زيارة بطعم الحريق
الثلاثاء، 14 مايو 2024 - 01:20 م
أخبار الحوادث
..تستدعى فى بعض الأحيان أحداث الحاضر التاريخ وتجعلك تتساءل هل هذا الحاضر غير مدرك لحقائق التاريخ؟ أم أن الأمر لايعدو أكثر من مرور سريع لحدث في الحاضر ارتبط بظلال بعيدة للتاريخ؟
تدافعت أسئلة أخرى كثيرة مع هذين السؤالين أثناء متابعة زيارة أحمد فؤاد الثانى ونجله وبعض أفراد عائلته إلى مصر قبل أيام وتجوالهم فى عدد من الأماكن التى ارتبطت بحكم الأسرة العلوية حتى قيام ثورة 23 يوليو.
صور الزيارة والفيديوهات التى انتشرت على وسائط التواصل الاجتماعى صنعت تخيلات طريفة كأن الأنتيكات المعروضة للبيع فى واجهات المحلات المتخصصة والقطع الأثرية المحافظ عليها فى الصناديق الزجاجية بالمتاحف قررت فجأة التحرر من أسرها والانطلاق لتتجول بيننا وفى نفس الوقت توفر علينا عناء شراؤها من المحلات أوالذهاب لمشاهدتها فى المتاحف.
بعيدًا عن التخيلات الطريفة فزيارة بقايا الأسرة العلوية فى هذا الحاضر دائما ما تتبعها فى حركتها ظلال التاريخ لسبب بسيط أن هذه الأسرة أصبحت جزءًا من ملفات التاريخ الموضوعة على الأرفف فى المكتبات أويتم دراستها فى الأقسام المتخصصة بالجامعات ولا يشكل ظهورها فى الحاضر سوى مشهد فلكلورى ممزوج بترويج تجارى لبعض الأماكن، أوشخصيات تريد طربشة حاضرها أى ارتداء الطربوش والالتصاق بمظاهر هذه الفترة لتحقيق تمايز اجتماعى زائف ومضحك.
هذه الزيارة فى حاضرنا شاءت أم أبت تجعل الظلال أكثر حدة ووضوحًا لتستدعى التاريخ من جديد وتحفز محبى التنقيب فى ملفات هذا التاريخ لمزيد من البحث، لكن تاريخ هذه الأسرة التى حكمت مصر ما يقرب من قرن ونصف ليس هينًا وتتراكم تفاصيله وإذا كانت بدايات الحكم جيدة وقوية مع محمد على باشا مؤسس الدولة المصرية الحديثة فى نسختها الأولى إلا أن هناك محطات كثيرة فى حكم هذه الأسرة لا تحمل فى طياتها سوى الكوارث وعلى رأسها الاحتلال وإغراق مصر فى الديون حتى نصل إلى المحطة النهائية من حكمها بوصول فاروق الأول إلى عرش مصر وهى من أكثر الفترات اضطرابًا فى التاريخ المصرى الحديث.
عندما نحاول البحث فى تفاصيل هذه المحطة المضطربة والنهائية أو فترة حكم فاروق ستجد دوامة من التفاصيل وآلاف من الأحداث التى تؤكد أن حكم هذه الأسرة قد انتهت مدة صلاحيته ووجب عليها الرحيل بكل إرثها فى قطار التاريخ ولا يتبقى منها إلا الزيارات ذات الطابع الفلكلورى والأنتيكات التى قررت الهروب من واجهات المحلات لتتجول بيننا فى الحاضر.
رغم كثافة التفاصيل والأحداث فترة حكم فاروق إلا أن هناك حدثًا مركزيًا سلم لهذه الأسرة شهادة نهاية صلاحية حكمها ووقع على ملفها بالحفظ فى مخازن التاريخ وهو حريق القاهرة الذى انفجرت أحداثه فى 26 يناير 1952 عقب يوم واحد من المعركة البطولية التى خاضتها قوات الشرطة المصرية ضد الاحتلال البريطانى فى مدينة الإسماعيلية.
مازال حريق القاهرة يمثل حتى الآن لغزًا فى ملابساته ومن كان ورائه لكن المؤكد أن حدثًا بهذا الحجم والفوضوية يشير بقوة أنه لم يكن فى وقت حدوثه نظام حكم قادر على إدارة البلاد بل وصل به الانهيار والتحلل إلى درجة احتراق العاصمة وهو يقف متفرجًا إن لم يكن مشاركًا فى هذا الإجرام.
