اللوحات للفنان: تيسير حامد
اللوحات للفنان: تيسير حامد


صباح يشرق كالأمس

أخبار الأدب

الخميس، 14 نوفمبر 2024 - 01:07 م

ناصر كمال بخيت

كلما أفكر فى الواقع الذى يعيشه رجل مسن مثلى على أعتاب الخمسين من العمر، تبدو فكرة السفر إلى الماضى جذابة جدا. حيث يمكننى العودة لريعان الشباب عندما كنت طالباً فى جامعة جنوب الوادى، أرتاد حفلات الجامعة فى التسعينيات مع زملاء الدراسة لنغنى معاً لمحمد منير عن الحبيبة السمراء، أو يخفق قلبى لرؤيتها صباحاً وأشم رائحة الياسمين عند رؤيتها مساءً. الآن يزداد خفقان قلبى لعلة فيه، وما عاد يختبر تلك المشاعر الجميلة، كنت أكتب فيها الشعر وأخلد قصتنا بسرد أنشره فى الصحف والمجلات. ربما لو عدت ثانية أهديها تلك السلسلة الفضية التى اشتريتها لها وبقيت محتفظاً بها طوال السنوات الماضية.

رقدت فى هذه الليلة على السرير فانتابنى أرق شديد. أمسكت برواية «آلة الزمن» لأعيد قراءتها من جديد. بعد أن قطعت شوطاً كبيراً فيها، ألحت على ذهنى أسئلة كثيرة: هل للزمان وجود مادى نحس به؟ بالطبع هو يختلف عن المكان الذى يحتاج لآلة للتنقل فيه رغم اختلاف الزمان عبر الحدود المكانية على الأرض وفى الكون، أو ما أسماه «أينشتاين» الزمكان. وكما تختلف البيانات التى نحصل عليها من شىء ما تبعاً لموقعنا منه، فإن رؤيتنا للزمن أيضاً تختلف عبر النقطة التى ننظر فيها إليه.

لقد أصبح عقلى مثل دوامة ضخمة لكثير من الأفكار، حتى أننى بت خارج حدود الغرفة التى أسكن فيها وتهت فى عالم غريب مجهول. تركتنى فيه ولم أقاوم للعودة إلى عالمى الذى أصبحت فيه ضعيفاً لا أقوى على أبسط الأشياء، وكأننى فى آلة زمن تسافر عبر الزمن. لقد وجدتنى فى متاهة أو نفق ما أسير بسرعة قصوى ولا أدرى إذا كان للأمام أو للخلف، لأن المكان هنا قد تلاشى وصرت موجوداً فيما يشبه المزيج بين الوجود والعدم، ولكن وجود مختلف فى طبيعته عن ذلك الذى على الأرض، حيث اختفت من ذاكرتى كل المعلومات التى خزنتها طوال فترة حياتى وصرت كائناً يبحث عن ذاته داخل دائرة لم تستقر على هدف ما، حيث تمضى نحو المجهول.

فتحت عينى لأجد نفسى داخل غرفة صغيرة مألوفة لى. نظرت حولى لأتأكد مما ظننته. وجدت لوحة الملاحظات كما هى على الجدار، وعلى المكتب اللاب توب الخاص بى وبجانبه هاتفى الجوال. تغطى النافذة الستائر المعتادة ذات اللون البنى الخاصة بالجامعة، وخلف السرير الذى أنام عليه يقبع الحمام الوحيد بالغرفة. هرعت لأنظر عبر النافذة، فوجدت الثلوج تغطى مبانى الجامعة وطرقاتها، والبحيرة التى تجمدت بفعل البرد الشديد تظهر من بعيد بلون أبيض ناصع.

إذاً هل عدت إلى فترة تحضيرى لرسالة الماجستير فى المملكة المتحدة وفى جامعة إيست أنجليا عندما كنت فى الثلاثين من العمر؟ واتتنى فكرة، فهرولت بسرعة نحو الحمام ونظرت فى المرآة حيث فزعت مما رأيت. لقد وجدت الشعر الأبيض ما يزال يغطى الجزء الأكبر من رأسى وملامحى ما تزال كما هى لم تتغير.

إذاً لقد عدت للماضى بعمرى الحالى. هناك شىء هام أيضًا لم أنتبه له: فاللاب توب والهاتف الجوال ينتميان للنوع الحديث وليس الجيل القديم عندما قصدت الجامعة منذ عشرين عامًا.

نظرت فى الهاتف وقرأت التاريخ فوجدته مطابقًا للتاريخ الذى رقدت فيه على السرير منذ دقائق معدودة. كل الأشياء بقيت كما هى ما عدا المكان فقط هو الذى تغيَّر. يبدو أننى انتقلت بطريقة ما إلى مكان آخر، لقد تم ترحيل لحظة حياتية عشتها لتقفز من الماضى إلى الحاضر.

تذكرت يومى الأول فى نوريتش بإنجلترا عندما أمطرت السماء ورحت أبحث عن ملجأ من تلك الأمطار الغزيرة. يا لها من سعادة غمرتنى يومها كما لو كنت طفلًا صغيرًا نزقًا يداعب قطرات المياه بيديه ويستنشق عبير الغرب ويحتضن مشاهد الطبيعة بقلبه ويحلم أن يعيش فى هذه الجنة للأبد.

رأيتها تمسك بمظلتها بجانبى تحت مظلة المطر فى الجامعة، ترتدى معطفًا رملى اللون. لقد بدت مثل آلهة الجمال الإغريقية بشعر أشقر ينسدل على كتفيها وعينين زرقاوين مثل لؤلؤ أزرق متوهج يخطف الأنظار فلا يمكنك مقاومة النظر إليه أو تجاهل جماله الباهر.

لم ترانى فى الغالب بينما ظللت أنا مشدوهاً بحسنها البهى. دقائق قليلة حتى رحلت لأجدها فى اليوم التالى فى قاعة الدرس. اسمها «زوى» ويعنى الحياة، وتنتمى لإحدى عائلات نوريتش العريقة. لم أفلح فى عام كامل هو عمر دراسة الماجستير أن أقيم حتى علاقة صداقة معها، ولكن ظلت تلك اللحظات التى جمعتنى بها خالدة فى الذاكرة.

أبهجتنى فكرة رؤيتها مرة أخرى رغم الفشل الذى عانيته معها. ترى كيف أصبح مظهرها الآن؟ هل ما تزال تحتفظ بجمالها النادر هذا؟ لم تجمعنى معها صورة أبدًا لذلك حاولت مرارًا طوال السنوات السابقة أن أرسم صورة لما كنا نبدو عليه معًا دون جدوى. لا أطيق الانتظار حتى أراها، لذلك أسرعت خارجًا لأتفقد الجامعة وما آلت إليه الأمور بعد مضى كل تلك الفترة.

لم تختلف الجامعة كثيرًا، فموقع مدرسة اللغة القابع فى أول الجامعة، أو ما يسمى ب»الأنتو»، ما يزال كما هو، والحافلات التى تقل الطلاب من وإلى معسكر الجامعة ما يزال صوتها يهدر فى الطرقات. أصوات الطلاب التى تعبر بجانبى وهم يتحدثون بالإنجليزية بلكنات مختلفة تنتشر عبر الأجواء. رغم مرور كل تلك السنوات، ما زلت أحس بأننى صغير جدًا فى محيط شاسع ليس له نهاية، مثل تائه فى مدينة كبيرة لا يعرف طريقه.

اتجهت إلى مدرسة التربية حيث قاعات الدرس. اتخذت مكانى ورحت ألقى نظرة على الجميع بحثًا عنها. رأيتها تجلس بجوار «ميغان» الأمريكية كعادتها، وكما توقعت لم يتغير عمرها كالجميع هنا؛ فقط أنا من تقدمت فى العمر وصرت كهلاً بالنسبة لهم.

انخرطت فى نقاش محتدم مع الدكتورة «بربارة» حول تمويل الأبحاث العلمية للخروج بنتائج محددة، موضوع شائك ما جرأت على خوضه فى الماضى، ولكن التقدم فى العمر يمنح المرء شجاعة وحكمة كانت تنقصه. رحت أنظر لها فوجدت فى عينيها تقديرًا لما أقول حتى أنها وقفت بعد الدرس لتحدثنى، وأحسست وقتها وكأننا أصدقاء منذ زمن. طلبت منها أن نلتقط صورة معًا، فرحبت بذلك وهكذا أصبح لدىَّ صورة تجمعنا سويًا.

ظللت أنتظرها فى مقهى الجامعة وأنا أتأمل صورتنا على هاتفى الجوال، فإذا بدوار فجأة يصيبنى حتى كدت أفقد الوعى. دفنت رأسى بين راحتى يدى حتى عدت طبيعيًا تمامًا. ما إن وعيت بنفسى حتى سمعت صوتًا يخاطبنى بالعربية:

الشاى يا أستاذ
رفعت رأسى لأجد شابًا تبدو عليه الملامح الجنوبية لصعيد مصر واقفًا أمامى. حركت رأسى يمينًا ويسارًا لأحيط بما بالمكان، فإذا بى فى جامعة جنوب الوادى. يسألنى الشاب:

هو حضرتك بتحضر رسالة هنا ولا زيارة؟
لم أرد لأننى أعلم أننى مسن لأكون طالبًا فى الجامعة. تركته وتجولت فى المكان. يبدو حديثًا وعصريًا ويختلف تمامًا عنه منذ ثلاثين عامًا. رأيتها قادمة بجمالها الجنوبى المميز. تفقدت جيبى فلم أجد هاتفى الجوال، بل لامست أصابعى تلك السلسلة الفضية التى تحمل قلبًا. أخرجتها وتوجهت نحوها. قابلتنى بتعجب وكأنها تعرفنى من مكان ما. قبل أن تتكلم، مددت يدى لها بالسلسلة. أمسكت بها وهى تنظر متيمة بها، ثم قالت:

- أنا لا أعرفك حقًا، ولكنى حلمت حلمًا وكأن أحدهم يهدينى بهدية، وسوف أرد له الهدية. ومن حسن الحظ أحمل قلما فضيًا لأهديه لأستاذى، ولكنى أفضل أن أعطيه لك.

أخذت منها القلم ثم غبت عن المكان لأجد نفسى فوق السرير. أفتح هاتفى الجوال وأقلب الصور حتى أجد صورتى ملاصقة لزوى. أفتح صندوق الذكريات فلا أجد السلسلة القديمة به، وبدلاً منها يقبع قلم فضى فى زاوية الصندوق.

 

الكلمات الدالة

 

 

 

 

 

 

 

مشاركة