صنع الله إبراهيم
فاصلة بين «ثلاثيتىْ» صنع الله إبراهيم
السبت، 23 نوفمبر 2024 - 01:39 م
جهاد الرنتيسى
ألقت الروايات الثلاث الأخيرة لصنع الله إبراهيم حجراً فى بركة راكدة، بإرباكها سياقات النقد المتابع لمسار إبداعاته منذ بدايات تلقيها فى ستينيات القرن الماضي، وإعادة طرحها لأسئلة بدت زائدة عن الحاجة على مدى عقدين على أقل تقدير.
تعامل بعض المتلقين مع رواية « 1967» التى كُتبت فى العام 1968 وظلت فى مغلف حتى العام 2017 باعتبارها امتداداً لرواية «تلك الرائحة» التى صدرت فى العام 1966 فيما أصر آخرون على التغاضى عن الحجج المصاحبة والتعامل مع الرواية باعتبارها الجزء الأول من ثلاثية تشمل الروايتين اللتين صدرتا بعدها «برلين 1967» و «1970» مما أعاد قارئ العقد الأخير إلى جدل الستينيات الذى امتد بشكل أو بآخر حتى نهايات السبعينيات.
تراوح أسباب التغاضى بين مراعاة قراءة د. محمود أمين العالم «ثلاثية الرفض والهزيمة» التى تقوم على الربط بين روايات «تلك الرائحة»، «نجمة أغسطس»، و «اللجنة»، ورغبة الابتعاد عن التصنيفات المبنية على الموضوع، وربما تغير اهتمامات واعتبارات النقد، ولا تأخذ فى الاعتبار معطيات صدور الروايات الجديدة التى تتناول ذات الموضوع.
لا يغيب عن هذه الأسباب الكسل فى مراجعة الأعمال التى تتناول منعطفات كبرى شكلت الملامح الأولى لحالة الضعف والمآزق السياسية التى تعانيها المنطقة وكان لروايات صنع الله إبراهيم حضورها اللافت وربما المركزى فيها.
أدت هذه المراوحة إلى وقوف المشهد النقدى أمام ثلاثيتين لروائى أدمن قراءة التحولات، تتناولان المناخات السياسية والاجتماعية لهزيمة 1967، مما استدعى طرح أسئلة حول الأسباب التى دفعت إبراهيم للعودة إلى قراءة الحدث، وأخرى تتعلق بجدوى وإمكانية التصنيف على أساس الموضوع.
توفر الروايات الثلاث الأخيرة ما يتيح الإضاءة على النقاط المعتمة ويساعد فى الإجابة عن الأسئلة المتناثرة على حواف جدل تصنيفات متسرعة، لا يأخذ التراكم النقدى على محمل الجد، ولا يتوقف عند جدواه، أو إمكانية إعادة النظر فيه.
لتأخر صدور رواية «1967» عدة أسباب واعتبارات، حددها صنع الله إبراهيم بعدم توافر الظروف الملائمة لنشرها فى مصر آنذاك نظرا لظروف الرقابة، رفضها من قبل دور النشر اللبنانية لأسباب لم تكن مقنعة للمؤلف، الانشغال بالأسفار والعمل على رواية نجمة أغسطس، ثم خشية استخدامها من قبل «القوى اليمينية» فى حملاتها ضد الناصرية والاشتراكية، الأمر الذى تغير مع ثورة 25 يناير عام 2011 التى وسعت مساحة التعبير بشكل غير مسبوق، كما جاء فى مقدمة الرواية الصادرة عن دار الثقافة الجديدة، وبذلك نجد أنفسنا أمام عاملين رئيسيين أديا إلى عدم نشر الرواية بعد سابقتها لتأخذ الموقع الملائم فى سياق روايات إبراهيم، يتمثل الأول أجواء الرقابة التى كانت سائدة والثانى فى تجنب استثمار الرواية من قبل القوى المناوئة للناصرية.
ويكشف سقف النقد المبطن واللجوء إلى الترميز فى الرواية عن انخفاض مستوى الحريات فى ذلك الزمن، فلم يتسع حيز الحضور المباشر للهزيمة لأكثر من بضع صفحات، علاوة على بعض التلميحات والإيماءات التى يحتاج اكتشافها من قبل قارئ القرن الحادى والعشرين إلى شيء من التدقيق والتأويل، الأمر الذى كان مختلفا لقارئ الستينيات و السبعينيات وربما الثمانينيات، حيث كان النقد المضمر واضحا للحد الذى يمكن استخدامه فى التأليب على عهود سابقة.
