عبد الهادى عباس
عبد الهادى عباس


قلب وقلم

مركز دراسات الشخصية

عبدالهادي عباس

الخميس، 28 نوفمبر 2024 - 05:53 م

ربما يُحرك ذلك المشكلات المتصلبة لطرق تفكيرنا القديمة؛ ويفتح الباب للمرونة والتكيف مع الواقع المتسارع من حولنا

تتفق الأفكار وتختلف، تتحد وتنفصل، تقترب وتبتعد، ثم تتنازع الأطراف المتصارعة أهداب الفكرة الواحدة لإثباتها أو سحقها؛ وتبقى كل هذه المحاولات مذكية لأوار الواقع الفكري، قادحة لزناد الإلهام العقلى الذى أصبح لازمة فى عصر العولمة الجديد..

وإذا كان أفلاطون، فيلسوف الفلاسفة، وصاحب أول مذهب فلسفى متكامل، قد وضع للفلسفة منهجها باعتبارها علم الحوار، وكتب فلسفته فى هيئة محاورات قابلة للنقاش؛ فإن جلسات الحوار الوطنى الآن فرصة سانحة لتصبح أكثر عصفا للمدركات الحسية واستنفارا للكوامن الذهنية، لكشف سوءات الخمول التى التاط بها العقل العربى الحديث، والبحث عن منصة الانطلاق إلى المستقبل؛ ومن هنا يصبح البحث فى كوامن الشخصية المصرية المائزة لوجوهنا الحضارية أمرا وجوديا لا وزر عنه.

تبدو شخصيتنا من الخارج ثابتة، هادئة، رزينة، متزنة إلى حدّ كبير؛ يتوهمها الغافل نائمة أو مستسلمة إلى طغيان الواقع وكوابحه اللازمة؛ ولكنها أيضا مخادعة، واثبة، قاهرة إن استدعى الأمر ذلك؛ ولهذا لم أوافق كثيرا العالم الكبير د. جمال حمدان فى بعض توصيفاته الشديدة لشخصيتنا، حين ذكر أنها سلبية وتفتقد لروح المبادرة، متأثرا فى ذلك برؤية بعض المستشرقين؛ إذ أراها قادرة على نفى خبثها وإبراز صلابة معدنها الحقيقي؛ فالشعب المصرى طوال تاريخه قادر على أن يواجه، ويهضم، ويتجاوز؛ وهذا سر بقائه التاريخي؛ كما أنه قادر دائما على الاحتفاظ بهويته وعدم الذوبان فى الآخر؛ ليس فقط مع الهاربين إليه طمعا فى أمانه؛ وإنما أيضا لمواجهة الطوفان الاستعمارى منذ الهكسوس حتى الإنجليز.. ربما لموقع مصر المتميز وحضارتها التليدة، وأيضا لأنها محفوظة من السماء؛ فالشخصية المصرية عصيّة على الانكسار؛ مقاومة لأراجيف الباطل وشائعات الضلال؛ فالتواطؤ لا يليق بشخصية متوضئة بالقوة والإرادة، متحصنة بإعانة فوقية تساعدها فى تغيير مصيرها إلى الأفضل.

قبل وفاته بأشهر قليلة أجريت حوارًا مع د. شاكر عبد الحميد، رحمه الله، وزير الثقافة الأسبق؛ وأشهد أنه كان شخصا هادئا، عالما، يفكر بصمت، ويتحدث بلطف؛ مشغول بمستقبل وطنه لأقصى حدّ، أكاديمى بارعٌ، ودراساته فى الفنون وعلم الجمال رائدة؛ كما أنه أحد عباقرة الثقافة المصرية؛ ولأننى كنت أقرأ كثيرا عن أخلاق المصريين وتدينهم، ومدى تغير طباعهم وشخصياتهم فى الأحداث الكبرى؛ وأذكر أننى سألته عن الدراسات الحديثة للشخصية المصرية ومدى مواكبتها للأحداث الوطنية التى تمرّ بها مصر والمنطقة العربية؛ واقترح، رحمه الله، إنشاء مركز متخصص يهتم بدراسة الشخصية المصرية من كل جوانبها؛ خاصة أنها لا تزال غامضة وسديمية بالفعل؛ وقال إنه أحد أحلامه الفكرية الكبرى؛ على أن يضم المركز خبراء متخصصين فى معظم المجالات بجدية كافية وحُسن انتقاء، مع التطبيق والدراسات الميدانية، وهذا لا لمعرفة شخصيتنا فقط، وإنما لدراسة كيفية تطويرها والاستفادة منها.

صحيح أن هذا الحلم المشروع لأحد رواد الثقافة المصرية لم يتحقق حتى الآن؛ ولكننى أثق فى قدرة المتحاورين بلجان الحوار الوطنى على وضعه على قائمة المناقشة العاجلة؛ إذ ربما يُحرك ذلك المشكلات المتصلبة لطرق تفكيرنا القديمة؛ ويفتح الباب للمرونة والتكيف مع الواقع المتسارع من حولنا؛ لبث الثقة فى شخصيتنا القومية من ناحية، وإجلاء الغبار عن كوامن العظمة فى حضارتنا السالفة من ناحية أخرى؛ وأعتقد أن لدينا حركة فاعلة ومؤثرة فى الإصلاحات الجذرية للبنية التحتية ومجالات الطرق والإنتاج الزراعى والصناعي؛ ولكننا نحتاج إلى موازاة إصلاحية لإعادة إنتاج قادة الفكر من أبناء الجيل الماضى والذى قبله.

الشخصية المصرية تواجهها تحديات جسام فى مقبل الأيام، خاصة بعدما أصبح الوطن موئلًا لملايين من إخواننا الضيوف؛ وهو ما يستدعى سرعة تحقيق هذا الحلم «الشاكري» بإنشاء مركز لدراسات الشخصية وتطبيق ذلك على أرض الواقع لإصلاح أى عوار قد يُصيب متانة التماسك الوطني؛ والعمل فى الوقت نفسه على تذويب الجميع فى الهوية المصرية الحاضّة على الإبداع والتطوير، والحاضنة لكل ابتكار، والرافضة لكل إغراق فى أوهام الماضي، دونما الاستفادة منه أو البناء عليه.

 
 

الكلمات الدالة

 

 
 
 

 

 

 

 

 

مشاركة