أيمن منصور ندا
أيمن منصور ندا


يوميات الأخبار

«ميدوسا»ولزوميات الكورونا

بوابة أخبار اليوم

الإثنين، 20 أبريل 2020 - 07:32 م

أيمن منصور ندا

«لزوميَّات الكورونا أرجعتنا إلى لزوميَّات المعري، عوْد على بدء، واجتماع بعد انقطاع..ما أشبه الليلة بالبارحة!!»

«ميدوسا» فتاة تشير الأساطير الإغريقية إلى أنَّها كانت مثالاً للجمال، وأوتيت من كلّ شئ جميل سبباً فأتبع سبباً.. كانت جاذبيتها تضفى عليها سحراً،وجمالها يمنحها جلالاً.. و»لأنَّ كلَّ ذى نعمة محسود» فقد أوقعها حظُّها العاثر فى حادثة اغتصاب جعلتها تكره جمالها، وتنقم على حسنها، فدعت الألهة (أثينا) أنَّى مغلوبة فانتصري، فتحولتخصلات شعرها إلى ثعابين تخيف كلَّ مَنْ يقترب إليها، ويتحول كلُّ ناظر إليها من الرجال إلى حجر.. وأصبحت «رأس ميدوسا» فى الأدب العالمى نموذجاً للشرّ المستطير، وتعبيراً عن الخوف الكبير، ومثالاً للجمال الساحر عندما يتحول إلى قبح سافر، والفكرة الواعدة عندما تتحول إلى واقع مرعب!
التعليم «الأونلاين» بطريقته الحالية، وكوسيلة للخروج من الأزمة، هو «رأس ميدوسا» الجديد.. فكرة برَّاقة ولها جاذبيتها، وتطبيق عمليّ مخيف وله تبعاته.. الانبهار بالشكل الخارجى للتجربة دون دراسة نتائجها بدقة يؤدى إلى الوقوع فى خطر التعميمات غير الواقعية.. الأرقام المعلنة عن تفاعل الطلاب مع التجربة الجديدة لا يجب الثقة بها بشكل مطلق، والإحصائيات المذكورة عن رضا الطلاب لا يجب الاعتماد عليها بصورة كلية.. هناك حالة من حالات «تستيف» الأوراق التى نحن أساتذة فيها، وهناك ميل إلى تجميل الصورة العامة، ونحن للأسف لا نجيدها..التعميم أيضاً من جانبى غير مقبول، وإطلاق أحكام مطلقة غير صحيح، فهناك تجارب رائعة موثقة، وهناك حالات ناجحة مؤكدة يمكن الإشارة إليها.. غير أنَّ الاستثناء لا يشكل القاعدة،ولا يمكن البناء عليه أو القياس بموجبه.
البدائل المطروحة التى تم إعلانها للخروج من الأزمة، والاختيارات المتاحة لمعالجتها، كلُّها تفاضل بين السيء والأسوأ.. وكلُّها لا تحمل إلا معنىً واحداً وهو تعليق العملية التعليمية فى هذا الفصل الدراسي، وترضية كلّ الأطراف على حساب العملية التعليمية نفسها.. كلُّ أطراف العملية التعليمية خاسرون فى هذه المعادلة، وكلُّ النتائج سلبية فى هذا الإطار.. المؤكد أنَّ إمكانياتنا التكنولوجية لا تسمح لنا بتطبيق كثير من المقترحات المعلنة، والمرجَّح أنَّ بنيتنا الأساسية فى مجال التعليم لا تتيح لنا التوسع فى كثير من البدائل، والظرف الاستثنائى العاجل لم يسمح لنا بالاستعداد الكافي، والارتباك هو سيد الموقف. نحن فى مرحلة «التيه العظيم»، وفى حالة «عدم اليقين المطلق» رغم ما يبدو علينا من ثقة وثبات.. وكثير مما نقوله هو نتاج اقتراحات «عفو الخاطر»، وكثير مما نطبّقه هو «الحدُّ الأدنى» الذى يحفظ لنا ماء وجهنا أمام أنفسنا وأمام الموقف العام..
البناء على أرض متحركة أو رملية سائلة مقلق، ورسم خرائط مستقبلية على أسطح متحركة مربك، وانتظار «جودو» الذى أشار إليه «صمويل بيكيت» فى مسرحيته الشهيرة أو ما لا يجيء من ظروف مواتية مثالية غير ممكن.. ونخشى أنَّ يؤدى التفكير خارج الصندوق الحالى إلى إنتاج «صندوق باندورا» الذى تشير الأساطير إلى أنه كان مليئاً بكلّ الشرور والآثام.. لنا الله..
الإرهاب نشراً
أشرف بكونى مُحَكّماً لعدد من الدوريَّات العلميَّة الدوليَّة التى تُنْشر باللغة الإنجليزية فى مجاليّ الإعلام والعلوم السياسية.. وخلال الشهرين الماضيين، وصلتنى خمس دراسات لفحصها وتحكيمها.. وهو أمرٌ اعتيادى.. غير أنَّ ما هو غير اعتيادى هو تعلق كلّ هذه الدراسات بقضايا سلبية مزعومة تمس المجتمع المصرى مثل «الهوية المنقسمة»، و»غياب الحريات»، و»قصور الديمقراطية»، و»القمع الأمني»، و»التهميش السياسي»، وغيرها..
الدراسات الخمسة تنطلق من مقولات أيديولوجية متعصبة، وفرضيات سياسية متحيزة، وتقوم على فكرة الارتباطات الزائفة، والعلاقات الخاطئة.. كما أنها تقوم على استخدام الإحصائيات المضللة، والتوظيف الخادع للمعاملات الإحصائية.. وهو ما دفعنا إلى عدم قبولها وإلى رفضها.. غير أنَّ العلوم الاجتماعية والإنسانية فضفاضة فى معاييرها، ونسبية فى أحكامها، وما يرفضه مُحَكّم قد يقبله آخر، وما لا يُنْشر فى مجلة، يُنْشر فى غيرها، ولذا تجد هذه الدراسات المغلوطة سبيلها إلى النشر..
كثرة هذه الدراسات وتواترها يعكس خطة ممنهجة لدس السم فى العسل.. ترسيخ أفكار سياسية إخوانية فى دوريَّات علمية دولية.. وهو ما يجب الانتباه له والعمل على دحضه.. ولأنَّ نتائج الدراسات العلمية لا يلغيها إلا نتائج دراسات علمية أخرى تفوقها فى المنهجية وتعلو عليها فى الأساليب والأدوات المستخدمة، فيجب رصد هذه الدراسات وإجراء دراسات موازية لها تفنِّد مزاعمها وتردُّ عليها، ومن ثَّم لا ينفرد الإخوان بهذه الساحة..
تركنا الإخوان يسيطرون على ساحة الإعلام الدولى ويروّجون مزاعمهم، وحقَّقوا مكاسب من وراء ذلك، ولا يجب أن نسمح لهم بتكرار ذلك فى ساحة الدوريات العلمية الدولية.. الأرض المتروكة لا ترجع مرة أخرى، والمساحات الفارغة يتم ملؤها حتى بالهواء الفاسد!
«لزوم ما لا يلزم»
الشاعر العربيّ الشهير أبو العلاء المعريّ (973- 1057 م)كان يلزم نفسه فى قصائده بما لا يلزم: فبدلاً من أنَّ تكون القافية هى تشابه آخر حرف فى نهاية كل بيت، ألزم المعرى نفسه فى كتابة قصائده بحرف آخر أو حرفين.. وهو نوع من استعراض العضلات الشعرية وإظهار القوة اللغوية والفحولة الإبداعية.. وسُمّيت هذه القصائد «اللزوميَّات» أو «لزوم ما لا يلزم»، والتى أصبحت مرتبطة به ودالة عليه..ولم تكن حروف قوافيه هى الشيئ الوحيد الذى تميز به فيلسوف المعرة، إذ أضاف إلى ذلك لزوم بيته طيلة حياته، فأطلق عليه النقاد: رهين المحبسين: العمى والدار.. وإنْ كان المعرى أضاف لنفسه محبساً ثالثاً «كون النفس فى الجسد الخبيث»..
فى زمن الكورونا، كلُّنا أبو العلاء: سجناء الدار وحبيسو الداء.. وكلُّنا «أصحاب لزوميَّات»:الكمامة والقفازات، والكحول والخل والليمون وغيرها من المطهرات.. ألزمتنا الكورونا بما لا يجب أنْ نلتزم به.. وأصبحت لزوميَّاتها عديدة ومتشابكة..عادات الكورونا ليست مؤقتة بل هى أسلوب حياة دائم، أهم ملامحه انعدام الحميمية والسباحة فى فضاء الشك اللامتناهي..كان شعار أبى العلاء: فى زمن الفتنة، الزم بيتك وعليك بأمر خاصة نفسك، فلا أحد يمكنك الثقة به، ولا شيء يمكن تصديقه «قلَّ الثقاتُ فلا أدرى بمن أثقُ»، وهو ما بدا أنه المنقذ من ضلال الكورونا فى هذه الأيام..
مشاعر المعرى وخواطره فى لزوميَّاته هى خير تجسيد وتعبير عمَّا نعيشه فى أيام الحظر.. كان أبو العلاء يلخص الحياة فى ثلاثة أيام لا رابع لها»ثلاثةُ أيامٍ هى الدهرُ كلُّه... وما هُنَّ غيرُ الأمسِ واليومِ والغدِّ».. وهو ما بدأ الناس فى ترديده فى أيامنا هذه على سبيل السخرية من الحظر وسنينه؛ إذ يشير البعض إلى أنَّ أيام الأسبوع أصبحت ثلاثة أيام بدلاً من سبعة، وهى «إمبارح والنهاردة وبكرة» ولا شيء قبلها، ولا شيء بعدها!
فى أيام الحظر والكورونا، رأينا مدعى المعرفة يتصدرون المشهد فى الفضائيات، وأصبحنا ضحايا المعلومات المتضاربة من ناحية، والمضلّلة من ناحية أخرى، وفتح ذلك المجال لسيادة أصحاب نظريات «الكرومونيوم» المفيد، و»الشلولو» و»الفول المنقوع».. وكأنَّ أبا العلاء يخرج لنا لسانه وهو يقول: «ولما رأيتُ الجهلَ فى الناس فاشياً... تجاهلتُ حتى ظُنَّ أنَّى جاهلُ!»..
كان أبو العلاء يسخر من عبثية الحياة،ويقول «أنا أحمد اللّه على العمى كما يحمده غيرى على البصر»، وكان يستوى لديه صوت البشير وصوت النعيّ، وهديل الحمام بكاءً وغناءً، فالحياة لا تستحق كلَّ هذا العناء، ولا كلَّهذا التكبر والاستعلاء»خَـفّفِ الـوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ الأرْضِ إلاّ مِـنْ هَـذِهِ الأجْـسادِ».. فى أيام الكورونا، تجردنا من فكرة الحضارة المعاصرة التى لا يقهرها شيء، وتعرينا من لباس التفوق البالي..آمنا بأننا أضعف خلق الله، وبأننا لننخرق الأرض ولن نبلغ الجبال طولاً.. كلُّنا ظواهر صوتية فارغة أمام جدّية الموقف الفيروسي..»وَزَهَّدَنى فى الخَلقِ مَعرِفَتى بِهِم.... وَعِلمى بِأَنَّ العالَمينَ هَباءُ».
كان أبو العلاء يعتقد فى «جناية الحياة»:»هذا جناهُ أبى عليّ.. وما جنيتُ على أحد» ويتبرأ من كلّ فعل يؤدى إلى نقل هذه الجنايةتماماً مثلما نتبرأ نحن الآن من كلّ شخص يؤدى إلى نقل الكورونا إلينا بدون جريرة أو ذنب.. بعض الناس يروْن أنَّنقل عدوى الكورونا أشدُّضرراً وفتكاً من جلب المخدرات، وأنَّ الإصابة بهذا المرض أكثر عاراً من القبض على متلبس فى قضية آداب.. توجد حالة تنَّمر مجتمعية عامة ضد أصحاب هذا المرض..
كان أبو العلاء لا يعتقد فى عدالة الحياة ولا فى إنصاف المقادير بها ولكنه يرتضى بها «وهل يَأبِقُ الإنسان من مُلكِ ربّه.. فيخرجَ من أرضٍ له وسماء؟»؛ الهوة بين الأغنياء والفقراء مستمرة، والفجوة بين الطبقات قائمة حتى فى الحظر»غِنَى زيْدٍ يكونُ لفقرِ عمْروٍ».. مَنْ زعم أن هذا الحظر ساوى بين الأغنياء والفقراء؟ ومَنْ قال إنَّ الإنسانية قد ألغت العبودية فى منتصف القرن التاسع عشر؟ ومن قال إنَّنا نتمتع بحقوق الانسان بشكلٍ متساوٍ كما تمنَّاها الحالمون فى منتصف القرن العشرين؟ من وجهة نظر أبى العلاء «تعبٌ كلُّها الحياةُ وما أعجبُ إلا من راغبٍ فى ازديادِ؟»، وفى رأيه «أولو الفضل فى أوطانهم غرباء».. فى زمن الكورونا،هناك مساواة خادعة، وهناك تكافؤ زائف.. فى التفاصيل يكمن الاختلاف، رغم الاتحاد فى الشكل العام والتشابه فى الملامح الخارجية..
لزوميَّات الكورونا أرجعتنا إلى لزوميَّات المعري؛ عوْد على بدء، واجتماع بعد انقطاع، وكأننا نردّد معه قوله «والذى حارتِ البريةُ فيه.. حيوانٌ مُستحدثٌ من جمادِ».. ما أشبه الليلة بالبارحة!!
 > رئيس قسم الإذاعة والتليفزيون- إعلام القاهرة

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة