ورقة وقلم

ياسر رزق يكتب: «الجسر.. والشباب.. والرجل عزيز النفس»

ياسر رزق

الجمعة، 28 أبريل 2017 - 09:25 م

على صفحة مياه قناة السويس، كانت المعدية رقم (٦) تبحر بنا فى ظلام الليل، من الشاطئ الغربى للقناة الأولى، إلى الشاطئ الشرقى فى سيناء.

كان ذلك عشية افتتاح أعمال المؤتمر الدورى الثالث للشباب بمدينة الإسماعيلية الذى انعقد فى جزيرة الفرسان المحاطة بمياه ترعة الإسماعيلية وبحيرة التمساح وقناة السويس.

كنا أربعة من الصحفيين نستقل سيارة على ظهر المعدية. نزلنا من السيارة نطل على القناة ونتنسم عبيرها فى تلك الليلة الندية.

أخذنا نستذكر بطولات الرجال الذين عبروا القناة على طول مجراها، ونتساءل فى انبهار: كيف اعتلوا الساتر الترابى الذى أقامه العدو بارتفاع ٢٠ متراً على طول الشاطئ الشرقى بزاوية ميل ٨٠ درجة، تمنع أى مركبة من اجتيازه.

وسألنى زملائى باعتبارى عملت محرراً عسكرياً لمدة تزيد على ربع قرن، وبوصفى من أبناء الإسماعيلية، عن تطوير الهجوم، وهل جاء متأخرا. وعن الثغرة وكيف حدثت. ثم عن الخلاف الشهير بين الرئيس الراحل أنور السادات والفريق سعد الشاذلى رئيس الأركان وقتها بشأن أسلوب التعامل مع الثغرة.

أخذت أجيب بما أعرف.. وبعد دقائق توقفت وقلت: ألا تلاحظون أننا نجلس على ظهر معدية تتهادى، ونقيِّم - ونحن نضع أيادينا فى المياه- رجلين، أحدهما هو الفريق الشاذلى أحد أبطال حرب أكتوبر العظام، الذى لولاه ولولا رجاله ما كنا نبحر الآن فى قناة السويس، والآخر هو الرئيس أنور السادات الذى حرر سيناء التى نراها أمامنا، جزءاً بالحرب وجزءاً بالسلام؟!

< < <

شىء من هذا يحدث كل يوم، حيث تنعقد جلسات محاكمة فى المجالس وعلى الشاشات، لسياسات وقرارات ومسئولين، قرائنها بعض معلومات منقوصة أو مبتسرة أو غير دقيقة أو عارية من الصحة، وأدلتها زاوية رؤية قاصرة على الإلمام بمجمل صورة يطالعها صانع سياسة وتفاصيل مشهد يراه متخذ قرار!

ليست كل تلك المحاكمات جانبها الصواب فى أحكامها غير أن غالبيتها يشوبها ظلم تعجل ونفاد صبر.

.. للإنصاف، تقع المسئولية الأكبر على عاتق من يؤثرون الصمت فى أوان الكلام، ومن يستحسنون الحجب حين يجب الإفصاح، ومن يصابون بالعى والحصر إذا تطلب الأمر التفسير والشرح!

ربما لهذا، وجد الرئيس عبد الفتاح السيسى في المؤتمرات الدورية للشباب، فرصة أو بنص تعبيره «منصة» للتواصل بين الحكم والشباب فى جلسات المؤتمر بصورة مباشرة، وبين السلطة والشعب بصورة غير مباشرة عبر شاشات التليفزيون.  يعرض فيها الرئيس على الشعب كيف نسير وإلى أين نتجه.  وتطرح الحكومة خططها وبرامجها ومشروعاتها.  ويقدم الشباب أفكارهم ورؤاهم، بل تطلعاتهم وأحلامهم.

ويتبادل الجانبان الأدوار فى نماذج محاكاة الدولة، فيجلس الشباب على مقاعد قمة المسئولية الحكومية والبرلمانية، ويعقب الوزراء على ملاحظاتهم وقراراتهم.

للحق.. الفكرة رائعة، والتنفيذ مبهر، والأسئلة جريئة، والإجابات صريحة، والأفكار مبشرة.

كان الشباب يشرح الصدر ويسعد الفؤاد ويغمر القلب بالأمل، وكان الرئيس متألقا بصدقه حتى فى غضبه على حال يتمناه أفضل، ومعاناة يراها مجحفة بناسه وأهله، كما كان واثقاً بهدوئه وهو يتحدث عن غد قريب مختلف وعن مستقبل زاهر سبيله هو العمل والصبر والتضحية ووحدة الصف الوطنى.

< < <

عشقى أكيد للإسماعيلية وطلتها وحدائقها وهواها وبحيرتها وقناتها وصمودها وناسها وسمسميتها وأهازيجها التى تعيد الاخضرار إلى قلوب أنهكتها الأيام وأذبلها خريف يقترب.

لكن بعيداً عن تعصبى لمدينتى، أجد اختيارها مقراً لهذا المؤتمر الدورى الثالث لشباب مصر بالغ التوفيق، من حيث التوقيت المواكب للذكرى الخامسة والثلاثين لتحرير سيناء، والموقع المطل على قناتي السويس، ورسالة المكان التي تستحضر تحديات الماضى، مع تحديات الحاضر، وتذكر بأن المستحيل ممكن، والحقائق كلها تبدأ بحلم.

لعل من وحى المكان، استقى الرئيس تعبيره الدقيق الذي وصف به حالة مصر هذه الأيام، عندما قال إننا الآن على جسر عبور من التحديات إلى الإنجازات.

وفى كل يوم من أيام المؤتمر، كنا نعبر فى الواقع من القناة الأولى، إلى الجزيرة التي تفصلها عن القناة الثانية، ثم منها إلى مدينة الإسماعيلية الجديدة التي قامت وامتدت وتتسع دون جلبة أو ضجيج على الشاطئ الشرقي لقناتنا الجديدة.

كنا نعبر فى كل يوم جيئة وذهاباً بين القناتين من وإلى المدينتين.. وعلى مقربة منا نفقان انتصف العمل فيهما، ويكتمل فى منتصف العام المقبل، لنقول وداعاً للمعديات بين الإسماعيلية وسيناء.

وفى كل نهار وليل، كنا نستذكر التحديات التى جابهها آباؤنا وتلك التى نواجهها، ونرى رأى العين إنجازات، كانت أحلاماً بعيدة المنال، وآمالا عصية على التحقق.

< < <

التحديات التي نواجهها لم يختلف على تشخيصها وترتيب أولوياتها مسئول يتحدث أو شاب يسأل. كان الرئيس ملماً بأبعادها، ومدركاً لسبل علاجها ومقدراً زمن الاستشفاء منها، مثلما سمعته يتحدث عن معظمها قبل أكثر من ٦ سنوات مضت.

التحدي الأكثر إلحاحاً وتأثيراً على حياة المواطنين، هو غلاء
الأسعار.

قضية الغلاء استحوذت على جانب كبير من أسئلة المشاركين من الشباب، والمواطنين فى جلسة «اسأل الرئيس».

سمعنا رئيس الوزراء المهندس شريف إسماعيل يعرض الجهود المبذولة لمجابهة الغلاء بالأخص مع اقتراب شهر رمضان، وسمعنا الدكتورة هالة السعيد تشرح أسباب زيادة التضخم وتتوقع عودته إلى معدلاته الطبيعية فى نوفمبر المقبل بعد مرور عام على تحرير سعر الصرف، والدكتورة غادة والى وزيرة التضامن تتحدث عن توسيع مظلة الحماية الاجتماعية والدعم الذى سيقدم للفقراء فى الموازنة الجديدة عبر شبكات الحماية الاجتماعية وقدره ١٥ مليار جنيه وتوفير الوجبات والسلع لهم مجاناً فى رمضان. وسمعنا الدكتور على مصيلحي يتحدث عن إضافة ١٦٧٠ منفذاً جديداً لبيع السلع بأسعار مناسبة وتعهده بعدم زيادة سعر السكر والزيت والأرز، عبر إجراءات تتخذ،

والدكتور عبد المنعم البنا وزير الزراعة يتحدث دون تفاصيل عن مشروع المليون رأس ماشية ومشروع الـ١٠٠ ألف صوبة، ومزارع الدواجن. ثم سمعنا د.محمد معيط نائب وزير المالية يعرض صورة موجزة لمصروفات الموازنة المقبلة، قائلاً إن ٣٨٠ مليار جنيه منها مخصصة لسداد أقساط الدين، و٣٣٣ مليار جنيه للدعم و٢٤٠ مليار جنيه للأجور و١٩٦ ملياراً للمعاشات، والربع المتبقى يخصص لنفقات الدولة على الخدمات كالصحة والتعليم والمرافق والمشروعات.

< < <

لكن الرئيس السيسى كان واضحاً سواء فى هذه الجلسة الرئيسية التى عقدت بعد ظهر اليوم الثانى للمؤتمر، أو فيما تبعها من جلسات أو حوارات مفتوحة، فى شرح أسباب الأزمة الاقتصادية التى نعيشها وسبل النهوض بالاقتصاد.

أوضح الرئيس أن الأزمة بدأت منذ حرب ١٩٦٧، وأن محاولة الإصلاح عام ١٩٧٧ فى عهد الرئيس السادات توقفت وجرى التراجع عنها، بينما ما تم خلال ثلاثين عاماً قبل ثورة يناير، كان خداعاً وتغييبا للوعى، وتفاقم الأمر بعد ذلك حتى بلغت قيمة الدين حوالى ٣٫٤ تريليون جنيه.

وقال الرئيس: «كان لا بديل أمامنا غير اتخاذ الاجراءات الاقتصادية. فإما أن أحاول ان اجتاز بالبلاد «قناية» وقد أفلح، وإما أن أنتظر وسوف أجد «بحراً» يستحيل أن نجتازه».

يشعر الرئيس بمعاناة المصريين من الغلاء التى زادت خاصة بعد تحرير سعر الصرف، يقدر تحملهم، وتبدو على نبراته الغضب.. لكنه يطمئن المواطنين بأن الأمور فى طريقها للتحسن.

هناك تحد آخر يهدد جهود النمو الاقتصادى المأمول أن يتخطى ٥٪ فى العام المقبل ليزداد عاماً بعد عام، هو الزيادة السكانية.

يوضح الرئيس أن معدل الزيادة فى عدد السكان وصل إلى ٢٫٦٪ بعدما كان ١٫٥٪. ويقول إن معدل النمو الاقتصادى لابد أن تكون نسبته ثلاثة أمثال الزيادة السكانية، أى أننا نحتاج إلى معدل نمو ٨٪ على الأقل ليشعر الناس بثمار النمو، فإما نعمل على خفض الزيادة السكانية أو نجاهد لزيادة النمو الاقتصادى بمعدلات متسارعة.

< < <

حين بدا على الرئيس الألم، وهو يستذكر كيف تلقف المتلقفون دعوته لايداع ما تبقى من قروش أو «فكة»، فى البنوك لصندوق «تحيا مصر»، وغيرها من دعوات للحد من الإسراف، تذكرت واقعة لا تغيب عن ذهنى تكشف معدن الشعب المصرى الأصيل، عندما قامت القوات المسلحة فى اعقاب حرب أكتوبر مباشرة بتوفير «خَواتِم ودِبَل»، مصنوعة من حطام طائرات الفانتوم الإسرائيلية، وأقبل المصريون بالذات المقبلون على الزواج، طواعية على شرائها وكان ثمنها لا يتعدى ١٠ قروش، والتبرع بقيمة «دبل الخطوبة»، أو «شبكة الفرح»، للمجهود الحربى.

بالقطع.. لم يتغير معدن الشعب المصرى الأصيل، لكننا نحتاج إلى استنهاض همم، وإلى إعلام رصين يجمع الناس ويوحد صفوفهم فى معركة العبور إلى الإنجاز مثلما وحدهم فى معركة العبور إلى التحرير.

< < <

المكسب الأكبر من المؤتمر الدورى الثالث، هو اكتشاف نماذج واعدة من شباب فى العشرينيات من عمرهم من خريجى البرنامج الرئاسى لتأهيل الشباب معجونين بحب بلدهم، ولعين بالنهوض به، لا يعرف الإحباط سبيلا إلى عزائمهم، بعضهم حقق نجاحات مبكرة فى أعمالهم الخاصة، أو الحكومية، أو الرسمية، ودفعت غمرة الإعجاب بكثير من الحاضرين إلى الدعوة للاستعانة بهم فى مناصب وزارية استثماراً لحماسهم، لكن الرئيس بحصافته أوضح أن هناك برنامجاً بدأ منذ شهر لإعداد شباب فى الثلاثينيات من حملة الماجستير والدكتوراه لتقلد مناصب وزراء ومحافظين، مشيرا إلى أن الشباب الأصغر يجرى الاستعانة بهم فى مهام وأعمال تزيد من خبرتهم فى إدارة الدولة، ومنهم من تم تعيينهم فى رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء والمحافظات.

أيضا كان الرئيس عملياً وهو يتحدث فى الجلسات الأخيرة للمؤتمر، بأن التشخيص ليس هو المشكلة، إنما إيجاد الحلول والقدرة على تنفيذها. لذا كان يركز على ضرورة استدعاء الواقع فى النقاش، وأن تنصب أعمال كل مؤتمر قادم على قضية أو اثنتين ودراستهما بصورة متعمقة، لإيجاد حلول عملية قابلة للتنفيذ.

< < <

كثيرون لاحظوا أن الرئيس السيسى تحدث فى أكثر من لقاء وجلسة عن أنه لن يبقى لحظة واحدة على غير رغبة الشعب، وأنه لن يقدم على الترشح لدورة ثانية إلا إذا رغب الشعب، وكرر الرئيس هذا المعنى بعبارات مختلفة.. لدرجة أن أحد الحاضرين قال له: «لا تتخلى عنا»، وعقب الرئيس عليه قائلا: «لن أتخلى عن المسئولية، إلا إذا طلبتم».

وفى محاورات حاضرين من مثقفين ورجال إعلام، خلال أيام المؤتمر، تعليقاً على تكرار الرئيس لهذه المعانى، تساءل البعض: هل ضاق الرئيس بأداء أجهزة معاونة لا يرقى إلى تطلعاته ولا يتناغم مع إيقاع فكره؟.. وتساءل البعض: هل تساور الرئيس شكوك فى قدر شعبيته الآن بعدما كانت فى السماء عند توليه الرئاسة؟

وظنى أن الرئيس مثلما يصارح الشعب بالحقائق، يعرف قدر وعى الجماهير الذى يفوق إدراك بعض النخب.

وأحسب أن باعثه هو عزة النفس فى تقلد الأمانة وتحمل المسئولية، وليس نزعات ترك السفينة فى قلب أنواء.

ويقينى أن الشعب يريده كما هو، مخلصاً وصادقاً، وفى ذات الوقت صاحب كرامة وكبرياء.

وإذا كان آباؤنا صبروا ٦ سنوات حتى نعبر الجسر من الهزيمة إلى النصر، فكيف لا نصبر عاماً حتى نعبر الجسر من التحديات إلى الإنجازات.

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة