د. أيمن منصور ندا
د. أيمن منصور ندا


أحلام مشروعة

«سرير بروكرست» وأحلامنا المقصوصة

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 07 نوفمبر 2019 - 07:41 م

فى الأساطير اليونانية القديمة توجد قصة "بروكرست"، وهى تلخِّص كثيراً من أبعاد أزمتنا الحالية، وتلقى الضوء على جوانب مختلفة من مشكلات حياتنا الراهنة.. كان الفتى "بروكرست" يتسم بالقوة المفرطة (كان يعمل حدَّاداً وقاطع طريق)، وبالدهاء الشديد (كان يستميل المسافرين، ويستقطبهم بأدبه الظاهر، ويحسن ضيافتهم، ويدعوهم لزيارة بيته والإقامة لديه)، وبالمرض النفسى الواضح (كان لديه سرير حديديُّ يجبر ضيوفه على النوم عليه، ويقطع أرجلهم إن كانت أطول من السرير، ويمط أجسامهم حتى تتكسر مفاصلهم إن كانت أجسامهم أقصر من السرير)، وكان رياضياً ويتمتع بصحة جيدة (ولذا طال عمره وكثرت جرائمه).. ولأنه، وفى الأساطير فقط، لابدَّ من انتصار الخير على الشر فى النهاية، لذا، فقد استطاع الشاطر "ثيسيوس" أن يقبض على "بروكرست"، وأن يذيقه بعضاً مما أذاقه للآخرين (أنامه على سرير حديديّ، وقطع رأسه حتى يتناسب مع طول السرير)..
فى داخل كلٍّ منا يوجد "بروكرست" صغير.. كلٌّ منا يحمل قدراً من الأدب الظاهر "لزوم الشغل" يريه للبعض، ويخفيه عن البعض.. كلٌّ منا يحاول تفصيل الواقع على مقاس أفكاره التى يحملها.. نحن نمارس بشكل روتينى عمليتيّ النبذ والإقصاء لكلِّ من يخالفنا الرأى، ولكلِّ من يجعل "صدرنا ضيِّقاً حَرَجَا كأنَّما يصَّعًد فى السماء" (أهل الشر)؛ والتقريب والاصطفاء لكلِّ من يوافق على أفكارنا، ولكلِّ من يجعلنا نعتقد أننا نستطيع أن نخرق الأرض أو نبلغ الجبال طولاً (أهل الثقة).. ونحن نقوم بشكل طبيعيّ بقطع أرجل كثير ممن يفوقوننا فى القيمة أو فى الموهبة، ونقوم بشكل تلقائيّ بتكبير وتضخيم كلِّ قزم فى حياتنا وكلِّ خصلة نراها حميدة فينا، حتى تبدو للناس بالشكل الذى نتخيَّله فى أدمغتنا، حتى ولو كان هذا الشكل غير صحيح..
فى كلِّ مكان عمل يوجد بروكرست كبير.. كثير من أحلامنا وطموحاتنا فى العمل يتم "قصها" حتى تناسب طموحات رؤسائنا ومدرائنا.. لكلِّ مدير "سريره" الذى يجبر العاملين معه على النوم عليه، ويمارس عمليتى القص والمط.. مدراؤنا لديهم "مازورة" حديدية و"مسطرة" فولاذية يتم قياس أحلامنا عليها، فيتم قصُّ الكبير منها باعتباره لا يناسب احتياجاتنا وظروفنا، ويتم تضخيم الصغير منها وإبرازه باعتباره منتهى الإعجاز والإنجاز، وباعتباره غاية المراد من رب العباد.. نحن دائما مخيِّرون بين القصّ والمطّ، بين التقزيم والتضخيم، بين السيئ والأسوأ، العدو دائماً من أمامنا، والبحر أبداً من خلفنا.. ولا خيارات أخرى مطروحة أو متاحة..
الشاعر الفلسطينى محمود درويش كان يشير إلى أنه "على قدر حُلمك يتسع الكون"، والحقيقة أنه على قدر حجم سرير بروكرست الذى بداخلنا يتسع العالم.. يضيق العالم أو يتسع وفقاً لاتساع قدرتنا على تفصيل سرير يناسب أكبر قدر من الناس، والأفكار، والرؤى.. ويضيق العالم أو يتسع وفقاً لحجم أسِرَّة رؤسائنا ومدرائنا.. والمحزن والمحبط أن أسِرَّتهم لا تتسع إلا لهم، ولا تتناسب إلا مع أحجامهم.. لنا الله..

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة