خالد محمود يكتب .. الواقعية الجديدة بين كارلا سيمون و أحمد عبدالله
الخميس، 17 نوفمبر 2022 - 10:41 ص
أخبار النجوم
للسينما الإسبانية واقعية بمذاق خاص، تصطدم فيها المشاعر الصادقة بمقتضيات العصر الحديث وتطوراته، والتي تهز الأرض من تحت قدميك، بل وقد تمحى ماضيك وحاضرك نفسه .
في فيلمها الجديد “الكاراس”، الذي يعرض بمهرجان القاهرة السينمائي، تلتقط المخرجة كارلا سيمون ذلك الخيط الرفيع بين براءة الحياة والنيل من خصوبتها بحجة التطور الصناعي للمجتمعات التي تعودت مواصلة العيش في مناخها البكر وطقوسها الأصيلة.
في الفيلم نرى عائلة “سولي” التي تمضي كل صيف في قطف الخوخ من بستانهم في الكاراس، وهي قرية صغيرة في إسبانيا، لكن محصول هذا العام قد يكون الأخير، لأنهم يواجهون قرار الإخلاء، حيث تشمل الخطط الجديدة للأرض قطع أشجار الخوخ وتركيب الألواح الشمسية عليها وفقا لمنشأت صناعية تفرضها الأوضاع الجديدة لوريث مالك الأرض، مما يتسبب في حدوث صدع داخل الأسرة الكبيرة التي حاولت أن تكون متماسكة طوال الوقت متظاهرة بأن المشكلة ستختفي، فهم للمرة الأولى يواجهون مستقبلاً غير مؤكد ويخاطرون بخسارة أكثر من منازلهم وأرضهم، فقد يخسرون زراعتها للأبد ومصدر رزقهم الوحيد .
وفق أسلوب السرد بالسيناريو الذي كتبته كارلا سيمون مع أرناو فيلارو، حالة الفيلم تتحول شيئا فشيئا من لحظات حياتية صادقة ومرحة، إلى ما يشبه الكابوس لكل الأفراد، ليحقق الفيلم توازناً بارعاً بين الذكريات الشاعرية والحزن على مكان عزيز شهد نمو أجيال.. أطفال ومرهقين وكبار.. وشهد أيضا أيام بحلوها ومرها.. قسوة العمل وفرحة جني المحصول.. إنها حقا دراما صادقة عن الصدام المؤلم بين الزراعة التقليدية والصناعة المرجوة .
استعانت المخرجة بممثلين أغلبهم غير محترفين، وبرعت في ظهورهم بأداء مفعم بالحيوية ومستقبل مشرق، خاصة الأطفال، وهم جوردي بوجول دولسيت، آنا أوتين، زينيا روزيت، ألبرت بوش، آينت جونو، التى جسدت دور “إيريس” الفتاة المراهقة، جوزيب أباد، مونتسي أورو وكارليس.. ليقدموا أداءً طبيعيا طازجا بتعبيراته، وقد عبروا بصدق عن حالة المزاج السائد.. حزن لأسلوب حياة تحت التهديد وانقلب مفاجئ لإستقرار، وفي لغة سينمائية بديعة أن هذا الحزن كان يخفف عنه من خلال الصورة الممتعة لجمال وفضاء الأرض داخل البستان الذي تعتني به الأسرة، مع صفوف من الأشجار المورقة تعطي ثمارها النضرة عند سفح التلال الصخرية.
في النظرة الأولى للفيلم تهدئنا كارلا سيمون في شعور زائف بالوئام السعيد من خلال الافتتاح بـ3 أطفال متحمسين، إيريس (عينيت جونو) وابني عمها التوأم (بيري وباو)، جويل وإسحاق (ريفيرا)، يلعبون لعبة سفينة فضاء صاخبة في سيارة قديمة معطلة، لكن عندما يبدو أن رافعة تسحب ما على الأرض، نعرف ان عائلة “سولي” التي قامت بزراعة الأرض منذ الحرب الأهلية الإسبانية، ستؤل إلى مصير آخر يهدد مصدر رزقهم فجأة.. في مشهد صعب عند عقد بينول (جاكوب ديارتي) اتفاقية مع شركة للطاقة البديلة لاستبدال الأشجار بألواح شمسية، من المثير للسخرية أن تظهر الألواح الشمسية الصديقة للبيئة كشرير في هذا الفيلم .
تكمن قوة عمل كارلا سيمون في سحره المخادع وسط دفء المناخ، وهو يفتح المجال لسرد عاطفي عميق بجروحه، بحاجة إلى المضي قدمًا والتطور، حتى لو كان ذلك يعني أن تقول وداعًا لشيء تحبه وتهتم به.
واقعية على الطريقة المصرية
ينتمي المخرج أحمد عبد الله إلى الموجة الجديدة للسينما المستقلة في العالم العربي، بأفلامه الأولى “هليوبوليس” (2009) و”ميكروفون” (2010)، وهو يعود إلى مهرجان القاهرة السينمائي مع العرض العالمي الأول لفيلمه السادس “19 ب”، الفيلم المصري الوحيد في تشكيلة المسابقة الدولية.
وهذه المرة يظهر عبد الله كمؤلف أيضا، حيث يركز في سرد متعدد الطبقات على حارس العقار المسن “سيد رجب”، لفيلا مهجورة في القاهرة تُعرف باسم “19 ب”، حيث الملاك غابوا لفترة طويلة، لدرجة أن لا أحد يعرف حتى كيفية الاتصال بهم، والمبنى ينهار، ومع ذلك فإن القائم بالرعاية سعيد بحياته المزدحمة هناك، حيث يتقاسم المكان مع الكلاب والقطط المهجورة، ويعاملهم برفق شديد، ويشرب الشاي مع بواب أحد المباني الشاهقة بجوار المبنى، لكن الأمور تتغير عندما يتعرض الرجل العجوز للتنمر والتهديد من قبل المحتال العدواني السابق نصر (أحمد خالد صالح)، الذي يعمل كسايس للسيارات في الشارع.
الفيلم يؤكد التطور الكبير في لغة وفكر أحمد عبدالله السينمائية، وهو يتجه نحو واقعية شديدة الإنسانية دون افتعال، واستطاع عبر أسلوب وحبكة محكمة أن يدخلنا بنعومة إلى عالم الحارث الذي جسده بإقتدار سيد رحب، في رحلته مع صدام المشاعر، بين ضميره في الحفاظ على كيان المبنى الذي يؤتمن عليه، ورضوخه ثم تمرده على من يحاولون استغلاله، وتجلى ذلك في أكثر من مشهد، بين شاعري وهو يتعامل مع الكلاب والقطط، وكذلك مع ابنته (ناهد صلاح)، أو واقعي وهو يتعامل مع بلطجي الشارع الذي أراد استغلال العقار لتخزين بضاعته المشبوهة، ووجد “عبد الله” حلا لفض الاشتباكات، حينما وقع جزء من البيت فوق رأس البلطجي ليفارق حياة الحارس والدنيا كلها .
لم يأت أصحاب العقار الغائبين منذ سنوات، وترك عبدالله مصير بطله مفتوحا لمواجهة مصيره بمفرده، والذي شعر بإرتياح لذلك الحل .
الموسيقى والديكور والإضاءة خلقت أجواءً جمالية الصورة وطعم والحكاية، كما منح السيناريو شاعرية خاصة، فالأساس هنا في هذا العمل ليس الحوار، لكن المشاعر وإحساس الممثل وطاقته الداخلية.
وأعتقد أن الفيلم سينال حظه من إحدى جوائز لجنة تحكيم مهرجان القاهرة السينمائي برئاسة اليابانية ناعومي كواسي.