د. مبروك عطية
د. مبروك عطية


يوميات الأخبار

الأماكن بين السعة والضيق

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 26 ديسمبر 2019 - 06:29 م

يكتبها اليوم : د. مبروك عطية

وما أصبح فؤاد أم موسى فارغا إلا لأن ابنها كان قلبها، فلما بعد عنها صار فؤادها فارغا.

 المكان نفس المكان
السبت:
السبت 23/11/2019 اتجهت إلى كلية اللغة العربية بالدراسة لحضور اجتماع اللجنة العلمية الدائمة التى أشرف بعضويتها، وأخبرنى سكرتيرها الأستاذ أحمد حامد بأن مكان اجتماع اليوم بقسم اللغويات، وليس فى قاعة الاجتماعات التى نجتمع فيها شهرياً، وعاد بى الحنين إلى القسم الذى أزعم أن روحى وأنفاسى فيه؛ ففى هذا القسم حصلت على العالمية "الدكتوراه"، ورقيت إلى درجة أستاذ مساعد، ثم إلى درجة أستاذ، وفيه درست مواد تمهيدى الماجيستير، وبدأت الذكريات تسيل من قلبى على كل أجزاء بدنى، وما أن دخلته، ولقيت فيه زملائى من كبار علماء الجامعة حتى أنكرته، وشعرت عن يقين بأنى أدخل مكانا لأول مرة، ولم أدخله قبل ذلك اليوم ألوف المرات؛ فقد دخلت غرفة ضيقة جداً، وكانت قبل أوسع من الدنيا وما فيها، وسرى ضيقها إلى نفسى التى كادت تتحجر من هول ما أصابنى، ولولا يقينى بأن مبنى الكلية لم يتغير، وبالتالى فإن هذا القسم لم يتغير، فكيف أراه أضيق من ثقب إبرة، وكان أوسع من المحيط؟!.
وصارحت زملائى الكرام بهذا الذى شعرت به؛ فقالوا جميعا: نعم والله، ورحت أشرح لهم سر هذا الضيق الذى حل محل الوسع العظيم بأنه لموت الرجال الذين علمونا، وتتلمذنا لهم، وبرحيلهم رحل الوسع، وحل محله ذلك الضيق الكئيب الذى خنقنا جميعا بلا استثناء، ففى هذا المكان كان يجلس الفضلاء من العلماء، ومنهم إبراهيم البسيونى، وإبراهيم حسن، وعبد الخالق عضيمة، وعبد العظيم الشناوى، وحسن كحيل، ويوسف الجرشة، وغيرهم، هؤلاء لم يكن العلم يسكن فى عقولهم، بل كان يسرى فى دمائهم، فهم يتنفسونه، ويعيشون به، وعليه، ومن أجله، وهم علماء عاملون وليسوا بنكيين، يفرزون العلم كما تفرز ماكينة البنك المبلغ المطلوب، لا صلة بينها وبين اليد التى تمتد لسحب هذا المبلغ، كانوا إذا اجتمعوا أشعروك باجتماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، الدنيا عندهم دار عمل، ووجه الله عندهم هو الغاية والهدف، ويعتبرون تلاميذهم أبناء لهم حقيقيين، يحرصون كل الحرص على تعليمهم، وإرشادهم، والنصح لهم باعتبارهم امتدادا لهم، وأنا أقسم بالله أنى ما سمعت واحدا منهم يتكلم فى الفلوس، وكأنها لم تكن موجودة فى الحياة، ولا الأسعار ما زاد منها وما رخص، كل أحاديثهم فى العلم، ومناقشة مسائله وقضاياه، درس لنا فضيلة الأستاذ الدكتور إبراهيم البسيونى مادة العروض والقوافى بتدريب آذاننا على التفاعيل حتى نهتدى إلى البحر الذى ينتمى إليه البيت بمجرد قراءته، حتى جعلنا ببذل جهد منه عنيف كالذين عرفوه فى زمان الفطرة، قبل أن يختلط العرب بغيرهم، وتفسد الفطرة، ويحتاج الناس إلى إنشاء العلوم ضمانا لصون الألسن عن الانحراف، وذلك بوضع القواعد التى يلتزم بها كل حريص على فصاحته فى لغته التى ورثناها عن أسلافنا أولى الفطرة السليمة، كان إذا جلس إلى جوار صنوه يوسف الجرشة ذكرا من العجائب العروضية والصرفية والنحوية ما لم تأت به أمهات الكتب، وتبين لى أن هذه الموسعية فى العلم أدت إلى توسعة المكان الذى صار من بعدهم ضيقا إلى هذا الحد الخانق، وقد ذكر كل عضو فينا ما يحفظه عن هؤلاء العلماء؛ فكلنا من تلاميذهم، ودعونا لهم بالرحمة والمغفرة، وتباكينا على زمانهم الذى كان، وأنشدنا جميعاً قول القائل:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
ولكن أخلاق الرجال تضيق
ومعناه أن البلاد لا تضيق مساحة بأهلها، ولكن الضيق الحقيقى هو ضيق الأخلاق التى إذا ضاقت ضاق المكان، ولو كانت مساحته أوسع من الخيال.
فى هذا القسم كان شفاؤه
الأحد:
مرض الأستاذ الدكتور إبراهيم البسيونى ذات يوم، وشكا بطنه، وتغيب أياما عن القسم الذى كان بيته ووطنه، ومسكن روحه، ومستودع راحته، وحين أفاق، قال لولده: إذا أردت لأبيك الشفاء فاحملنى إلى القسم فى الموعد الذى اعتدته، أى فى السابعة صباحا قبل أن يحضر عمال الكلية، ولأن الولد كان يعرف أباه، وأن مناقشته غير مجدية استجاب له، وحمله إلى القسم فى الموعد الذى أراد، وما أن دخله، وقعد على كرسيه حتى قال: ربنا ولك الحمد، الآن ذهبت كل أوجاعى، وعاد إليه ولده فى الخامسة مساء ليجده فى تمام العافية، يتحرك، ويمشى، ويقرأ، ويكتب، فعاد به إلى البيت، وكان بحى الزيتون بالقاهرة، وقد قرت لرؤيته كل عين رأته فى تمام العافية، ترى لو وجد كل إنسان راحته وشفاءه فى مقر عمله حيث يعمل، ويتقن، وينتج هل سيكون هذا حالنا؟، وهل سيكون اقتصادنا فى حالة صعبة نعانيها، ونورث معاناتها الأجيال من بعدنا ؟
كيف والله العلى القدير يقول: «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا»!.
من أجل هذا كان المكان واسعا، وما وسعه إلا لوسع الروح التى دبت فيه فوسعته فى أعين أصحابه، وأعين الذين دخلوه، ولو لم يكونوا من أصحابه، فكما أن المرض بعضه يعدى؛ فيمرض بتلك العدوى الصحيح كذلك الصحة تعدى؛ فيصح بتلك العدوى العليل، وهناك بلا شك من لا تعديه الصحة؛ لأنه قد تحصن ضدها، كالذى تحصن ضد المرض فلا يعديه، والذين تحصنوا ضد الصحة هم الذين مرضت قلوبهم، وهم المنافقون ومن على شاكلتهم، الذين يتظاهرون بأنهم يعملون، وهم فى الحقيقة لا يعملون، وإنما فى ضلالاتهم يعمهون، كالذين قال الله فيهم «تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى» فالعبرة بالقلوب لا بالأجساد، وأذكر قولى من قصيدة لى التى ألقيتها بأبها السعودية فى توديع الزميل الفاضل الدكتور محمد فؤاد على الدين:
ولئن تجمعت القلوب عشيرة
ما ضر أن تتفرق الأجسام
أى إذا كانت القلوب متجمعة مترابطة كنا مجتمعين، وإن تفرقنا أجساما، وإن كانت قلوبنا متفرقة كنا متفرقين وإن كنا معاً فى مكان واحد، أو كنا نائمين على سرير واحد، وكذلك الحال فى العمل، لو كان قلب المرء حاضرا وهو يعمل نجح العمل، ولو كان قلبه غائبا فشل عمله، وإن رأيت السواعد تتحرك؛ لأن القلب هو الملك والقائد للجوارح كلها، فإذا كان القائد يقظا انتبه إلى حركة الجوارح؛ فكانت سديدة، وإن كان غافلا لم ينتبه إلى حركتها، وقد تصيب تلك الجوارح مع غفلة القلب، لكنها من باب معروف فيه العلم واسمه(خبط عشواء) أو من باب (رمية بلا رام)، وكثيرا من الناس على هذا المنوال الذى قد يعتبره الغافل سلوكاً صائباً، وهو فى الحقيقة عين الخطأ، لأن العشوائية غير سديدة لإنشاء حياة مستقيمة، وقد عرف العوام هذا المعنى حين يتقدم إليهم شخص لخطبة ابنتهم، وهو غير موظف، مهما حكى لهم عن دخله المتغير لا يقبلونه، ويريدون موظفا؛ لأن راتبه ثابت، أما الأول فقد يربح فى شهر مبلغا كبيرا، ويظل شهورا لا يربح شيئا، فحياة ابنتهم مهددة بالخطر؛ إذ ماذا تفعل فى شهور الجفاف؟.
فهذا بالنسبة إليهم من باب خبط العشواء، فهموه من أجل مستقبل شخص واحد، هو ابنتهم، فكيف نتجاهله من أجل مستقبل وطن بأكمله، ولا نعنى بتربية الأجيال على يقظة القلوب منذ نعومة أظفارهم، فكيف يستذكر تلميذ دروسه وإلى جواره ذلك الموبايل الملعون الذى يتابع فيه ظلالات وخرفات ومشاهد وما يسمى أغنيات، وما يسمى بالسوشيال ميديا التى يتابع من خلالها أخبار من تزوجوا، وطلقوا، ولبسوا، وخلعوا، وأذكر فى هذا السياق وأنا طالب فى المرحلة الإعدادية أن رجلا من الفلاحين كان يحدثنى فى أمر من الأمور العادية، ونادانى والدى رحمه الله، وسألنى: فى أى شىء كان يحدثك هذا الإنسان؟.
فأجبته بما كان يحدثنى؛ فقال لى: وهذا سيأتيك فى الامتحان؟.
فقلت: لا؛ فقال: إذاً أبشر بالفشل؛ فلم أعط أذنى من بعدها لأى متحدث، وأقول: ماذا كان والدى سيقول لى لو رآنى وهذا الموبايل يسمعنى الأساطير وكتابى أمامى مفتوح، ويقينى أن والدى لن يقول لى شيئا؛ لأنه كان سيموت، ولأنى أعرف ذلك عن والدى كنت سأودع كل شىء يصرفنى عن استذكارى دروسى؛ لأنى محال أن أكون سببا فى قتل أبى، ولو كان كل تلميذ يعرف هذا عن والده لرمى بهذا الموبايل بعيدا عنه، واستحضر قلبه وذهنه وهو يتلو قول الله تعالى: «يا يحيى خذ الكتاب بقوة» وهيهات أن يكون أخذ الكتاب بقوة مع لهو يصاحبه، أو أى شىء يلهيه عن متابعة عناصر كل درس من دروسه، وبمثل هذا أقول لكل عامل يقوم فى همة ونشاط متوجها إلى عمله: لكى تنهض بوطنك، وتنعش اقتصاده، وتجعله فى مقدمة الأمم يجب أن يسبقك قلبك إلى هناك، وسائرك يحن إلى هذا القلب الذى هو سر حياتك، وعندئذ يتسع وطنك كما كان قسم اللغويات واسعا بهؤلاء العلماء الذين سبقتهم قلوبهم إليه قبل أن تتحرك أقدامهم، ووجدوا فيه شفاءهم.
الدار فى بُعدك مقبرة
الإثنين:
لا أنسى ما حييت تلك الفلاحة التى جاءتنى لأكتب رسالة إلى زوجها المسافر مع عمال التراحيل، وكتبت لها مقدمة كنت أزعم أنها سيغمى عليها حين تسمعها لما فيها من فصاحة وبلاغة؛ فقد كتبت بلسانها:
زوجى العزيز، أكتب إليك هذه الرسالة وأنا جسد بلا روح؛ فأنت الروح والقلب، وإن كنت فى غربة فأنا فى غربة أشد؛ فما الحياة فى غيابك إلا وهم، وما الآمال فى بعدك إلا سراب إلى آخر ما كتبت، وكانت المفاجأة أنها لم تحفل بكلمة مما قلت، ولم تؤثر فيها جملة، وقالت لى: اكتب له: الدار من غيرك مقبرة.
وشعرت أنا بالفشل أمام تلك الجملة التى قالتها. ولا شك أن المقبرة ضيقة، والدار بلا شك واسعة، فكيف رأت تلك الفلاحة هذه الدار الواسعة فى مساحتها ضيقة ضيق المقابر، والتى تضاف الظلمة إلى ضيقها، فهى ضيقة مظلمة بينما الدار واسعة مشرقة بنور الشمس الذى كان يدخلها فى كل جانب فيها!
لا شك أنها لم تكن تراها بعين رأسها، وإنما كانت تراها بعين قلبها الذى يسكن بين ضلوعها، وزوجها كان قلبها؛ فكانت فى غيابه كأم موسى عليه السلام حين أودعته فى التابوت، وقذفته فى اليم، وألقاه اليم بالساحل، فبعد عنها، قال الله تعالى: «وأصبح فؤاد أم موسى فارغا» وما أصبح فؤاد أم موسى فارغا إلا لأن ابنها كان قلبها، فلما بعد عنها صار فؤادها فارغا، من أجل هذا رأيت قسم اللغويات أضيق ما يكون لأن الذين كانوا يوسعونه قد رحلوا، وبرحيلهم رحل الوسع، وحل محله الضيق الذى نبهت إليه زملائى فلم ينكروه، بل أقسموا على صدق قولى، وهذا أدخل السرور على نفسى؛ لأنى نبهتهم فانتبهوا ولو لم يكن منهم هذا الانتباه لازداد هذا الضيق فى نفسى وعينى؛ لأن غياب المعانى ينذر بشؤم مستطير، وحضورها يبشر بعودة الوسع الذى كان موجودا.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة