جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

أحزان من عصر نابليون

جمال فهمي

الخميس، 02 يناير 2020 - 05:41 م

كل ـ تقريبًا ـ المؤرخين وكتاب سيرة حياة نابليون بونابرت يجمعون على واقعتين اثنتين ينسبانهما لهذا القائد الفرنسى ذائع الصيت، وكلتاهما لهما علاقة بحملته على مصر.. أولاهما قولته الشهيرة التى أطلقها وهو يشق بسفنه عباب البحر فى الطريق إلى غزو المحروسه: «نحن ذاهبون إلى أهم بلد فى الدنيا»، والثانية أن الجنرال حمل معه فى الطريق من فرنسا إلى مصر رواية «أشجان (أو أحزان) الشاب فرتر» التى كتبها المفكر والمبدع الألمانى الكبير يوهان ولفجانج جوته (1749 ـ 1832) فى بواكير حياته وبقيت مع رواية «فاوست» تحتلان مكانة بارزة ضمن أهم وأشهر أعماله الغزيرة، بل لقد أضحت هذه الرواية فى وقتها «موضة» أدبية واجتماعية واكتسبت شعبية هائلة حتى أن كثرا من شباب أوروبا فى تلك الأيام البعيدة راحوا يقلدون بعض سلوك بطلها «فرتر» الذى رسم جوته شخصيته باقتدار وحكى كيف عاش حياته القصيرة حيرانا مكتئبا وغير قادر على التوائم والانسجام مع المجتمع، ما اضطره فى النهاية إلى الانتحار.
إذن «أشجان فرتر» برغم بساطة حكايتها وربما بسبب هذه البساطة فقد بدت تحمل بين دفتيها نوعا من التبشير والتأسيس لاهتمامات واتجاهات أدبية تغوص أكثر وأعمق فى مشكلات وإشكاليات بعضها قديم قدم انتظام البشر فى مجتمعات،  لكن أغلبها تفاقم وتعقد وازداد حدة وثقلا مع اجتياح أنماط ونظم الحداثة حياة الناس، يقف على رأس قائمة هذه المشاكل ما يمكن أن نسميه «توعك» العلاقة بين الإنسان الفرد والعالم المحبط به، وما يصاحبها من تعاسة وشعور شبه مزمن بالحزن وعدم الرضا عن النفس.
فما هى تلك الحكاية؟ إنها باختصار مخل، قصة شاب يدعى «فرتر» رواها هذا الأخير بنفسه من خلال رسائل وخطابات دبجها لحبيبته من دون أن يرسلها لها أبدا.
تبدأ الحكاية حين يصل الشاب إلى مدينة صغيرة حيث يلتقى بالحسناء شارلوت، وفورا يقع فى غرامها ويهيم بها من دون أن يعرف أول الأمر أنها مخطوبة لألبير الذى يتميز بنزاهة مغلفة برزانة وهدوء يلامسان حدود الملل، ما يجعله فى نظر فرتر لا يتمتع بصفات مميزة تؤهله للفوز بحب شارلوت، ولكنه سرعان ما ينسج علاقة صداقة وطيدة مع غريمه الذى لا يبدى أى اعتراض على استمرار لقاءات فرتر بشارلوت حتى بعدما صارت هذه الأخيرة زوجته.. وهكذا يزداد توهج وتأجج شعور فرتر بحب زوجة صديقه بينما هو لا يستطيع البوح لأحد بهذا الشعور، ولا حتى لشارلوت التى يظن أنها تبادله المشاعر نفسها، غير أن الفتاة كانت تعرف فعلا أنه يحبها لكنها لا تكترث بهذا الحب الذى ربما كانت تعيشه بدرجة ما بيد أنها لا تكف عن مقاومته ومحاولة طرده من أعماقها، أو فى أحسن الأحوال تريده أن يبقى مجرد «حب سرى» لا تعترف به ولا تريد فى الوقت نفسه أن يموت كليا فى قلب عاشقها.
هذه الحقيقة (الحب من طرف واحد) تتسرب رويدا رويدا إلى صدر فرتر فتزداد تعاسته وكآبته، وفى اللحظة التى يصل فيها إلى ذروة القنوط واليأس فإنه يغتنم آخر فرصة ويغمر محبوبته بأحضان وقبلات حارة على أساس أنه مسافر، ثم نكتشف نحن وهى، انه كان يودعها هى والدنيا كلها الوداع الأخير، إذ فجأة يطلق الرصاص على نفسه!!
وأخيرا، فإنه من قبيل «قلة الأدب» أن نحمل «الأدب»، أية دروس أو مواعظ، ومع ذلك فإن نهاية رواية «أحزان فرتر» تبدو وكأنها تحرضنا على ألا نترك وجع حياتنا يتفاقم ويستفحل حتى يجرجرنا إلى الانتحار.

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة