سناء مصطفى
سناء مصطفى


يوميات الاخبار

«لست ملاكاً»

الأخبار

الإثنين، 22 أبريل 2024 - 08:08 م

سناء مصطفى

بعد ذهابهما رحت أفكر كثيرا فى جملتها البسيطة التلقائية التى وصفتنى بها دون أن تعرفنى إلا من خلال بضع حروف وصور على الفيسبوك:

عدتُّ من زيارتى لمعرض الكتاب فى مطلع هذا العام 2024 بجعبتى حكاياتٌ وذكريات، وبحقيبتى كتبٌ وروايات. تمتْ دعوتى لأمسية شعرية، فوجدتها فرصة لالتقاط الأنفاس بعد تيرم دراسى شاق، وفرصة للقاء الأصدقاء والصديقات ممن لا تسمح المسافاتُ البعيدة وعجلةُ الحياة التى لا تتوقف، بلقائهم/ن والأنس بهم/ن، وفرصةً ليحنو عليّ الشِّعرُ ويقول: هنا امرأةٌ مسكينةٌ تتشبث بطرف كُمَى لأنقذها من أسْرِ الحياة، وقتامة الواقع.
رافقني-كعادته كل عام- فى رحلتى للمعرض «عبد الرحمن» ابنى وتوأم روحي، ورفيق ذكرياتى بحلوها ومرها. منذ أن تفتحت عينا «عبد الرحمن» على القراءة، وتذوق حلاوتها فى قلبه، وأبصر نورها فى عقله، وهو يعتبر معرض الكتاب عيداً يسعد فيه بلقاء صحبة طيبة جمعته بهم رائحةُ الكتب التى لا يقلع عن إدمانها صبٌّ وقع فى غرامها، فصارت له شفاءً ورواء. شارك «عبد الرحمن» فى مسابقة «تحدى القراءة العربي» منذ نسختها الأولى فى 2016، وكان وقتها بالصف السادس الابتدائي، وكان ممن أسعدهم الحظ بالفوز بمركز متقدم على مستوى الجمهورية، وشارك فى التصفيات التى أقُيمت فى دبي. تذوق ابنى منذ ذلك الحين حلاوة الثمار حين أحسنَ الغرس وتعهدَه بالرعاية والاهتمام، فصار حريصاً على العناية بحديقته، وإدخال أصناف جديدة عليها كلما سنحت الفرصة، فتنوعت مجالاتُ قراءاته لدرجة أذهلتنى ما بين تاريخ وأدب وسياسة وفنون وعلوم، ولمستُ فيه من وقتها هذا الأثر الذى أُدركه جيداً، وأَخبُرُ ما يتركه فى النفس من جمال وجلال. كان من ضمن هدايا فوزه فى المسابقة مجموعة كبيرة متنوعة من الكتب القيمة فى مختلف المجالات، ساهمت بشكل كبير فى تكوين مكتبته الخاصة، ثم بعد فوزه أيضا- كطالب جامعى هذه المرة- على مستوى الجمهورية فى الموسم الثانى من مسابقة «المشروع الوطنى للقراءة» 2022 تم إهداؤه هذا العام 2024 كوبون بقيمة مالية معقولة لشراء الكتب من معرض الكتاب هذا العام، فانتقينا سوياً مجموعة متميزة أضيفت إلى مكتبته، ونأمل في أن تسمح له دراسته فى كلية الطب باقتناص بعض الوقت لقراءة ما أضافه لمكتبته من كتب جديدة. لم يحرمنى «عبد الرحمن» من كرمه، فشاركنى هديته باقتناء بعض الكتب التى أريدها من المعرض، فكان أن وقعت عيناى علي مجموعة من الكتب فى جناح الهيئة العامة للكتاب، فانتقيت منها لـ «طه حسين» «وأدونيس» «ومحمد المنسى قنديل» و»محمد حسنين هيكل»، وانتحيتُ ركنا جانبيا فى زاوية «المشروع الوطنى للقراءة»، وغرقتُ، وأنا أهتف: «أنا قادمٌ أيها الضوء».
زى الملاك
بينما أتجول بين قاعات معرض الكتاب، سمعتُ من ينادى عليّ. التفتُّ فإذا بفتاةٍ باسمة متهللة الوجه تشير نحوي. ملامحها مألوفة لى لكننى لا أتذكر اسمها، أشارت لصديقتها: هذه «سناء مصطفى» شاعرة جميلة وإنسانة زى الملاك، وهى صديقتى على الفيسبوك. رحبتُ بها وبصديقتها، وأسعدتنى ابتسامتها وفرحها الطفولى كأنها التقت نجمتها المفضلة. بوسائل التواصل الاجتماعى وما فعلته فى حياتنا وسلوكنا!
بعد ذهابهما رحت أفكر كثيرا فى جملتها البسيطة التلقائية التى وصفتنى بها دون أن تعرفنى إلا من خلال بضع حروف وصور على الفيسبوك: «زى الملاك»، وهى جملة يصف بها الناسُ غيرهم ممن يتوسمون فيهم طيبةً أو حسن خلق. كنتُ أتساءل بيني وبين نفسى كثيراً : هل أحب أن أكون طيبةً مطيعةً رقيقةً خاليةً من الذنوب « زى الملاك»؟ هل يسعدنى أن يترحم الناس عليّ وهم يسيرون فى جنازتى أو يواسون أمي: كانت «زى الملاك»؟ هل يرضينى أن أقف أمام الله يوم القيامة وأنا أبتسم: كنتُ «زى الملاك»؟ قد يسألنى الله: ألم أكن قادراً على خلقكِ «ملاكا» فلماذا خلقتكِ إنساناً؟ ألم أفضلكِ على الملائكةِ وأعطكِ القدرة على الاختيار لتكونى خليفتى فى الأرض؟ فبماذا أجيب؟
الملائكة لا يخطئون لأنهم ليسوا أحراراً، ولا يملكون الاختيار. يجلس الواحد منهم فى مكانه، وينفذ ما يُؤمر به منذ بدء الخليقة حتى قيام الساعة، لكن الإنسانَ حرٌّ. يستطيع أن يتذوق طعم التجربة فيفشل، وينجح، ويصعد، ويسقط، ويذنب، ويستغفر، ويبدأ، ويُنهي، ويأتى اللهَ بعد كل هذا محبا طامعا فى رحمته لأنه خُلِق حرا حين مُنِحَ القدرة على الاختيار فاستحق أن يكون خليفة الله فى أرضه.
«يوسف كمال فى رواية أخرى»
أرسلت لى صديقتى الكاتبة والروائية «منى الشيمي» نسخةً من أحدث رواياتها، والمعنونة بـ «يوسف كمال فى رواية أخرى»، الصادرة عن دار الشروق 2024. حصلت «منى الشيمي» خلال مشوارها الطويل والمتحقق فى الكتابة على جوائز عربية لها وزنها، كجائزة «الشارقة»، وجائزة «ساويرس»، وجائزة «كتارا»، وتقشت اسمها فى ذاكرة القراء من خلال كتابة مختلفة لا تشبه فيها إلا نفسها. نشأت «منى الشيمي» فى نجع حمادي، وعاشت هناك طفولة ثرية، مفعمةً بتفاصيل مدهشة تجيد توظيفها فى كتاباتها بطريقة جذابة تجعل القارئ يشعر وكأنه فى قلب الحكاية، وواحد من أبطالها. كانت «منى الشيمي» فى طفولتها تلهو مع رفيقاتها فى ساحة قصر البرنس «يوسف كمال» فى نجع حمادي، مما خلق داخلها شغفا بحياته وما نسج حوله من حكايات وأساطير ظلت تسكنها، حتى حررتها من أسْر ذاكرتها، فجاءت رواية بديعة، أو سيرة تاريخية من منظور روائى يتقن خيالُها الخصب نسج خيوطه بمهارة وذكاء.
حديث «منى الشيمي» عن بطل روايتها أثناء محاولتها تحليل شخصيته لا يفارق ذاكرتي، حيث تقول: «يوسف كمال ثرى من قبل لحظة وجوده فى الحياة، أمير، نصف أميّ. دللته أمه بلا حدود، وإن لم تفعل فإن فيض مشاعر الأمومة وحده أحياناً كفيل بخلق الوحش النرجسي». وتقول أيضا فى موضع آخر: «نقص إحساس الطفل بالتعلُّق الآمن والقبول يجعله يعانى من الإحساس بالرفض والبعد وخلق المسافات بينه وبين الآخرين. نقص إحساسه بالاستقلالية والقدرة على اتخاذ القرار، حتى فى أموره الصغيرة كاختيار الملابس والطعام واللعب، يجعله يعانى من الإحساس بانعدام الكفاءة، إذا مُنِع من التعبير عن رأيه، أو قوبل بالسخرية والتسفيه، يصبح مهزوزًا وخاضعًا لسيطرة الآخرين، يفتقد القدرة على التعبير عن نفسه. إذا انتهكت حدوده الخاصة يعانى من فقدان القدرة على احترام حدوده وحدود الآخرين، وإذا منع من اللعب يشعر بقية عمره أن قيدًا يكتِّفه».
تقول فى الصفحة الأخيرة من روايتها: «وفى نجع حمادي، حيث يهوى الناس نسج الحكايات الشفاهية على مهل، أخذت قصص يوسف كمال طريقها إلى الأسطرة. ظل جزء من كل حكاية ثابتًا، وتحور الجزءُ الآخر حسب الجماعة التى ابتدعته، وجدانها، ثقافتها، معتقداتها.. من جيل إلى جيل، تم حذف جزء، وغضافة آخر. الوقت دوما ملكهم، ليست هناك تسلية أخرى، وظلال أشجار الكافور والجميز كثيرة، وومتدة على طول الجسور.». استمتعتُ بصحبة «منى الشيمي» وبعض الأصدقاء والصديقات فى زيارة لقصر البرنس «يوسف كمال»، على هامش مناقشة روايتها «يوسف كمال فى رواية أخرى» فى ضيافة نادى الأدب بقصر ثقافة «نجع حمادي»، حيث قدم الصديقان: الناقد والشاعر «أشرف البولاقي»، والدكتور «بهاء الفرنساوي» قراءات نقدية بديعة عن الرواية، وشارك جمهور كبير من المثقفين والقراء آراءهم وتساؤلاتهم حول الرواية، فى جو لا ينسى من المودة وكرم الضيافة والجمال.
«ثورة الفانيليا.. رسائل من المطبخ»»
عرجتُ أثناء زيارتى لمعرض الكتاب على دار «المثقف» حيث التقيتُ صديقتى الغالية «هبة الله أحمد» التى فازت مؤخرا بجائزة ساويرس الثقافية عن مجموعتها القصصية «ثورة الفانيليا»، وهذا خبر أسعدنى كثيرا. تستحق «هبة» التى أعرفها منذ سنوات عدة كل جميل، فهى على مستوى الإبداع كاتبة متميزة مهمومة بإبداعها تحسب لخطوتها قبل أن تخطوها ألف حساب، أما على المستوى الإنسانى فهى جميلة ودودة، صديقة لأصدقائها، تصلهم وتساندهم كما ينغى أن يكون الوصل والمساندة.. يجمع «ثورة الفانيليا» ما بين أدب الرسائل والقصة القصيرة، فى لغة رائقة سلسة تعرف طريقها إلى قلب وعقل قارئها، وتتميز بها الكاتبة بشكل لافت. خاطبت «هبة» فى رسائلها حبيبا غائبا، وأنسنتْ جماداتٍ راحت تطيب خاطرها، وتشد أزرها، وتنصت لضعفها وتضحك معها. يتفاجأ القارئ لرسائل «هبة» بحكايات لا تنتهي، تشاركها امرأة عاشقة مع حبيب غائب، وكأنها تعوض غيابه بعلاقات دافئة مع أشيائها وتفاصيلها اليومية المدهشة.
نخلة وشجرة ليمون
كانت لنا شجرة ليمون، وكانت لجيراننا نخلة. لا بل كانت لنا نخلةٌ، ولجيراننا شجرة ليمون. يبدو أننى نسيت، لكن على أية حال لم يكن هذا بالشيء المهم؛ فالليمون لنا معا، والبلح لنا معا، وترابُ الفَسَحة بين بيوتنا وبيوتهم يعفر أرجلنا وأرجلهم، والخير الذى ترسله السماءُ لم يكن يشغل ذهنه فى أى دارٍ سيهبط، فسيان دارنا أو دارهم. كان أبى عليه رضوان الله يقول: أوصيكم كما أوصَى حضرة النبى «أبا ذر الغفاريّ» حين قال: «يا أبا ذر إذا طبخت مَرَقَةً فأكثِرْ ماءَها وتعاهَدْ جيرانك». طبخنا المرق، وأكثرنا الماء، وتعاهدنا الجيران، لكن الجار لم يعد هو الجار، والزمن لم يعد هو الزمن، والخير الذى ترسله السماءُ يطارده قلبٌ حاقدٌ أو نظرةٌ حاسدة، أو عينٌ متلصصة، فيسلمُ قدميه للريح باحثا عن كوكب آخر صالحٍ للحب.
سلامًا
لم يمت أبى لأن هزيمةً نخرت عظامَه
لم يمت بسبب المرض
ولا لأنه بعد ستين صعودا
اتكأ على جذع حلمٍ فتهاوى
لكننى حين أمسكتُ يدهُ
وزرعتُ فيها دمعتين
قال: سلاما
ثم مات.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة