أيمن منصور ندا
أيمن منصور ندا


يوميات الأخبار

بروتاجوراس بدون سقراط!

بوابة أخبار اليوم

الإثنين، 16 مارس 2020 - 07:03 م

أيمن منصور ندا

«بعض القوة كانت مطلوبة إزاء الحُطَيْئَة، وبعض الحزم والحسم كانا لازمين فى مواجهته.. ووصفة عمر فى التعامل مع الحُطَيْئَة درس عملى مطلوب فى كل زمان ومكان».

لفت انتباه عدد كبير من المفكرين والباحثين، خلال العقدين الأخيرين، حدوث تغير جوهرىّ فى سلوكيات المصريين وفى طريقة حياتهم، وفى أنماط تعاملهم مع بعضهم البعض من ناحية، ومع الواقع المجتمعيّ الذى يعيشونه من ناحية أخرى،بحيث ظهرت عادات لم يكن يتخيل أحد أن يقوموا بها، وانتشرت سلوكيات كانت بعيدة إلى حدّ كبير عن طبائعهم، وبرزت على السطح قيم كانوا، لفترة طويلة، فى مأمن من انتشارها. وأصبح السؤال الأكثر تداولاً هو: ماذا حدث للمصريين؟ على حدّ تعبير الراحل جلال أمين (1935- 2018م.).
المفكر الفرنسى «إميل دور كايم» (1858- 1917 م) لديه إجابة عن هذا السؤال، صاغها فى تعبير «الأنوميا الاجتماعية»،والذى يشير إلى أنَّه عادةً ما يصاحب التغيرات العميقة فى المجتمعات، خاصة بعد الحروب أو الثورات أو حالات الكساد أو الرخاء، حدوث حالة من اختلال المعايير واضطرابها؛ إذ تصبح هناك حالة سيولة فى القيم ورخاوة فى الأعراف، وتدهور فى الأخلاق، ويصبح كلُّ شيء مقبولاً، وكلُّ تصرف جائزاً، ويترتب على ذلك شيوع عدم الرضا والسخط والصراع والانحراف بين الأفراد.
عالم الاجتماع الأمريكى روبرت ميرتون (1910- 2003) أشار إلى أنَّ سبب هذه الحالة (الأنوميا) هو التعارض بين الأهداف والغايات المقبولة من ناحية، والوسائل والأدوات المجتمعية المشروعة لتحقيقها من ناحية أخرى.. وعندما يسود مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» وتكون مشروعية الوسيلة مرهونة بمشروعية الهدف، ويكون جلب المنافع الشخصية مقدماً على درء المفاسد المجتمعية.. وعندما يمجّد المجتمع الأثرياء ولا يبحث عن طرق ثرائهم، ويدعم الناجحين ولا يفحص أساليب حصولهم على درجاتهم، ويقدِّر البارزين إعلامياً ولا يدقِّق فى معايير بروزهم.. فى كلّ هذه الحالات المتناقضة تحدث حالة من اختلال القيم وانعدامها ويصاب المجتمع بالأنوميا.. ويصبح الأفراد وكأنهم يسيرون وسط بحر الرمال العظيم!
فى الفترات التى تسود فيها الأنوميا الاجتماعية، لا يكون الفرد ملزماً بالقيم التى يقرِّها المجتمع.. ولا يكون هناك «كبير» يرجع إليه الفرد أو يشتريه فى حالة عدم وجوده، إذ يصبح كلُّ فرد كبير نفسه وكبيراً فى نفسه،ويعلن كلُّ فرد «من النهاردة مفيش حكومة.. أنا الحكومة» كما أعلنها أحمد السقا فى فيلم الجزيرة، أو «أنا الدولة.. والدولة أنا» كما أطلقها لويس الرابع ملك فرنسا! أو «لا يوجد غيرى فأنا وحدى أقرر الخير وأخترع الشر» و»الجحيم هم الآخرون» كما قالها جان بول سارتر!
عندما تسود الأنوميا الاجتماعية، تنتشر المتناقضات وتحدث الازدواجية القيمية، والشيزوفرينيا المجتمعية: يكون المجتمع متديَّناً بطبعه، ويكون فى الوقت نفسه متصدراً لقائمة المجتمعات الأكثر تحرشاً والأكثر بحثاً عن الأفلام الجنسية على محركات البحث الدولية. ويكون الأفراد مفتونين بأم كلثوم وعبد الوهاب، ومدمنين لأغانى المهرجانات.. ويكون الأفراد دعاة تواضع وتسامح فيما يتعلق بتصرفات الآخرين، وقساة القلوب وسلطويين فيما يتعلق بتصرفاتهم..
فى القرن الخامس قبل الميلاد، كان الفيلسوف اليونانى بروتاجوراس (487- 411 ق.م.)يعتقد أنَّ «الفرد هو مقياس كلّ شيئ» وأنَّه لا يوجد معيار ثابت وواحد للحقيقة، فما هو صحيح بالنسبة لك قد يكون خاطئاً بالنسبة لي؛ والمهم هو قدرتك على إقناع غيرك بما تعتقد، والأهم هو قدرتك على التلاعب بالألفاظ وعلى إجادة المغالطة، واللعب بالثلاث ورقات كما نقول.. غير أنَّه من حسن حظ اليونان أن كان هناك فى هذا التوقيت سقراط العظيم (470 - 399 ق.م.)، الذى ألقى عصاه فإذا هى تلقف ما يأفك بروتاجوراس وصحبه..
الأنوميا الاجتماعية لا يتم القضاء عليها إلا بالتنوير،وبمواجهة كل مظاهرها بقوة، وبإحباط كل تداعياتها بحسم.. تماماً مثلما فعل سقراط، الذى تناول السمَّ راضياً وهو يفنِّد مع تلاميذه أباطيل السوفسطائيين.. فهل من مستعد؟!
بعض ورق التوت مطلوب
فى عام 1941، وأثناء الحرب العالمية الثانية، زار الرئيس الأمريكى «فرانكلين روزفلت» بريطانيا، وتم ترتيب لقاء له ولبعض أركان إدارته مع رئيس وزرائها الأشهر «ونستون تشرشل» فى أحد الفنادق، وعندما دخلوا جناحه وجدوه عارياً تماماً، ولما همُّوا بالانسحاب تجنباً للإحراج، طلب منهم تشرتشل عدم المغادرة؛ إذ ليس لدى بريطانيا ما تخفيه عن أقرب حلفائها!!
كثيرون فى حياتنا المعاصرة يخرجون للناس كما ولدتهم أمهاتهم، اقتناعاً بأفكارهم وإعجاباً بهيئاتهم.. وليس عليهم حرج إن فعلوا ذلك، إذ ليس لديهم ما يخفونه عن أقرب حلفائهم من المعجبين على صفحات التواصل الاجتماعى ومن المتابعين لهم عبر وسائل الإعلام.. ظاهرة «التعرى» فى الحياة الاجتماعية والفكرية ليست جديدة، ولكن المدى الذى وصلت إليه حاليَّاً غير مسبوق.. اختلاف فى النوع والدرجة معاً.. «التعرى» قديماً كان وسيلة للتطهر وللوصول إلى مرحلة النيرفانا: حيث التحرر من كلّ أسباب المعاناة..التعرى حاليَّاً هو طريقة لكسب الإعجاب، وللوصول إلى مرحلة الشعبوية والتأثير..
بعض الأفراد حياتهم أصبحت أونلاين: عرضاً مستمراً لكلّ همسة ولمسة وبدون إخفاء لتفاصيلها الشخصية جداً. وبعض المفكرين يعرضون ما يطرأ على أذهانهم من بنات أفكارهم بدون تهذيب أو تشذيب، وبدون مطالعة أو مراجعة، تماماً كما أوجدتها اللحظة.. الأفكار نفسها غدت»عفو الخاطر»مزيجاً من التلقائية والعشوائية.. قضاء الحاجة على الشاشة صار رمزاً للواقعية، والسوقية ومشاهد الأحياء الشعبية المتهالكة أضحت مرادفاً للمصداقية، واستخدام الألفاظ «القبيحة» أمست مظهراً من مظاهر الجدعنة والروشنة، والإيحاءات والإيماءات الجنسية باتت من لوازم «الطبيعية» ومتطلباتها،وكلُّه «على عينك يا تاجر»..
بعض «ورق التوت» مطلوب فى حياتنا.. شواطئ العراة المجتمعية، ومنتجعات كشف المستور الاجتماعية، لها ثقافاتها، ولها ناسها، ولسنا أهلاً لها أو مستعدين حالياً للتعامل معها.. يا سادة: بعض الغطاء حياة، وبعض الستر نجاة.. وما حفظه الله بالستر لا يضيِّعه إنسان بالتعرى.. تغطّوا قليلاً يرحمكم الله!!
«الحُطَيْئَة» رجل دولة!
هو أبو مليكة جرول بن أوس؛من الشعراء المخضرمين ممن شهدوا الجاهلية والإسلام(600- 678 م).. وُلِدَ لقيطاً لا يُعْرف له نسبٌ أو أهلٌ،وقصيراً ولذا سُمَّى بالحُطَيْئَة إشارةً إلى قربه من الأرض، وذميماً منبوذاً يتم التنمُّر به، وشبَّ محروماً وفقيراً وساخطاً.. غير أنَّه كان يعتقد أنه «نمبر ون» فى مجال الشعر..وتخصص فى الهجاء، فكان يهجو كلَّ من يقابله أو يعرفه، واعتادالناس أن يجزلوا له العطاء اتقاءً لشره ولشعره.. قائمة الذين هجاهم الحطيئة طويلة؛ حتى شملت أقرب المقربين منه: هجا «الحطيئة» أباه، فقال: «وبئس الشيخ أنتَ لدى المعالي»، وهجا أمَّه فقال: «أراح الله منكِ العالمينا»، وهجا زوجته فقال: «لها جِسمُ برغوث وساقُ بعوضةٍ... ووجهٌ كوجهِ القردِ بل هو أقبحُ».. وعندما لم يجد من يهجوه، هجا نفسه فقال: «أرى لى وجهاً قبَّح الله شكله»..
كان الحُطَيْئَة يعتقد أنَّ موهبته أكبر من حظّه، وأنَّ حظَّه أقلُّ مما يستحق، ولذلك كان غضبه شديداً وكان هجاؤه مقذعاً لاذعاً؛ شبيها بما كان يعتقده،عن حق، نجيب سرور(1932- 1978) فى نجيبياته الذائعة، وعبد الحميد الديب (1898- 1943) فى قصائده الشهيرة.. وكان الحُطَيْئَة يعتقد أن موهبته من الاتساع بحيث تشمل كلَّ شيء: الشعر والقصة والأنساب وركوب الخيل.. وكان يرى نفسه «رجل قبيلة» رغم أنَّه كان الأبعد عن هذه الصفة!
كان شعر الحُطَيْئَة منتشراً لدى الطبقة الدنيا من عرب الجاهلية: العبيد والموالي؛ كان تعبيراً عنهم، وعن طريقة حياتهم وعن رغباتهم المكبوتة.. لم يكن ينتمى إلى «الشعراء الصعاليك» الفرسان كتأبَّط شراً (550- 607 م.) وعروة بن الورد (555- 607 م.)، ولكنه كان يعتقد فى أهمية الشعر المقذع فى إرهاب الناس وفى الحصول على حقه الطبيعي.. كان يرى نفسه «عبدة موتة»، و»سليم الأنصارى» و»خالتى فرنسا» فى نفس الوقت: كومبو الفتونة والشعبوية والشرشحة.. وكان يعتبر نفسه «أسداً» فى مواجهة مؤامرات الآخرين، وكثيراً ما أحاط نفسه بمجموعة من أولى البأس والقوة يذودون عنه الأذى، وينشرون عنه شعره وبذاءاته..
كان الحُطَيْئَة عليماً بأغوار الشعر وبقوانينه، وكان يستغل الشعر فى فرض سيطرته على أقرانه.. وكان يؤمن بأهمية «التواجد الدائم» فى وسائل إعلام عصره، وركوب «التريندات اليومية»، وصناعة «الهاشتاجات» الشعرية.. ويؤمن بأنَّ ذاكرة الناس كذاكرة السمك قصيرة المدى، وأنَّ لسانهم مثل لسان أمّه بالضبط أشبه بالغربال الذى لا يحتفظ بسر: «أغربالاً إذا استودعتِ سراً.. وكانوناً على المتحدثينا؟».. وكان»فُضَحيَّاً» يفشى أسرار معارفه وأصدقائه، ويخوض فى أعراضهم، ويستمتع بذلك، وكان يفرض سطوته وسيطرته على الآخرين بالصوت العالى وبالبذاءة، ورغم ذلك، كان أشبه «بالريس حنفي» فى رجوعه عن شعره إذا تم الدفع له بصورة مجزية..
كان الحُطَيْئَة دائم التحدى للجميع بمن فيهم من كانوا على رأس السلطة حينذاك، وارتدَّ عن الإسلام فى عهد أبى بكر، وهجاه، وامتد هجاؤه إلى عمر.. غير أنَّ قوة عمر كان لها تأثيرها فى التصدى له، فقد أمرَّ بسجنه، وقال له: «والله لولا أنَّ تكون سُنَّةً لقطعتُ لسانك».. ومكث فى السجن بضعة أشهر حتى استعطف عمرَ فعفا عنه، واشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة ألاف درهم، فما هجا أحداً بعدها حتى مات فى ولاية عثمان.
بعض القوة كانت مطلوبة إزاء الحُطَيْئَة، وبعض الحزم والحسم كانا لازمين فى مواجهته.. ووصفة عمر فى التعامل مع الحُطَيْئَة درس عمليّ مطلوب فى كلّ زمان ومكان، ولكن «هذه الفاتحة فأين عمر؟»!
> رئيس قسم الإذاعة والتليفزيون- إعلام القاهرة

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة