العثمانى الأخير: خطوط الحياة المتقاطعة

العثمانى الأخير: خطوط الحياة المتقاطعة

الأحد، 19 يونيو 2022 - 03:59 م

أخبار الأدب

بقلم : انتصار عبدالمنعم شهدت السنوات العشر الأخيرة، فيما يشبه الصرعة، صدور أعمال أدبية وكتب مختلفة تتناول التاريخ الإنسانى للممالك المتهاوية وشعوبها التى وجدت نفسها مجبرة على الرحيل عن منازلها، بحثا عن أرض بديلة تفتح لهم ولو باب صغير للعيش، وهكذا تعددت الروايات التى تتناول مآل الموريسكيين بعد سقوط غرناطة عام 1491 م وتنازل أبو عبد الله محمد الصغير، آخر ملوك غرناطة عن ملكه لملكى قشتالة وأراجون، لتحتل تلك الروايات أرفف المكتبات. وتتقدم على غيرها من أعمال على الرغم من الحس المأساوى الذى يسود أحداثها. ونستطيع أن نرجع ذلك إلى عاملين أساسيين؛ إما تأسيا على انحسار النفوذ العربى/ الإسلامى فى العموم. وما يمثله فى المخيلة العربية من أهمية، أو مطابقة الواقع المعاش لحالة الشتات التى عاشها الموريسكيون، ما بين تجاهل لمأساتهم، أو استغلالها فى تحالفات لا يهمها ما يجرى على أرض الأندلس فى شىء (1). وإذا كانت تلك الأعمال عنيت فى المقام الأول برحلة الشعوب المهجرين قسراً مثلما فعلت «رضوى عاشور» فى ثلاثية غرناطة، إلا أن هناك أيضا روايات عنيت بتقصى مصير من بقى من سلالة الحكام، أمراء وسلاطين وأباطرة وملوك، مثلما حدث مع الأميرة الروسية أنستازيا، أصغر بنات أخر قياصرة روسيا نيكولاس الثانى، ومن تبقى من الأسرة العلوية بعد نهاية الفترة الملكية فى مصر (1805م – 1952م) ورحيل الملك فاروق إلى منفاه فى إيطاليا. وتفرق أفراد العائلة فى مختلف دول أوروبا. وهناك روايات عنيت بتصوير مآل الفارين وقيام المنتصرين فى سلسلة من الأحداث تبدو فى ظاهرها تاريخية بما تحتويه من أحداث وأسماء حقيقية، ولكنها فى واقع الحال عمل أدبى وليس تأريخا بالمعنى الدقيق، ومنها رواية أمين معلوف «ليون الأفريقي» فى طبعتها الفرنسية عام1986، والترجمة العربية عام1997، واتساع فضائها المكانى ما بين الأندلس والمغرب ومالى ومصر والجزائر وتونس وتركيا وإيطاليا، وتناولها سقوط  ممالك (الأندلس) وصعود أخرى(الدولة العثمانية)، وبدايات عصر النهضة، ومآل من بقى من الأسر التى حكمت يوما أرضا شاسعة، ثم دار التاريخ دورته لتحل غيرها محلها. ومن الروايات التى تناولت مآل آخر سلاطين الدولة العثمانية وأبنائه وأحفاده، رواية «العثمانى الأخير» للروائى والصحافى «زكريا عبدالجواد».  وبداية من العنوان وهو العتبة الأولى للرواية، تثير الرواية عددا من التساؤلات، أغلبها يتعلق بمحاولة الفصل بين الحقيقى والمتخيل فى الرواية. فهل فعلا قابل الصحافى «المؤلف»، العثمانى الأخير بحكم عمله الطويل فى مجلة «العربي» الكويتية. وتنقله الدائم بين الدول لسنوات عديدة؟ فى واقع الحال، لا نستطيع أن نفصل بين التأريخ فى الرواية والتخييل السردى فيها، فقد امتزجا بصورة تامة، فى مجموعة من الاسترجاعات لأحداث تاريخية شهدت نهاية أنظمة وقيام أخرى، حروبا وصراعات، وتحالفات وثورات، وذلك فى الحوار الذى استطاع الصحافى أن يسجله مع  حفيد آخر سلاطين العثمانيين. وكما قال الكاتب الفرنسى «ستاندال» وهو يعلق على وصفه الدقيق للأماكن التى دارت بها معركة «واترلو»، فى روايته «صومعة بارما» : «الكتاب يذهبون إلى المعركة بعد نهايتها ويخترعون لهم وجودًا هناك»، وهكذا، من خلال بناء الرواية أدخل الصحافى نفسه فى مجريات الأحداث، محفزا الأمير على سرد تاريخه..  تبدأ الرواية فى فضاء مكانى داخل قصر طوب كابى فى مدينة اسطنبول التركية، والذى يعد أكبر قصور المدينة ومقر سلاطين الدولة العثمانية لأربعة قرون من عام 1465م إلى 1856م، عندما يلفت انتباه الصحافى»علاء» الذى سافر إلى إسطنبول، عام 2005م  لتغطية وقائع ندوة دولية بمناسبة مرور ثمانية عقود على سقوط الخلافة العثمانية، رجل عجوز فى العقد التاسع من عمره. وهو يتجول فى القصر الذى كان قصره يوما ما، ويدرك أنه الأمير عثمان حفيد السلطان عبد الحميد، ترافقه زوجته الأميرة عائشة ابنة ملك أفغانستان الأسبق. ويقرر الصحافى أن ينتهز الفرصة ليحقق سبقا صحفيا بإجراء حوار مع الأمير الذى غادر تركيا مطرودا مع عائلته وهو فى الثانية عشرة، ولو لم تكن إحدى السفن قد وزعتهم فى أرجاء الأرض لكان هو الآن سلطانا لأنه الأكبر بين الأحياء من عائلة سلاطين العثمانيين.. وبعد مراوغات ومحاولات للرفض وتنقل من مدينة إلى أخرى، يفلح الصحافى فى انتزاع موافقة الأمير على تسجيل قصة حياته التى بدأها متحفظا، ثم تفتحت شهيته لاسترجاع تاريخ عائلته وتاريخه الشخصى ما بين فرنسا ونيويورك وحيدر أباد وإقامته الطويلة فى الإسكندرية وسط الجاليات الأجنبية المتعددة، وتجارته مع الإنجليز حتى انتهاء حكم أسرة محمد على فى 1952، وعودته للعيش فى نيويورك، ومحاولات عدد من أسرته، ومنهم والده تقلد الحكم فى أماكن كانت خاضعة للدولة العثمانية من قبل، وكيف باءت كل المحاولات بالفشل..  تسترجع «العثمانى الأخير» التاريخ، لا لتحكم عليه، ولكن فى محاولة للنظر إليه من جوانبه المتعددة الأوجه. وتسير الرواية فى خطوط متقاطعة ومتوازية أحيانا، فبينما يرجع العثمانى الأخير إلى وطنه أخيرا. وينتهى شتاته الطويل، مطمئنا إلى أنه حين يموت سيدفن فى وطنه، هذه الأمنية التى لم ينلها أحد من أسرته، فى تلك الأثناء نفسها، تتفكك حياة الصحافي. ففى الوقت الذى كان يعمل فيه لتحقيق سبق صحفى ييسر له طريق الارتقاء فى العمل، يفقد عمله لتجاوزه فترة الإجازة الممنوحة له. وتشتد حدة الخلافات مع زوجته لتختفى هى وأطفالهما ولا يفلح فى العثور عليهم.. وتتجلى المفارقة فى عجزه أمام أحداث الحاضر فى حين كان زملاؤه يطلقون عليه رجل المهام الصعبة، لم يكن يهوى التاريخ وحكاياته المتشابهة، ليجد نفسه غارقا فى التاريخ مما أفقده حاضره.. وفى الوقت الذى كان يستمع فيه إلى الأمير وهو يقص عليه كيف تفرق الناس من حوله وهو يدرس فى فرنسا بعدما علموا أن مجد أسرته قد انتهى، كانت زوجته تخطط لتبتعد عنه وهو يظن أنه يبنى لنفسه مجدا بكتابة قصة العثمانى الأخير. بطلان للرواية، العثمانى الأخير، والصحافى، أحدهما يستعيد تاريخه وحقه فى الخلود فى تراب وطنه، وتنتهى مرحلة صراعه مع التاريخ، بينما يعيش الآخر صراعا نفسيا داخليا أشد قسوة ويفقد عمله وأسرته.. وهكذا تاريخ العالم، ممالك تقوم وأخرى تزول، والتاريخ لا يتوقف.. اقرأ ايضا | «خديوي».. تاريخ اللقب من الدولة العثمانية حتى إعلان السلطنة المصرية