د. مبروك عطية
د. مبروك عطية


يوميات الأخبار

رمضان جرس تنبيه

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 23 أبريل 2020 - 06:10 م

كان له فيما مضى من الزمان شنة ورنة، وباختصار كان له طعم قل فى تذوقنا، وكانت له رائحة تختلف عن رائحته اليوم.

الجرس بين الظاهر والباطن
السبت:
 حين أقول إن رمضان شهر الجرس الذى ينبه إلى كل فضيلة من صامه إيمانا واحتسابا، فإنما أعنى ذلك الجرس الباطنى الذى تشبه دقاته نبض القلب التى لايسمعها إلا طبيب بسماعته ليرى نظامها، والمعهود فى سلامة قلب صاحبها أواضطراب قلبه، أى أنها لا تسمع بالأذن، ولا يسمعها حتى صاحبها، وإن كان حتما يشعر بها، فالجرس نوعان: جرس ظاهر يدق فى المسامع، كأجراس المدارس والكنائس، ومكاتب السادة المديرين الذى ينادى، ولطالما قال من دقه لمن يناديه به: ألم تسمع الجرس! أى لماذا تأخرت، وقد يمنع المنادى سماع الجرس إشغال شغله بشيء ما، لكن ماعسى أن يمنعه من سماعه من كان جرسه يدق بداخله، بين ضلوعه، وهو مشغول به، لا مشغول بشيء سواه، هذا هو الفرق بين الظاهر والباطن فى دق الأجراس، بل فى كل شىء، الظاهر قد يسمع أو لايسمع، والباطن حتما لا بد أن يسمع، والظاهر قد يشغل عنه، والباطن لا يشغل إلا به، والظاهر يسمع الآذان، وما أكثر ما يعطل الآذان عن السماع، والباطن يسمع القلوب، ولا شىء يعطل القلوب عما تسمع ؛ ومن ثم كان رمضان جرسا باطنيا، ينبه القلب الذى هو حتما مشغول به إلى كل فضيلة، والفضائل كلها مجموعة فى لفظة واحدة هى التقوى، وقد قال الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون» ولعل فى أساليب العربية للرجاء، والرجاء ممكن، بخلاف التمنى الذى هو للمستحيل، أو ما فيه عسر، ومعنى ذلك أن التقوى ممكنة الحصول عن طريق الصوم الذى كتبه الله تعالى أياما معدودات، ويسره للصائمين المكلفين، ومعناه الإمساك عن شهوتى البطن والفرج من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، فعند غروب آخر شعاع للنهار يفطر الصائم الذى لم يزل بخير متى عجل فطره كما قال صلى الله عليه وسلم، فجرس الجوع المشروع، والعطش، والرغبة فى الاستمتاع بالزوجة، جرس ينبه الصائمين إلى فضائل الأعمال، التى يقدمونها بالليل، بعد أن يتناولوا بالهناء والشفاء فطورهم، لكنهم مشغولون بها مدة صيامهم، لا ينشغلون عنها، وكيف ينشغلون عنها، وهذا الجرس الداخلى يدق فيهم بحرارة بالغة، وصوت متناغم غير معوج تناغم الجنات والعيون والفواكه، وما لا يحيط بعلمه إلا الله الذى أعد لعباده الصائمين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر من نعيم مقيم، قال فيه تبارك اسمه: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى، وأنا أجزى به، وجعل لهم بابا خاصا بهم من أبواب الجنة، سماه الريان، ينادى يوم القيامة أى ينادى الملائكة المقربون ؛ فيقولون: أين الصائمون ؟ فإذا دخل الصائمون أغلق فلا يدخل منه أحد غيرهم، وقد ينادى المرء من أبواب أخرى غير الريان، ليدخل من أبواب الجنة الثمانية ما شاء، وقد دق هذا الجرس فى قلب الصديق رضى الله عنه؛ فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل ينادى على أحد من غير باب الريان ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم، ولعلك منهم يا أبا بكر، دائما ينبه الجرس الداخلى من يدق فى قلبه إلى معان لا تخطر على بال غيره، فكل حسب دقات جرسه، وهناك من تسمى فى الكتاب الكريم الغافل، والغافل هو من تعطل جرسه، فلا شيء ينبهه، ترى ما الذى يسبب غفلة الغافل، بحيث تدق الأجراس الخارجية وأذناه لا تسمعان، أو تدق أجراس صدره، وهو كذلك لا يسمعها. وهذا الأخير قل وجوده بالمقارنة بينه وبين الأول الذى قد تسبب غفلته وجود شيء فى أذنيه، وما يسبب الغفلة عن جرس القلوب إلا الاتباع الأعمى لأهل الباطل، وهو بمثابة الوقر الذى يصم الآذان، كالذين اتبعوا ما ألفوا عليه آباءهم ولو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، ومن ثم قال ربنا تعالى فى الواحد منهم: «وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مدبرا كأن لم يسمعها كأن فى أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم» والمؤمن لا يكون فى أذنيه وقر، فهو السميع المطيع لا للباطل، ولكن للحق الذى أمر الله تعالى به، ورسوله صلى الله عليه وسلم، قد تلهيه الحياة الدنيا، لكن صوت الأذان يصرفه عن لهوها، «فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغداة والعشى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار»، وفى سورة الجمعة يقول الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون» ولا شك أن البيع، والمراد به حركة الحياة جميعا من بيع وشراء وسائر الأعمال،يلهيهم لكن سرعان ما يزيل هذا اللهو سماعهم للأذان، وكذلك إذا جاء رمضان أذهب عنا كل لهو، فدقت أجراسه فى قلوبنا فنبهتنا إلى كل فضيلة، ونهتنا عن كل قبح، وهذا من أهم ثمرات الصيام.
وقفات مع تلكم الأجراس
الأحد:
ومن دقات الأجراس الرمضانية موقف يسب فيه الصائم ذرب اللسان الذى لم يسمع لدقات رمضان، أو لم يكن من الصائمين أصلا، والسب واللعن والشتم ليس من أخلاق المسلم، لقول النبى صلى الله عليه وسلم: «ليس المسلم بسباب ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء» - يقتضى من المسبوب المشتوم أن يرد على من سبه أو شتمه أو لعنه، ولكنه قبيل أن يرد على من أساء إليه بقول، أو بفعل يسمع صوت الجرس، ذلك الصوت الداخلى الذى يفيض به قلبه، ولا ينطق به لسانه، وإن نطق فلا بأس، وهذا الجرس ليس هزات، وإنما هو كلمات، كلمات تقول بلسانه قبل أن تتحرك به شفتاه: «إنى امرؤ صائم» أى إنى امرؤ صائم لا يدفع السيئة بسيئة مثلها، فأنا ممتثل لقول ربى الذى قال: «ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هو أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم» والقائل فى الذين آتاهم أجرهم مرتين من قبلنا: «ويدرؤن بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار» وأنا أبتغى ثواب ربى، وثواب ربى أحب إلى نفسى من تحقيق شهوتها فى الرد على القبيح بمثله، فإن الذى يحقق شهوة نفسى العليا أن يغفر الله لى يوم الدين يوم سليم، وهيهات أن يسلم قلبى دون تضحية منى ببعض أهواء متع بشهوتى البطن والفرج، وقد ضحيت بهما فى النهار امتثالا لأمر ربى، وطاعة له سبحانه وتعالى، من أجل باب الريان، ودخولى فيمن خصهم الله تعالى بثواب من عنده يفوق كل ثواب على كل عمل من الأعمال الصالحة، فما الذى يجعلنى أضيع ثمرة صيامى بتحقيق شهوة نفسى، وما أدعى أن فيه شفاء لغليلى بالرد على المسيئين الذين يسبون ويشتمون، أو يريدون أن يفتحوا بابا للمقاتلة، إن ذلك صبر منى على أذاهم، وأنا فى شهر الصبر كما سماه النبى صلى الله عليه وسلم، وإذا كنت أصبر على الجوع والعطش طيلة يوم كامل، أو ليس صبرى هذا يجر معه صبرا آخر على أذى المؤذين،فإن الخير يأتى بالخير كما يأتى الشر بمثله، وهذا شهر الخيرات، وموسم الطاعات، وسر من أسرار البركات، أتزود فيه بالمزيد لأخرج منه مشحونا بما كان فيه إلى غيره من الأيام حتى يعود، وقد أخبرنا النبى صلى الله عليه وسلم بأن رمضان قد أظلنى، أى أنه شهر الظل، والظل لا يستوى بالحرور، كما أن الأحياء لا يستوون بالأموات، وكما أن اليد العليا لا تستوى واليد السفلى، أى أن اليد التى تعطى خير من اليد التى تأخذ، وإذا كنت أعطى فى رمضان الفقير والمحتاج، وذا الرحم فإن العطاء لا يتوقف عند الماديات وحدها، وإنما هو فى المعنويات أشد وأعلى، فإن المحتاج قد يصبر على حاجته الماية، لكن صبره على الجراح التى تصيبه فى عرضه وكرامته يكاد يكون معدوما، وما جرح اللسان كجرح اليد، ومن ثم يدق جرس رمضان فى قلوب الصائمين بهذه المعانى الكبار التى تتجلى فيها شخصية المسلم الذى يدعوه دينه إلى التحلى بمكارم الأخلاق، والبعد عن مقابلها الذى ينشر السموم التى لا تطيب البطون بما يفجعنا بموت أصحابها سما، وإنما يفجعنا بموت المشاعر فيها، وقد قيل من قديم:
ليس من مات فاستراح بموت
إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيبا
كاسفا قلبه قليل الرجاء
وأنا موقن أن قوله تعالى: «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» يشمل من قتلها جوعا، ومن قتلها حسرة، ويشمل من أحياها قوتا وزادا، ومن أحياها بهجة وسرورا، فلأكن ممن يحيون الناس بهجة إن عز على أن أحييهم طعاما وشرابا.
رمضان زمان
الاثنين:
رمضان هو رمضان، شهر من الشهور، بلياليه، وأيامه، وما فرضه الله فيه، وما حرم، لكن كان له فيما مضى من الزمان شنة ورنة، وباختصار كان له طعم قل فى تذوقنا، وكانت له رائحة تختلف عن رائحته اليوم، وقد يسأل الناس عن أسباب ذلك، وربما أرجع بعضهم سبب ذلك إلى أن الزمان قد تغير، والمشكلات قد زادت، والأزمات قد تلاحقت، والمعضلات قد تضافرت ن وصار الناس يعانون مالم يعانوا فى الزمن القديم، ويرجع بعضه السبب إلى أن الماضى كان أجمل فى كل شيء من الحاضر، والحق الذى أرى أن الفرق بين الحاضر والماضى فى اختلاف الأجراس الرمضانية فى قلوب أهلينا قديما، كانت أجراسهم حية ناطقة بصوت جهور تسمعهم نبضاتهم، وتفيض به صدورهم، وتمتثل لها جوارحهم، من أول الشعور بالسعادة قبيل قدومه إلى يوم يودعونه بدموع لا ترى على خدودهم ؛ فتمسحها مناديلهم وأيديهم، ويرجون أن لو كانت السنة كلها رمضان، لم يكن أهلونا يعلقون على بيوتهم وفى منازلهم من الزينة ما صارنا نعلقه اليوم احتفالا برمضان، لا شك أن زينة اليوم أبهى، ومصابيح اليوم ألمع، لكن كما قال البوصيرى:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم طعم الماء من سقم
أى أن زينة اليوم أعلى وأنضر فى عيون من يراها دون رمد فى عينيه، لكن إذا كانت الشمس لا يراها من به رمد فإن المصابيح بلا شك من باب أولى أكثر خفاء عليه من الشمس، لأنها أقل ضياء من الشمس، واختلاف الأجراس باختلاف الزمان، تلك الأجراس التى لو استعادت أصواتها الواضحة، دقت فى قلوبنا كما كانت تدق فى قلوب أهلينا لتذوقنا طعم رمضان الذى تذوقوا، ولشممنا عطره الذى شموا، ولفرحنا به كما فرحوا، بل إن شعورنا به قد يكون أقوى لما توافر لدينا من مظاهر الزينة ما لم يكن متوفرا لديهم، وما من شك فى أن تلك الأجراس يمكن أن تستعيد بهاءها وذلك بتجليتها من الصدأ الذى ران عليها بذكر الله عز وجل القائل: «يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا» وبالاستعداد الطيب لقدوم رمضان باعتباره فرصة لعمل الصالحات  التى يكفر الله بها السيئات: «إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين» ومن بث روح رمضان فى أنفسنا، وفى الأجيال حتى يكون انتظاره كأنه بالفعل تحقق لقاؤه، فيزداد الشوق إليه حتى إذا جاء غمرتنا نفحاته.

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة