خالد محمود
خالد محمود يكتب l «داهومى».. سحر السينما فى كشف نوايا الاستعمار لنهب تراث الشعوب
الخميس، 14 نوفمبر 2024 - 12:01 م
تبقى السينما وثيقة تاريخيّة كاشفة لأحداث ووقائع تاريخيّة وجرائم إنسانية صاغها الاستعمار في حق تراث الشعوب ومقدراته، وعلى شاشة مهرجان القاهرة السينمائي، يعرض الفيلم السنغالي الفرنسي “داهومي” للمخرجة الشهيرة ماتي ديوب، الذي يعد عملاً فنيًا شعريًا وغامرًا يتعمق في وجهات نظر حقيقية حول قضايا بعيدة المدى تتعلق بالاستيلاء على كنوز وطن وتقرير المصير ثم عملية الاسترداد، تدور أحداث الفيلم الوثائقي في نوفمبر 2021، ويرصد 26 كنزًا ملكيًا من مملكة “داهومي” من المقرر أن تغادر باريس وتعود إلى بلدها الأصلي، جمهورية بنين، باستخدام وجهات نظر متعددة، تتساءل ديوب عن كيفية استقبال هذه القطع الأثرية في بلد أعاد اختراع نفسه في غيابها.
الفيلم الفائز بـ”جائزة الدب الذهبي” في مهرجان “برلين” السينمائي الدولي 2024، أحد أكثر الأفلام الوثائقية إبداعًا لهذا العام، كما تم ترشيحه لجائزة اختيار النقاد لأفضل فيلم وثائقي تاريخي وأفضل رواية، وهو بحق مؤثر، لكنه فريد من نوعه، وكان ضروريا ليكون بمثابة الدرس، لكن من حاول نهب شيء كبير تحت وطأة احتلال، حيث تقوم المخرجة بالعودة إلى تاريخ الاستعمار الفرنسي للسنغال، ودول أفريقية أخرى.
وفي تفاصيل سياق الأحداث، ومع نهاية القرن التاسع عشر، نهب الاستعمار الفرنسي آلاف القطع الأثرية من أفريقيا، وفي نوفمبر 2021، كانت 26 من الكنوز الملكية لمملكة “داهومي” على وشك مغادرة باريس للعودة إلى وطنها الأصلي، جمهورية بنين، بعد قرن من الزمان، إنها نظرة جديدة من الحاضر إلى الماضي.
يضم “داهومي” تعليقاً صوتياً مؤثراً على المنحوتات، بلغة “الفون” الأصلية للمملكة، ومن منظور أحد التماثيل التي يتم إستردادها، ويتحدث بزمن المستقبل، مما يضيف لمسة من الخيال الدرامي، والأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو محادثات الطلاب وهم يناقشون ما يعنيه الآن استعادة هذه القطع الأثرية وما تعنيه هذه الأعمال باعتبارها قطعاً من تاريخهم وثقافتهم والخطاب الجيوسياسي الحالي.
يعيش الفيلم الوثائقي “الهجين”، في تقاطع الصدمات التي تلت الأجيال والمصالحة، مما يجعله لقطة قوية لأحداث مماثلة تتكشف في جميع أنحاء العالم في ثقافات مختلفة، ويتعلق الأمر بالفن والخسارة والذاكرة والقمع واستعادة التاريخ للأجيال القادمة للتعلم منه، ولا يتجاوز طول فيلم “داهومي” الساعة الواحدة، لكن نظرة ديوب المختصرة والإبداعية إلى إعادة القطع الأثرية المسروقة والمنهوبة إلى دولة أفريقية بعد أكثر من قرن من الزمان، تخلق مساحة للحوار حول كيفية تسليم مثل هذه الأشياء وتقديمها في ظل ثقافة المستوطنين.
“داهومي”، مملكة سابقة تقع داخل جمهورية بنين في غرب إفريقيا، طوال تسعينيات القرن التاسع عشر، نهب المستعمرون الفرنسيون الغزاة واستولوا على أكثر من 7 آلاف عمل فني ونقلوها خارج البلاد، وكان العديد منها موجودًا داخل متحف الإنسان (المعروف آنذاك باسم متحف الإثنوغرافيا في تروكاديرو)، وفي عام 2016، قدم الرئيس باتريس تالون طلبًا رسميًا إلى الحكومة الفرنسية لإعادة القطع الأثرية المسروقة إلى بنين، ولكن لم يتم إحراز أي تقدم فعال بشأن هذه القضية حتى عشية عيد الميلاد عام 2020، عندما صدر قانون يضمن إعادة هذه المعالم الثقافية إلى موطنها المناسب.
عندما يتم إعادة القطع الأثرية التي تم الاستيلاء عليها، تبدأ الأمور في التأزم، ليس فقط هناك السؤال حول المدة التي قد تستغرقها الآلاف من القطع الأخرى للعودة - إذا كانت ستعود على الإطلاق أو إذا كانت لا تزال موجودة - لكن أيضًا فيما يتعلق بكيفية عرضها في سياق مناسب، وكيف يمكن لشعب تم إبعاده عن تاريخه الثقافي لأكثر من قرن من الزمان أن يبدأ في إصلاح نفسه؟.. في البداية، يتم استقبال القطع الأثرية وكأنها أبطال عائدون.
وكما الحال مع أعمالها الأخرى، فإن أحدث أعمال ديوب هو عمل سياسي واضح وصدى تاريخي ينظر إلى الأجيال القادمة طلباً للتوجيه واليقظة، وبينما نشاهد هذه القطع الأثرية وهي تُعبأ في صناديق في فرنسا لشحنها إلى الخارج، نشعر بالدهشة من العمل البدني المبذول، إلى أن يدرك المشاهد تدريجياً عمق ونوايا عقلية المستعمر وعزم فرنسا على احتلالها ومحو تاريخ الأجداد.
إن جهود الترميم والإعادة إلى الوطن لا تهدف إلى استعادة التاريخ، بل إلى رعايته أيضاً، ويصبح الأمر أكثر غموضاً عندما تستمر الأجيال الأصغر سناً المكلفة برعاية هذه القطع الأثرية في المستقبل في مناقشة ما إذا كانت هذه العلامات التي تدل على الماضي مادية أم غير مادية لحياتهم؟، والأمر الأكثر إثارة للدهشة أنه من غير الواضح ما إذا كانت جهود الحكومة الفرنسية تهدف حقاً إلى المصالحة، أم مجرد خدعة تهدف إلى تعزيز العلاقات في المنطقة في وقت يتضاءل فيه نفوذ فرنسا في أفريقيا؟
كفيلم وثائقي، يحقق “داهومي” نوعًا من الكمال الشعري، وتجد ديوب أوجه تشابه قوية تجعل هذا العالم الجيوسياسي والثقافي الصغير يتردد صداه على نطاق عالمي.. حيث تم ترقيم القطع الأثرية بحيث تبدو مقنعة ومرعبة مثل تجريد العبيد من إنسانيتهم، ويقدم صوت الماضي المزعج أفكارًا، لكنه لا يفرض أو يحرف المناقشات التي تدور على الشاشة، لا تزال القطع الأثرية مغلقة خلف الزجاج، حيث لا يستطيع أحفاد أسلافهم التواصل بطريقة ذات مغزى، كل هذا يرقى إلى عمل عظيم ذي قيمة تاريخية وتعليمية يشعل ويدعو إلى محادثة حول المشاعر والأحداث التي لن يتم التوفيق بينها أو تفكيكها بالكامل في أي وقت قريب.
فيلم ديوب مليء بالأفكار حول أهمية وجمال الترميم، وقد تم تصويره وتسجيله بشكل جميل مع مشهد صوتي ساحر، تمكنت المخرجة بمهارة من دمج الخيال بالواقع.
وأخيرًا، نتوقف عند المخرجة مأتي ديوب، لقد جعلتها أعمالها السينمائية المتنوعة أحد ممثلي الموجة الجديدة من الثقافة الأفريقية وثقافة الشتات الأفريقي، فاز فيلمها الروائي “أتلانتيكس” بالجائزة الكبرى بمهرجان “كان” عام 2019، وترى السينما كأداة لإستعادة الصور المفقودة وطرح تساؤلات حول التمثيلات الاستعمارية المهينة وابتكار أبطال وبطلات جدد.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة