد، وكرهتم الناس في الدين. أنتم ألد أعداء الدعوة الإسلامية، ولن أسمح بترويع الناس ولا إرهابهم. وأقسم بالله أن من يطلق رصاصة علي مواطن أو يقترب من منشأة عسكرية، لن يكون مصيره إلا الهلاك هو وكل من وراءه».
    امتقع لون الشاطر وأخذ يحاول تهدئة السيسي متلعثما، بينما انكمش الكتاتني في مقعده. وقال للسيسي: قل لنا ماذا تريد.. فرد عليه: ما نريده أعطيناه للرئيس في ثلاثة تقارير تتحدث عن خطورة الأوضاع وعن حلول مقترحة. ثم اعطي الكتاتني صورا من هذه التقارير وقال له : حلوا مشاكلكم مع الازهر والكنيسة والقضاء والإعلام والرأي العام.
    في نفس اليوم. اجتمع المجلس الأعلي للقوات المسلحة، واتخذ قراراً بالاجماع: إذا نزل عشرات الملايين الي الشوارع والميادين مطالبين بسقوط الرئيس، فسوف يؤيدهم الجيش.
    وقال السيسي لأعضاء المجلس إنه سيواصل جهوده عساه يقنع الرئيس بمطالب الجماهير وأبرزها إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
    كانت الشوارع في حالة احتشاد مبكر، وكان امام وزارة الدفاع اعتصام جماهيري مفتوح حتي ٣٠ يونيو.
    نزلت مركبات الجيش لحماية مدينة الإنتاج الإعلامي، ونزلت التشكيلات لتأمين العاصمة والمدن قبل المظاهرات المرتقبة.
    في يوم الأربعاء ٢٦ يونيو، المحدد للخطاب المنتظر لمرسي، جلس السيسي لمدة ساعتين مع الرئيس من الحادية عشرة ظهرا وحتي الواحدة، وطلب منه أن يعتذر للشعب، وأن يطرح مبادرات للتصالح مع الناس كمخرج من الأزمة. ورد مرسي قائلا: «الدكتور الكتاتني سيأتي وكل اللي بتقوله حننفذه».
    حاول معاونو السيسي منعه من حضور الخطاب بدعوي أنه ليس في مناسبة وطنية وإنما أمام أعضاء من حزب الحرية والعدالة. لكن الحقيقة أن هناك معلومات تواترت بوجود نية للقبض علي السيسي وقيادات الجيش عند حضورهم الخطاب واعتقال شخصيات سياسية وإعلامية وقضائية مع إذاعة الخطاب. جري إحباط هذه المحاولة التي سعي لتنفيذها نظام حكم الإخوان وكانت قوائم الاعتقالات في يد رئيس الوزراء هشام قنديل، لكن لم تقبل وزارة الداخلية وغيرها من الأجهزة تنفيذ أوامر الاعتقال.
    وأرسل معاونو السيسي في القيادة العامة للقوات المسلحة وحدات من القوات الخاصة لتأمين مركز المؤتمرات الدولي حيث كان مرسي سيلقي خطابه!
    ذهب السيسي إلي مركز المؤتمرات أملا في أن ينفذ مرسي وعوده. وعند مدخل القاعة قال له الكتاتني: «كل اللي قلته حيتعمل النهاردة».
    باستثناء الاعتذار الذي أبداه مرسي عن أخطائه، جاء الخطاب مناقضا في مجمله وتفاصيله لكل ما تم الاتفاق عليه، بل زاد النيران لهيبا!
    بدا السيسي طوال الخطاب مبتسما، لكنها كانت ابتسامة الدهشة من الخضوع للجماعة علي حساب مصلحة الدولة.
    وعندما انتهي مرسي من خطابه.. قال السيسي لنفسه: خلاص هما كده بيهددوا الشعب.

    11

    الثلاثون من يونيو.. كانت التقديرات تشير إلي احتمال نزول ما بين ٤ إلي ٦ ملايين مواطن. لكن المصريين فاجأوا العالم بنزول ٣٠ مليون مصري.
    في مقر الحكم.. كان مرسي في حالة نفسية سيئة، يشاهد الحشود في التليفزيون.. ويصرخ قائلا: فوتوشوب.
    وفي مجلس الوزراء. كان هشام قنديل يتناقش مع وزير الاستثمار يحيي حامد حول طعام الغداء.. هل حمام مشوي أم محمر؟!
    تابع السيسي مشاهد الجماهير التي فاقت توقعاته.. وقال لمعاونيه: «هذه حالة هجرة للمصريين.. هجرة من واقع موجود إلي دولة منشودة.. هجرة من واقع خافوا منه إلي مستقبل يأملون فيه».
    انتهت مهلة الأيام السبعة.. ولم يصدر بيان من السيسي أو الجيش، وبدأ شعور بالقلق يساور البعض.
    في اليوم التالي الأول من يوليو.. التقي السيسي مرسي.. قال مرسي: عدد المتظاهرين لايزيد علي ١٢٠ ألفا. فرد السيسي: سأحضر لك سيديهات لمشاهد مصورة من الطائرات لهذه المظاهرات.
    ثم قرأ السيسي علي مرسي البيان الثاني الخاص بمهلة جديدة مدتها ٤٨ ساعة. وقال له أمامك يومان لتحل المسألة.
    كانت الناس تنتظر بعد انتهاء المهلة الأولي بيانا يعلن زوال نظام الإخوان.. لكن السيسي رأي أن يعطي لمرسي فرصة جديدة عله يستجيب.
    انفعل مرسي وغضب بشدة من بيان الـ ٤٨ ساعة وشاهده يذاع علي شاشة التليفزيون وكان معه السيسي وقت الإذاعة.
    في نفس اليوم.. التقي السيسي ومعه اللواء محمود حجازي مدير المخابرات الحربية بمرسي. وجد مرسي أن الوعيد لا ينفع، فأخذ يراود القائدين اللذين هما في مكتبه عن شرفهما العسكري ويلمح الي رشوتهما.. وهو يقول: «اطلبوا أي حاجة. كل اللي انتم عايزينه حتخدوه»!
    ورد عليه السيسي وحجازي نحن لا نريد إلا مصلحة بلدنا وشعب مصر.
    في هذا المساء.. اتصل بي القيادي الإخواني الدكتور علي، وأخذ يقلل في حديثه معي من حجم الحشود الهائلة التي نزلت الشوارع، وكان في رأيه ان مهلة الثماني والأربعين ساعة مقصود بها القوي السياسية لا الرئيس. وقلت له: إن الفرصة الأخيرة أمامكم هي القبول بانتخابات رئاسية مبكرة أو استفتاء علي رئاسة مرسي.
    ولا أظن أن الشعب سيقبل اليوم غير رحيل النظام. فرد علي: سنشعلها حرائق.
    فقلت قبل أن أغلق الخط: لستم فقط مصابين بعمي البصر. بل أنتم أعمياء البصيرة!
    مضي يوم ٢ يوليو والناس في الشوارع، وحل يوم الثالث من يوليو موعد انتهاء مهلة الـ ٤٨ ساعة.
    كنت في مكتبي عندما جاءني اتصال من زميلي محمد صدقة المحرر السياسي بالمصري اليوم، وقال لي إنه كان يهاتف حارس الدكتور أحمد فهمي رئيس مجلس الشوري، فأخبره أنه في مبني القيادة المشتركة «مقر المخابرات الحربية» ينتظر خروج الدكتور فهمي.
    انتظرت قليلا ثم هاتفت الدكتور فهمي، وسألته عما توصل إليه مع قيادات المخابرات الحربية، تصور فهمي أنني علي علم بالتفاصيل، وروي لي أنه قد حمل برسالة إلي الرئيس مرسي قبل انتهاء المهلة ليقبل إما انتخابات مبكرة أو استفتاء علي رئاسته.
    واتصلت مجددا بفهمي بعد خروجه من لقاء مرسي، وعرفت منه أن كل ما يطرحه مرسي من حلول هو إجراء تعديل وزاري.
    وعلمت فيما بعد ان فهمي لم يكن وحده الوسيط الذي لجأ إلي السيسي في محاولة أخيرة لإيجاد حل يرضي الجميع أو حل يستطيع السيسي أن يقنع به الجماهير. كان هناك وسيطان آخران هما هشام قنديل ود. محمد سليم العوا، وخابت أيضا مساعيهما.
    بعدها بساعات .. التأم شمل ممثلي فئات المجتمع والقوي السياسية في مقر الأمانة العامة لوزارة الدفاع، وألقي السيسي بيان ٣ يوليو الذي أعلن زوال حكم الإخوان ورسم خارطة المستقبل.
    ***

    قصة ثورة ٣٠ يونيو عبرة وتذكرة لمن يعي ويتدبر إنها حكاية معجزة شعب في زمن عزت فيه المعجزات، وأسطورة جيش مدحه رسول الله ووصف رجاله بأنهم خير أجناد الأرض، وهي في المقام الأول آية من عند الله، لأناس خرجوا من غياهب السجون إلي أبهة الحكم، فاغتروا واستعلوا واستكبروا، فنزع الله عنهم الملك، وأعادهم الي حيث كانوا في السجون.