حضرت مناخات ذلك الزمن بوضوح فى رواية «برلين 69» اللاحقة لرواية «67» والسابقة لرواية «1970» التى تتناول شخصية الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، فقد ظهر إلى جانب علاقة الأنا بالآخر والانبهار بثقافته التى جرت العادة على أن تكون محور هذا الشكل من الروايات محاكاة ومقاربات لحضور البعد الأمنى فى حياة ناس برلين والقاهرة، أكثرها وضوحاً تحول المراسل الصحفى المرتبط بـ المخابرات المصرية ـ الذى أقام عنده صنع الله إبراهيم فى بيروت الستينيات وأشار إليه فى مقدمة رواية 67 ـ إلى شخصية حلمى عبدالعليم المثيرة لاهتمام جهاز المخابرات الألمانى الشرقى «ستازي» فى الرواية.
ويفسر حديث صنع الله إبراهيم لمجلة «نزوى» بعض أسباب اهتمامه بتلك المرحلة، حيث كرر العبارة التى قالها للمخرج محمد ملص خلال دراستهما السينما فى موسكو «جمال عبدالناصر شخصية درامية من الدرجة الأولى ومن الممكن أن تُكتب أو تجسد فى أفلام سينمائية» وأشار إلى مواصلته جمع المواد الأرشيفية عن الشخصية وبلورة الشكل النهائى للرواية.
وتولى الرواية اهتماماً خاصاً بأنسنة السياسة، من خلال هندسة اللبس الذى أحاط بشخصية الزعيم، وكان سبباً فى التعلق به، أو الاختلاف معه، وربما عليه، تتسع فسحة الخيال وتضيق فى هامش محدد للإحاطة بالخير والشر فى الشخصية والوصول إلى حياة حافلة بتناقضات البشر، تجمع بين الحب والكراهية، التسامح والحسم، البساطة والتعقيد، الخطأ والصواب، بريئة من رغبة القتل ومدانة بالتساهل مع التعذيب البسيط، ولم يغفل الراوى العليم عن مكونات تلك الشخصية، بعض ظروف النشأة، حضور الذاكرة فى اتخاذ القرارات، وطبيعة الشخصيات المحيطة.
تنتمى الروايات الثلاث إلى الزمن الذى تحدثت عنه دراسة د. محمود أمين العالم «ثلاثية الرفض والهزيمة» لكنها تقرأ مرحلة الستينيات وإفرازاتها المفُترضة من زوايا مختلفة وحيوات ناس آخرين، يُضاف الى ذلك عامل الزمن الفاصل بين اجتهادات العالم والاجتهادات التى ظهرت مؤخراً ولم تبتعد عن تأثيرات تلك الدراسة، وهناك ما يزيد على خمسة عقود تفصل بين رواية «67» وروايتى برلين «69» و «1970» ومياه جرت فى نهر وعى الروائى، رؤيته للزمن المستعاد، ونظرته للمستقبل.
يصعب أن تحل واحدة من الثلاثيتين محل الأخرى، أو تلغيها من الإرث الروائى الممتد لصنع الله إبراهيم، وتنسحب الصعوبة على تجاورهما فى حال الإصرار على حشرهما فى الإطار القائم على الموضوع، مما يضع الباحث أمام مهمة إيجاد صيغ أخرى للبحث، تجرد التجربة الروائية من هذه التصنيفات، تتعامل مع كل عمل من الأعمال الستة المشمولة بالثلاثيتين باعتباره عملاً إبداعياً له خصوصيته، مع اعطاء اهتمام أكبر للشكل.
علاوة على أنها شهادة تتناول فترة حافلة من تاريخ البلاد، يعتبر صنع الله روايته «67» حلقة من حلقات تطوره الإبداعى، ويمكن التعامل مع الروايتين اللاحقتين بناء على هذا الاعتبار، وإعطاء اهتمام اكبر للسرد وأساليبه، لا سيما وأن الروائى صاحب بصمة فى التجديد، بدءاً من إدخاله الجملة القصيرة إلى لغة الرواية، ومرورا بتوظيف اليوميات، والإيغال فى الوضوح، وتطويع الأرشيف الصحفى.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة