د. أسامة السعيد
خارج النص
د. أسامة السعيد يكتب: لمن تدق الأجراس؟!
الإثنين، 30 ديسمبر 2024 - 07:54 م
بينما العالم يستعد لاستقبال عام جديد، تصدح أجراس عديدة احتفالا بذلك المولود الذي نأمل جميعا أن يكون أفضل من سابقه، وأن يمنح العالم بعض الراحة والهدوء بعد عام عاصف.
في الشرق الأوسط تدق أجراس عديدة، لا تشبه الأجراس التى كتب عنها الروائى الأمريكى إرنست هيمنجواي في روايته الشهيرة، التى جسد فيها حقبة الحرب الأهلية الإسبانية فى أربعينيات القرن العشرين، ولكن صدى الأجراس الشرق أوسطية سيُسمع على نحو مختلف وبمعانٍ متباينة في وجهات عدة داخل منطقتنا وحولها.
أهل غزة سيسمعون الأجراس كطبول حرب لم تهدأ منذ أكثر من عام، حاصرهم خلالها الموت على يد قوات الاحتلال الإسرائيلى من كل اتجاه، لكن أولئك الأبرياء الفلسطينيين يأملون مع أجراس العام الجديد أن تحمل ساعاته المقبلة بشارة وقف الحرب، أو على الأقل هدنة تتوقف فيها آلة القتل اليومي.
صحيح أن توقف الحرب لا يعني بالنسبة لأهالي غزة نهاية المعاناة، بل ربما يكون بانتظارهم فصل جديد من الوجع عندما يتفقدون جراحهم وخسائرهم الحقيقية ويخرجون شهدائهم من تحت الركام، ويدركون أن «اليوم التالي» الذى تتحدث عنه الولايات المتحدة وإسرائيل ليس سوى خطوة إضافية على «درب الآلام» الذى استطال بفلسطين وأهلها.
■■■
في إسرائيل ربما يسمع بنيامين نتنياهو وداعموه أجراس العام الجديد كدقات احتفال بانتصار يحققه فى جبهات متعددة وبقاء إضافى فى السلطة التى كان قبل نحو عام قاب قوسين أو أدنى من أن يفقدها، لكنه استطاع عبر حرب جنونية طالت جبهات عدة أن يعيد شحن رصيده فى الشارع اليمينى المتطرف.
لكن المؤكد أن المنتشين بما تحققه آلة الموت الإسرائيلية لن يكونوا وحدهم فى الشارع الإسرائيلي، فهناك الآلاف من أهالى الأسرى والمحتجزين فى غزة، الذين عجزت جحافل القتل الممنهج عن استعادتهم رغم كل ما فعلته وحظيت به من دعم تكنولوجى واستخباراتى غربى، وهؤلاء يدركون أن ذويهم باتوا مجرد ورقة تفاوضية لا تلقى حكومتهم لها بالا منذ أشهر طويلة، بل ربما تحولوا إلى عبء ثقيل فوق كاهل نتنياهو وحكومته!
داخل إسرائيل كذلك بعض المتوجسين من أجراس انتصار نتنياهو وحكومته المتطرفة، فهم يدركون أن القوة وحدها لن تحقق لهم الأمن المزعوم، فالقوة المفرطة قد تسكت مصادر الخطر لبعض الوقت، لكنها لن تستطيع أن تقضى على ذلك الخطر، أو تُخرس ألسنة الحقيقة بأن إسرائيل دولة احتلال، وأن قواتها ارتكبت واحدة من أفظع جرائم الإبادة الجماعية وإرهاب الدولة فى التاريخ الإنسانى الحديث، وأن مثل تلك الجرائم لا بد أن تلقى الحساب العادل يوما ما، حتى وإن طال الأمد.
■■■
في مناطق أخرى من المنطقة ستُسمع أجراس العام الجديد كدقات تحذير من أخطار محدقة. أخطار تتجاوز استمرار الصراعات أو تأجج القتال الداخلى، أو حتى تغيير حكومات وأنظمة حاكمة، فالتحذير هذه المرة من ضياع الدولة، أو بمعنى أدق انهيار الأسس الوطنية التى قامت عليها تلك الدولة، وللأسف الشديد هذا الخطر يخيم على العديد من الدول حولنا، ولعل ما يجرى فى سوريا الشقيقة مثال جلى.
إعادة تعريف الدولة بناء على الهويات الطائفية والمذهبية والجهوية مسألة أخطر فى جوهرها مما نتصور، وتفتح أفقا لاستعادة ذاكرة «الفتنة الكبرى» ليس بمعناها الدينى بل بأبعادها السياسية وبكل ما تحمله من مآسٍ، حيث كل طرف يزعم لنفسه الشرعية وامتلاك الحقيقة المطلقة، ويؤسس مواقفه على مقياس أيديولوجى يجافى فى كثير من الأحيان معايير الموضوعية والعقلانية السياسية، ويكرس لمقولة «من ليس معى فهو ضدى»، بل «من ليس معى فهو كافر»!!
وهذا الواقع - للأسف الشديد - كفيل بإدخال تلك الدول التى تقع فريسة للتمزق الداخلى والتقسيم الطائفى والمذهبى، فى حالة طويلة الأمد من الفوضى وعدم الاستقرار، وأن تتحول إلى قنبلة موقوتة لا يقتصر ضررها على محيطها الداخلى، بل يمتد كذلك إلى جوارها الإقليمى والدولى، وغالبا ما تكون سببا لاستدعاء تدخلات المتربصين والطامعين، الباحثين عن نصيبهم من كعكة التفكك!!
■■■
خلال الساعات المقبلة لن نستقبل عاماً عادياً، لكنه سيكون عاما يختتم به القرن الحادى والعشرون ربعه الأول، حقبة كانت شاهدة على العديد من التحولات العاصفة فى مسار ومصير منطقتنا والعالم، بدأ القرن عقده الأول بجحيم 11 سبتمبر 2001، واستهل عقده الثانى بزلزال ما يسمى بـ«الربيع العربى» الذى ما تزال تداعياته متواصلة، ولم يكد الربع الأول من ذلك القرن ينقضى إلا وعاصفة جديدة تهب على المنطقة تضعها أمام مفترق طرق حقيقى، واختبار أصعب مما يبدو ظاهريا.
خلال السنوات الـ 25 الماضية تعززت الهيمنة الأحادية الأمريكية على النظام الدولى، وإن بدأت فى السنوات الخمس الأخيرة أجراس التغيير تدق على الساحة الدولية إيذانا بتحولات مقبلة على المسرح العالمى، تحولت تلك الأجراس إلى طبول حرب لا تزال مستعرة فى أوكرانيا، وانفجارات فى الشرق الأوسط، وتنافس دولى محموم للسيطرة على خطوط ومسارات الملاحة والتجارة العالمية.
في الربع الأول من هذا القرن عاشت المنطقة حالة انكشاف استراتيجى خطيرة، سواء عندما أرادت الولايات المتحدة أن تنفس عن غضبها وتعيد الاعتبار لكبريائها الجريح جراء هجمات 11 سبتمبر، فغزت العراق عام 2003، أو عندما أمطرت سماء الشرق الأوسط بمبادرات غربية للإصلاح لم تسفر سوى عن محاولات لبناء شبكة من الوكلاء الساعين لتفكيك «الدولة الوطنية» بأدوات شتى، فضلا عما صاحب الموجة الأولى لتنفيذ ذلك المخطط فى ٢٠١١ من هزات إقليمية عنيفة، لا تزال تداعياتها وارتداداتها مستمرة.
■■■
اليوم ونحن نبدأ عاما جديدا، ونختتم به الربع الأول من القرن العشرين، ندعو الله أن يحمل المستقبل معه نسمات من السلام والاستقرار لمنطقة مزقتها الحروب وأدمت خرائطها الصراعات، وأن يكون ما شهدته المنطقة فى عامها الأخير نهاية نفق مظلم، لا بداية حقبة جديدة من الظلام.
مع تباشير العام الجديد نأمل أن تتجلى الحقائق ناصعة أمام أعين الجميع، وأن تجيد المنطقة دولا وشعوبا قراءة الدروس المستفادة من سنوات الاضطراب، فمن رحم الأزمات تخرج الحلول، ومن المحن تولد المنح، المهم أن تتوافر الإرادة والقدرة على الفعل والعمل والإصلاح والتمسك بالثوابت الوطنية، لأن من لا يعمل كـ«فاعل» فى الحفاظ على وطنه فسيندم طويلا عندما يتحول إلى «مفعول به».
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة