رواية كل الأبواب مُوارَبة
رواية كل الأبواب مُوارَبة


كل الأبواب مواربة: استقصاء سيرة المكان والناس

أخبار الأدب

الخميس، 28 نوفمبر 2024 - 02:07 م

مجدى نصار

فى رواية كل الأبواب مُوارَبة» يفتح الروائى سمير فوزى أربعة عشر بابا على شخصيات متنوعة تقطن شارع الخلفاء؛ تنفتح هذه الأبواب جميعا على باب الرواية الرئيسى (باب الشيخ جمعة)، بطل الرواية الغائب الحاضر، إذ تبدأ الرواية بحادثة مقتله، ثم تتخذ مسارا استقصائيا يتحرى القاتل ولا يتوصل إليه، بالأحرى لا يستهدف السرد العثور عليه، إنما يتخذ من البحث عنه تكأة يمنح عبرها لكل شخصية فرصة كى تقدم لنا سردية صغرى يمكن تفكيكها إلى ثلاثة مستويات: الأول علاقتها بالشيخ جمعة (المتطرف الذى يسعى لطرد السكان من بيته والسيطرة على شارع الخلفاء بعد ثورة يناير)، والثانى حياتها بما فيها من ظواهر وبواطن تحدث خلف الأبواب المواربة، وأما المستوى الثالث فطبيعة الحياة فى شارع الخلفاء وشكل العلاقات بين ساكنيه والتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فى الشارع بوصفه صورة مصغرة (رمزا) للوطن والإشكاليات التى واجهها بعد اندلاع الثورة وصعود الإسلاميين للسلطة رسميا/رأسيا وامتدادهم الاجتماعى شعبويا/أفقيا.

تبدو السرديات (الأصوات) متصلة ومنفصلة فى آن، متصلة من حيث علاقتها جميعا بالشيخ جمعة وطبيعة الحياة فى الخلفاء، ومنفصلة من حيث تقديمها حكاياتها الخاصة شبه المبتورة.

ستنتهى الرواية دون أن يعرف المتلقى ماهية القاتل ودون أن تُحسَمْ مصائر الشخصيات فى سردياتها (حيواتها) الخاصة المتشابكة، لينغلق النص على فراغات مشوقة تشحذ ذهن المتلقى وتشركه فى إنتاج /إكمال السرد.

كما أن السرد يستعرض التناقضات متكئًا على تقنية تغيير وجهة النظر، إذ تتضارب الآراء حول جمعة والجزء الغامض فى شخصيته، كما تظهر زوجته (غناوي) بصورة مغايرة لما صوَّره جمعه للناس، وأيضا تعترف (هانم) العجوز بأن كذبها هو الذى أشعل الفتنة فى الشارع.

كما يفضح المصور (أنتكا) كذب جمعة بشأن قيامه بأسر عساف ياجورى الإسرائيلى فى حرب أكتوبر، ثم تعترف كريمة فى النهاية بأنها أحبت جمعة وأوقعت به فى غرامها ولم يطاردها هو كما يظن الجميع.

وتمدنا كل شخصية بمعطيات جديدة تدفع السرد للأمام؛ كل حكاية تجر فى ذيلها حكاية: فقدان كل بنات الشارع بكارتهن، موت الكثير من الشباب فى حادث التريللا، احتراق شهد الخرساء (ابنة جمعة)، فضيحة نعيمة وحمزة، لكن السرد ينثر هذه الوحدات الحكائية ليصنع مسارين زمنيين: واحد خطى يمتد بعد مقتل جمعة، وآخر متشظ يتعمق فى ماضى الناس ويتقصى خفاياهم.

يرتقى السرد عن المستوى الشفاهى عبر تقنيات تصعد به من درجة الحكاية إلى درجة الخطاب، منها: استعراض الخيالات والهواجس (مثلما يحدث فى رأس نعيمة خوفا من الفضيحة) والأحلام والكوابيس (حلم غناوى بابنتها الميتة شهد) والمشاعر والأفكار والرغبات (شبق أم إبراهيم فى كهولتها)، خلط الماضى بالحاضر عبر الفلاشباك، تقطير المعطيات السردية لأجل التشويق، بتر الحكايات، التأسيس الجيد لخلفيات الشخصيات ودوافعها (نعيمة أحبت الجنس بشره حين شاهدت أمها فى أحضان غريب)، القفز الزمنى (نعرف فجأة أن حمزة ونعيمة تم كشف سرهما من قبل الشرطة)، مما يعنى أن الكاتب يهتم بالحاسم من الأحداث ويترك للمتلقى فرصة تصور المحذوف منها.

ويشكِّل الكاتب مشهديات كاملة ذات أبعاد جمالية وسردية، يبرهن فيها على قدرته على الوصف والتصوير، وإحساسه العميق بالمكان وتفاصيله البصرية، بالزمن (الليل والنهار)، بالضوء والظل، بالروائح والأصوات والملمس، كما يعكس احتفاء السرد بالعادى واليومى والمعيشى والجسدانى والشهوانى فى الحياة والناس.

كما يلجأ السرد للمفارقات ذات الحس الإنسانى العالى (عريان الضرير يعمل على ماكينة حياكة أحذية / عجايبى المسيحى يُدفَن فى مقابر المسلمين لاستحالة فصل جثته عن بقية الجثث / نوَّار يذهب للمقابر ليحدث زوجته فى قبرها فى مشهدية بديعة تمزج الواقعى بالفانتازي).

وتنطوى الرواية على بعض الرموز والمعادلات الموضوعية (قط الشابة كريمة الذى هجر بيتها حين جاء جمعة الكهل ليطلب يدها للزواج). 

يبتكر سمير فوزى شخصيات مركبة، لها وجهان ظاهر وباطن، خفيفة الحضور حتى فى  أنينها وشكواها، شخصيات طبيعية لا تنطوى على  شر مطلق أو خير مطلق، فينجذب المتلقى لكل الشخصيات على كثرتها، وحتى الشخصيات التى لم تنفرد بسردية كاملة – مثل مارية زوجة القس عبد الشهيد – منحها فوزى السمات اللازمة لجعلها تتجسد حية فى ذهن المتلقى. 

تتناول الرواية عددا من الثنائيات، منها: الوسطية والتشدد الدينى، مؤسسة الزواج والخيانة، الموروث والحاضر، والقمع المؤسسى والقمع الشعبوى.

ينسج فوزى إيقاعا خاصا من خلال استخدام الجمل القصيرة والمتوسطة فى أغلب المواضع، وعبر التضفير بين الحبكة الرئيسية والحبكات الفرعية؛ فى سرد يتراوح بين التقريرى (الإخبارى) والاعترافى (التداعى الحر) والمشهدى (التصويرى).

لكل صوت فى هذه السردية سماته التى تميزه عن غيره، لغتها البسيطة تستمد بلاغتها من مناسبتها لوعى الشخصيات ومكانتهم الاجتماعية وكذا اتفاقها مع مقتضى الحال والموقف، فتصبح التقريرية ذا درجة عالية من التدفق والإقناع والحميمية مع المتلقى.

لكن عبارات بعينها تتسلل إلى السرد وتبدو نابعة من وعى الكاتب لا من وعى الشخصية، كأن يقول حمزة الزبال: (شارحا للمقتحمين أن ما بالقسم غنائم حرب مع الدولة الكافرة)، ويقول إبراهيم المخبر (أنمو بالطول والعرض بمعدل يفوق كل أقرانى، وإن ظل عقلى وقدرته على الاستيعاب أقل)، وتقول أم ابراهيم عن زوجها الراحل: (جَرُّوه فى موكب أشبه بالجنازة)، ويقول إسلام: (جاء المعلم سعدنى الجزار، اخترق الدائرة النسائية). 

على أن الحوار فى أغلب مواضعه جاء مناسبا لوعى الشخصيات والسياقات التى تتحرك خلالها، يقول حمزة: (سُقت على أبيها القريب والبعيد، لكن الرجل رأسه وألف سيف ألا يزوجها لزبال) وتقول نعيمة (لكن جسد أمى المتوهج كان يجرنى من شعرى إليه). كما أسهمت عامية الحوار فى تدفق السرد وانسيابيته. 

تعكس الرواية خبرة الكاتب، تحقق جمالياتها الخاصة، تستهدف إمتاع المتلقى فى المقام الأول، تنشىء عالمها الخاص، تضع الإمكانيات اللغوية فى خدمة السرد، تُعدِّد الأصوات لكنها تميز الصوت الواحد عن غيره، توجِّه جميع السرديات الصغرى نحو مصب واحد: حال شارع الخلفاء بعد الثورة ومساعى الشيخ جمعة للتحكم فى الشارع والناس، تفتح تحقيقا روائيا موسعا تتضافر فيه كل الخطوط لدعم البنية السردية العامة فتتحقق للرواية وحدتها العضوية. 

 
 

الكلمات الدالة

 

 
 
 

 

 

 

 

 

مشاركة