احتفظت صحافة أخبار اليوم العريقة بأرشيف غنى يستطيع بالكلمة والصورة تقديم رواية موثقة حول أحداث مصر ومازالت التغطيات الصحفية التى واكبت هذه الأحداث ساخنة فى محتواها كأن الصحفيين الذين حرروا مادتها انتهوا منها قبل قليل وليس من 72 عامًا.
استطاع أرشيف مجلتنا العزيزة "آخرساعة" تقديم تغطية شاملة ودقيقة لحريق القاهرة أو كما أطلقت عليه "آخر ساعة" فى تغطيتها عنوان "أسرار ما حدث فى القاهرة يوم السبت الأسود"، للحقيقة أثناء تصفح هذا الأرشيف الغنى لم تكن تفصيلات أحداث الحريق ذاته هى موضع الاهتمام بل كان مايهم الأخبار والتقارير والتحقيقات وصفحات أخبار المجتمع التى سبقت أو تلت الحدث بأيام لأن هذه المادة المكثفة من المعلومات تعطى صورة دقيقة عن طبيعة الطبقة الحاكمة والنظام السياسى الذى احترقت عاصمته دون أن يدرى أو يدرى حتى وقعت هذه الكارثة وماذا كان رد فعله تجاهها؟
الفترة الوجيزة التى سبقت الحريق نجد أننا أمام بلد ومجتمع فى حالة غليان ومحاصر بكم من الكوارث غير العادية التى تجعل حياة المصريين شبه مستحيلة مع بلادة غير طبيعية من النظام الملكى الحاكم فى التعامل مع هذه المصائب التى تكفى واحدة منها لسقوط عشرات الأنظمة السياسية وليس نظام واحد.
" الدوامة التى تبلع 50 ألف مصرى كل عام" تتصور للوهلة الأولى أن هذا العنوان يغطى حوادث الغرق على الشواطئ فى الصيف لكن التحقيق يصف حال نصف مليون مصرى يعانون من أمر أخر تماما " نصف مليون من المصريين وجوههم هزيلة صفراء وعيونهم الجاحظة فى محاجرها الذابلة وصدورهم الواهنة حبلى بالموت والفناء،هؤلاء هم الذين يدورون فى الدوامة المرعبة ..دوامة السل .. ولايجدون يدا تمتد إليهم. ..يدورون فيها حتى يصلوا إلى قاعها .. ثم يختفون " يغطى هذا التحقيق معاناة مرضى السل فى مصر وهنا لا نتكلم عن أزمة عدم توافر الدواء مثلا بل لا توجد أماكن لعلاج المرضى فى مصر كلها ويذكر التحقيق إحصائية مخيفة فلايوجد سوى 25 مصحة للعلاج على مستوى مصر وحسب تعداد السكان وقتها توضح الإحصائية أن لكل 800 ألف مصرى مصحة علاج ولكن الأغرب هو معاملة النظام الملكى للمصابين بالمرض فعندما تظهر أعراض المرض على عامل أو موظف يتم طرده على الفور من عمله ولايتمتع بأى تغطية تأمينية أما الفلاحون فيصف التحقيق حالهم "وطرد الإقطاعيون فلاحيهم من أول يوم" ويطالب التحقيق بوضع تشريع فى القانون يوفر لهؤلاء المرضى وأسرهم أى مساعدة اجتماعية لأن رب الأسرة الذى يصاب بهذا المرض تتشرد أسرته من بعده.
فى نفس الفترة الزمنية التى سبقت الحريق بأيام نرى تغطية صحفية عن أسر الشهداء والمصابين فى أعمال المقاومة البطولية ضد المحتل البريطانى فى مدن القناة، تتصور أن التحقيق يروى مظاهر الاحتفاء بالمصابين والشهداء وأبنائهم لكن عنوان التغطية صادم " أسر الشهداء والمصابين فى القناة هل نستهما مصر؟" تنقل التغطية لقاءات مع أسر الشهداء والمصابين تواجه كل هذه الأسر خطر الطرد من الغرف البائسة التى تسكن بها أو طردت بالفعل لعدم قدرتها على دفع الإيجار لاستشهاد عائلها أو إصابته بإصابة تمنعه من العمل.
فى نفس الوقت كانت هذه الأسر تتوقع الحصول على أى مساعدة لأن الصحف كانت تنشر قوائم بالتبرعات التى يقدمها النبيل فلان والأميرة علانة والوجيه الأمثل لدعم أعمال المقاومة فى القناة وأسر الشهداء والمصابين ولكن هذه التبرعات الوهمية لم تصل لهم وعندما ذهبت أسر الشهداء والمصابين إلى مبرة محمد على المسئولة عن جمع التبرعات طردتهم ولم تعطهم شيئًا أما حكومة جلالته فلم تسمع عنهم بالمرة.
تصف التغطية اللقاءات التى أجرتها مع أسر الشهداء والمصابين "نعم إنها قصص محزنة ..مخزية ولكنها قصص حقيقية " فأحد المصابين واسمه عبد السلام رياض تعرض لإصابة أقعدته عن العمل ولم تقدم له أى مساعدة مما اضطره للتسول بعد أن طرد من بيته من أجل الإنفاق على زوجته وأولاده الخمسة والأمنية الأكبر التى يرجوها المصاب عبد السلام رياض من حكومة جلالته هى الحصول على " بطانية " لأنه لايستطيع هو وأولاده الخمسة وزوجته تحمل برد الشتاء.
أما أسرة الشهيد حنفى زهران فابنه الأكبر يعمل بقروش قليلة من أجل الإنفاق على أمه وإخوته الصغار وكلما يذهب إلى مبرة محمد على من أجل الحصول على أى مساعدة من التبرعات يصرفونه وأخيرًا طالبوه بعدم المجيئ ،وتوالت فى التغطية المزيد من القصص الحقيقية والحزينة والمخزية فى تفاصيلها لجلالته ونظامه السياسى ..إذا كان هناك نظام.
تتصور أن كارثة بحجم حريق القاهرة ستجعل هذا النظام ينتبه أو هذه الطبقة الحاكمة المرفهة ستتخلى عن ترفها أوتحاول على الأقل مراعاة شعور القاهرة المكلومة ومئات الضحايا والمصابين، لكن ما كان يشغل الأسرة العلوية ومجتمع النصف فى المائة وقتها حدث آخر تمامًا وهو زفاف النبيلة ألفيا كريمة النبيل عباس حليم إلى الوجيه شهريار راتب والذى اهتمت بأدق تفاصيله صفحات المجتمع فالزفاف دعا إليه أكثر من مائة من ألمع سيدات ورجال المجتمع وأقيم فى قصر الأمير سعيد طوسون بالزمالك والمضحك أن صفحات المجتمع تصف الحفل بالبساطة رغم أن صور حفل الزفاف وما كتب عنه لايوحى بهذه البساطة إطلاقا ولعل كلمة البساطة تلك ناتجة عن شعور بالذنب عند كاتب الموضوع بأنه يغطى تفاصيل حدث من هذه النوعية والقاهرة محترقة لكن بالتأكيد أصحاب حفل الزفاف لم ينتابهم أبدا هذا الشعور بالذنب.
لم تستطع كلمة البساطة إنقاذ كاتب الموضوع وهو يصف تفاصيل الحفل "صفت الموائد فى صالات القصر الواسعة الفخمة " أو ملابس الأميرات والنبيلات اللائى حضرن الحفل ليباركن الزفاف السعيد وكان هناك احتفاء خاص بسفير تركيا الذى حضر الحفل أو بمصطلح الأسرة العلوية سفير الباب العالى .
كأن الأسرة العلوية لا يشغلها وسط هذا الاضطراب سوى حفلات الزفاف والمآدب فجلالته أقام مأدبة احتفاءً بأمراء الأسرة العلوية الأمراء محمد عبد المنعم وسعيد طوسون ـ هو نفسه صاحب القصر الذى أقيم به حفل الزفاف ــ والأمير اسماعيل داود وعشرات من الأمراء الآخرين غير النبيل عباس حليم ــ والد العروس بحفل الزفاف ــ .
بعيدا عن حفلات وموائد جلالته واسرته المنفصلة تماما عما يحدث فى مصر وبسبب حجم الاضطراب وكارثية حريق القاهرة تم استدعاء الجيش وإعلان الأحكام العرفية لحفظ النظام ومنع الدولة من الانهيار الكامل وهنا تقدم التغطيات الصحفية صورة دقيقة بعد نزول القوات إلى شوارع القاهرة فتؤكد هذه التغطيات عودة الانضباط والأمان إلى القاهرة التى عانت مصيبة الحريق وتقدم عشرات من الروايات عن حسن تعامل قوات الجيش مع المواطنين بعد فرض حظر التجوال والتدخل الفورى لنجدة أى مريض يحتاج مساعدة طبية.
لقد جعل حريق القاهرة قبل 72 عاما شتاء القاهرة ملتهبًا وكشف أيضا هشاشة النظام الملكى الذى انتهت صلاحيته ليدخل مخازن التاريخ ولم يبق منه الآن إلا زيارات وأنتيكات فلكلورية تجر وراءها ظلال تاريخ محمل بطعم الحريق وبلاهة المطربشين.