صورة موضوعية
صورة موضوعية


تطير مثل فراشة

أخبار الأدب

الأحد، 24 نوفمبر 2024 - 01:28 م

أحمد أسامة

فى كل مرة أتمعن فى مدلول اسم مدينتى، لا أستطيع الإيحاء إلى نفسى بمفهوم إيجابى، اسم أريد به التدليل على قوتها فى دحر الغزاة والمعتدين، وإذا بها تتحول مع مرور الأزمنة وتتالى النوائب إلى تسلطها على أبنائها، القاهرة، وحش غير مرئى يسيطر على النفوس، يسرى فى العروق مسرى الدماء، يتغلغل حتى يصل إلى أبعد مدى ويُحِكم الخناق عليها، ويسحقها بلا رأفة أو هوادة. تمشى فى شوارع ملأى بالغبار وتتخبط فى الأحلام المجهضة والمتناثرة هنا وهناك.

وفى الصباح أذهب إلى عملى، وفى المساء أتجه إلى الجامعة، حيث أعيش تلك الرحلة بين مسؤولية العمل وتعب الدراسة بأملٍ صامت أن يتغير شىء فى النهاية. وفى رحلاتى المكوكية تلك، أحاول انتهاز الفرصة فى استجماع ما تبقى من قدرتى على الصبر.

وفى المساء، وبينما أعود للمنزل فى ميكروباص مكتظ بأرواح منهكة مثل روحى، أجلس بجوار السائق، ممسكاً بورقة نقدية من فئة الخمسين، ومستغرقًا فى كتابى الذى أقرأه لأستريح من ضجيج أفكارى. ثم، وعند مطبٍّ غير متوقع، انطلقت الورقة من يدى كما تنطلق فراشة فى نسيم هادئ، متحولة إلى كائن خفيف يتمايل فى الهواء ويبتعد. نظرت إليها، وأنا والسائق، ندرك أنها ذهبت إلى مكان آخر، ولم تكن لنا منذ البداية.

فى اليوم التالى، شعرت أن المدينة لا تزال تختبرنى، كأن القدر يُكرر الموقف ليقنعنى برسالة لم أفهمها بعد. توقفت بجوار كشك، أخرجت محفظتى لأدفع ثمن شىء بسيط، وكانت معى ثلاث أوراق نقدية، هبت عاصفة مفاجئة وتطايرت أمامى النقود تذروها الريح. تتبعتها بعينىَّ، رأيت جزءًا من قوت يومى يختفى شيئًا فشيئًا، لكن هذه المرة كانت هناك يد صغيرة لصبى يقفز خلف الورقتين، كأن الريح نفسها أرادتهما أن تعودا إلىّ، بينما الورقة الثالثة تابعت رحلتها، محلقة فوق جسر مجاور، متجهة إلى المجهول.

ففى البداية، شعرت بالدهشة، وربما شىء من الضيق، كانت نهاية الشهر والاحتياج يثقل كاهلى، لكننى لم أستطع مقاومة إعادة ما تخيلته سابقا، تحول تلك الأوراق النقدية إلى فراشات تطير فى الأنحاء، تبهج كل من يراها بألوانها الرائعة، وتجلب البسمة على الوجوه المرهقة، ثم يقفز عقلى إلى تخيل آخر، ربما هناك يد أخرى ستلتقطها، لشخص فى حاجة إليها أكثر منى، وأنها لم تكن لى من الأساس.

الآن، بعد أن تغرق عيناى فى أضواء المدينة من نافذة الميكروباص، أبتسم. أدرك أن هذه الخسائر الصغيرة التى لا معنى لها للآخرين، هى التى تجعلنا نرى قيمة الأشياء، وتعيد إلينا الرضا فى كل مرة نعتقد فيها أن كل شىء قد ذهب.

 

الكلمات الدالة

https://contact.eg/newsletter/?lang=ar

 

 

 

 

 

 

مشاركة