محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


يوميات الأخبار

بنك الأمة

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 18 يونيو 2020 - 06:28 م

ثورة ١٩ قامت على جناحين: جناح سياسى تولى قيادته سعد زغلول، وجناح اقتصادى تولاه طلعت حرب.

إذا كانت مصر قد احتفلت فى العام الماضى بثورة 19 باعتبارها إنجازاً سياسياً عظيماً، فيجب أن تحتفل هذا العام بمرور مائة عام على إنشاء بنك مصر باعتباره إنجازاً اقتصادياً عظيماً، ونظراً لأهمية هذا الحدث فسأروى لكم قصة هذا البنك؟


يحنن


وقف الثرى الكبير من أعيان المنيا يرحب بضيفه القادم من القاهرة.
- أهلاً يا...
- اسمى طلعت.. طلعت بك حرب.
سأله: أى خدمة؟


قال طلعت بك: أنا يا سيدى بصدد إنشاء بنك للمصريين، يموله المصريون، ويديره المصريون، ويستفيدون به، وأنا أدور بنفسى على أعيان مصر وأثريائها ليساهموا فى رأس مال البنك. حينئذ تحسس الثرى جيبه متوجساً مما سيأتي. ثم قال مستنكراً: بنك؟ بدلاً من أن تكون فلوسى تحت يدى تريد منى أن أضعها فى بنك؟ أسيب ابنى من على كتفى وأرجع أدور عليه؟


قال طلعت بك للرجل الثرى: البنوك هى سر تقدم الدول الكبرى. هى أساس قيام المشروعات الكبرى.


حسم الرجل الأمر بقوله: إذا كنت تريد مساعدة فلا تتعشم فى شيء. يحنن.


ابتسم طلع حرب، قال لنفسه إن الرجل لا يقصد الإهانة، لكنه يجهل قيمة البنوك، ويحتاج لمزيد من الشرح. وراح يتحدث مع الرجل الثرى دون يأس لإقناعه بأهمية البنك، وفى النهاية مد الرجل يده فى جيبه. أخرج عشرين جنيهاً وقدمها لطلعت قائلاً: تفضل. هذه مساعدة منى لكم.


لم يغضب طلعت. ابتسم ابتسامة خفيفة وقال للرجل: هذا المبلغ ثمن خمسة أسهم. سأرسلها لك فوراً.


وانصرف. وهو يقول لنفسه إن المهمة ليست هينة، ويجب ألا يغضب أو ييأس، فأصحاب الأحلام الكبرى يجب أن يقوموا بمجهودات كبرى.


المستشار غاضب


قال المستشار المالى الإنجليزى لسكرتيره: هذا جنون. طلعت حرب يريد إنشاء بنك؟ صمت السكرتير. واصل المستشار الإنجليزى: أيظنون البنوك لعبة؟ أريد طلعت حرب هنا حالاً. اذهب إليه فوراً ولا تعد إلا به.


جلس طلعت حرب أمام المستشار باسماً. حاول المستشار أن يتمالك أعصابه. قال: طلعت بك، كنت أظنك رجلاً عاقلاً، ولكنك كما يبدو لى أصبت بعدوى الجنون المنتشر فى البلاد هذه الأيام. (يقصد بالجنون ثورة 19) هل تتصور أن المصريين يستطيعون أن يديروا بنكاً؟ إنكم لاتصلحون لأعمال المال. إنها صناعة الأجانب وحدهم، والدليل أنكم عندما توليتم شئونكم قبل مجيئنا إليكم عام 1882 جعلتم مصر تفلس. أنت تعلم ياطلعت بك أن فى وسعى أن أمنع قيام هذا البنك، ولكنى وافقت على قيامه لأعطيكم درساً عملياً فى الفشل، ولكن فى وسعى أيضاً أن أنصحك: اشرك معك بعض الأجانب.


قال طلعت حرب دون أن تفارقه ابتسامته: لقد قررت أن يكون البنك مصرياً.


سيطر المستشار على نفسه للمرة الثانية. قال:- طلعت بك، أنت تتكلم بلغة مظاهرات الشوارع، والذى يصلح للشارع لايصلح لأعمال البنوك، وقد استدعيتك لأنصحك لأنك رجل طيب لاتشتغل بالسياسة. شكر طلعت بك المستشار، ووقف مستأذناً. ورأى المستشار فى عينيه الهادئتين إصراراً على إنشاء البنك، وأحس بحيرة حقيقية أمام عناد هذا الرجل الذى لا ينفعل.


اليهود


وقفت عربة طلعت حرب أمام مقر الطائفة اليهودية. سأل طلعت البواب: قطاوى باشا موجود؟


- موجود يا افندم وفى انتطارك.


اتجه للداخل. كان هدفه من اللقاء محددا، فلا بد من ضم اليهود لصف البنك، فهم رجال المال، ولو حاربوه فلن ينجح. كان يعرف أن يوسف قطاوى رغم أنه يهودى إلا أنه مختلف. فقد ولد بمصر، ولايعرف له وطناً غيرها، وقد سافرا معاً منذ أعوام إلى ألمانيا لدراسة وضع البنوك الألمانية ودورها فى تنمية البلاد تمهيداً لإنشاء بنك للأمة المصرية.


استقبله قطاوى باشا مرحباً. بعد كلمات المجاملة قال له طلعت: أريد دعمك للبنك. وأوضح له أن الدعم المطلوب يتمثل فى أن يساهم بنفسه فى رأسمال البنك، ويدعو بعض كبار اليهود المصريين للمشاركة مثله. ربت قطاوى باشا على كتف طلعت حرب. طمأنه. قال له: أنا معك. كم تريد؟


أجابه: لكى يكون الرجل عضواً فى مجلس الإدارة يجب أن يمتلك مائتين وخمسين سهماً على الأقل، لذلك أريد منك ألف جنيه ثمن هذه الأسهم.


وافق قطاوى باشا، وبدأ يدعو أصدقاءه اليهود للمشاركة فى رأسمال البنك، وكان الثرى اليهودى شيكوريل ممن أقنعهم قطاوى باشا بالمساهمة، فاشترى هو الآخر مائتين وخمسين سهماً، وصار من أعضاء مجلس الإدارة.


إسكندر مسيحة


قال طلعت بك لإسكندر أفندى: لايصح أن يخلو مجلس إدارة البنك من عضو مسيحي. كما شارك المسيحيون والمسلمون معاً فى ثورة 19 فلابد أن يشاركوا معاً فى بنك الأمة. سأله إسكندر مسيحة: كم تريد مني؟ قال: ألف جنيه. أريدك عضواً فى مجلس الإدارة. قال مسيحة: لن أخذلك، وسأدعو كل من أعرفهم من أصدقائى وأقاربى للمساهمة فى البنك. وهكذا صار مجلس إدارة البنك نموذجاً للوحدة الوطنية، يشارك فيه المسلم والمسيحى واليهودى.


إسماعيل بركات


كان إسماعيل بركات تاجراً للغلال بروض الفرج. وكان يجلس فى وكالته جلسة أولاد البلد. وفوجئ ذات يوم بطلعت حرب يدخل عليه. عرفه بنفسه. حدثه عن مشروع البنك. قال له إنه لايريد أن يكون المساهمون من الرأسماليين وكبار الملاك فقط، رجاه أن يساعده فى نشر الفكرة بين التجار المصريين أولاد البلد. كان إسماعيل رجلاً وطنياً متحمساً، متأثراً بأفكار ثورة 19. قال لطلعت: أنا معك، وسأكون أول التجار المساهمين. ومنذ هذه اللحظة بدأت علاقة متينة بين الرجلين، خصوصاً أنهما كانا يجيدان لعب الدومينو، ويقضيان وقت فراغهما معاً فى هذه اللعبة المحببة إليهما.


الشيخ سيد


وقف سيد درويش يتابع لحن الختام لإحدى المسرحيات التى لحنها لفرقة الريحاني، جاءه من يهمس له بأن طلعت بك حرب يريد أن يقابله بعد العرض. لم يكن اسم طلعت حرب مجهولاً، ولم يكن سيد درويش جاهلاً بمشروع البنك، فالصحف تتحدث عنه، لذلك فما إن انتهى العرض حتى أسرع سيد درويش للصالة لمقابلة الرجل.


كان طلعت يعرف أن سيد درويش من أشد المتحمسين للثورة، وللنهضة الاقتصادية، وغنى منتقداً الأوضاع السيئة التى يعيشها الفلاحون والصنايعية والسقاؤون وغيرهم، ولهذا بادره بقوله: إنت فين ياعم سيد؟ ينفع تسيبنا ننبح قلبنا علشان الناس تساهم فى البنك وتقف تتفرج؟ أحس سيد بالخجل. قال تأمرنى يا طلعت بك. ابتسم طلعت وهو يقول: الأمر لله. لكن خليك معانا اعمل معروف. ولم يتأخر سيد درويش عن الاستجابة، وها هو يغنى بملء صوته:

وهكذا جمع طلعت حرب كل فئات الأمة حول مشروعه.


إنكار الذات


اكتمل المبلغ اللازم لافتتاح البنك. ثمانون ألف جنيه بالتمام والكمال. دفعها مائة وستة وعشرون مساهماً. واجتمع كبار ملاك الأسهم الذين يشكلون مجلس الإدارة لانتخاب رئيس المجلس والعضو المنتدب الذى سيتولى الأمور التنفيذية. بدأت الإجراءات بالسؤال عمن يريد ترشيح نفسه للرئاسة، واتجهت الأنظار لطلعت بك، لكن الرجل لم يرشح نفسه، وحين سألوه: لماذا لا ترشح نفسك؟ قال: إنه يرشح أحمد مدحت يكن باشا لهذا المنصب، فهو صهر الأسرة العلوية، ومن الساسة المعروفين، ووجوده على رأس البنك سيضمن دفعه للأمام. وبالفعل تم اختيار أحمد مدحت يكن رئيساً، أما طلعت حرب فقد طلب أن يكون العضو المنتدب. ورغم كل الشهرة التى حظى بها طلعت حرب فلم يكن رئيساً لمجلس إدارة البنك.


مشهد الافتتاح


اليوم 7 مايو 1920. ها هى دار الأوبرا المصرية تسبح فى الأضواء. تتوقف العربات أمامها، ينزل منها وجوه الأمة: الساسة، وأهل الفن، والأدباء، والتجار، ورجال الصناعة، وملاك الأراضي. الكل يبدو على وجهه السعادة. ووقف طلعت حرب متحدثا. قال كلاما كثيراً مهماً، لكن من أهم ما قاله رده على من يتهمون المصريين بانعدام الخبرة فى مجال الأعمال المالية. قال:
«قيل لنابليون حين وضع نظام بنك فرنسا الحالى إنه ليس فى فرنسا رجال ماليون خبيرون بأعمال البنوك، فقال لهم: هذه طائفة يجب خلقها. وقد خُلقت وأصبحت فرنسا بعد قرن يضرب المثل بخبرة رجالها الماليين وعلمهم». وانطلقت المسيرة.


شركات بنك مصر


أنشأ بنك مصر خلال السنوات من 1920 إلى 1939 ثلاثاً وعشرين شركة، منها شركات باقية حتى الآن، مثل: شركة المحلة للغزل والنسج، شركة مصر للسياحة، شركة مصر للطيران، شركة مصر للتأمين، واستوديو مصر، وغيرها. كانت شركاته هى بداية التحرر من سيطرة رأس المال الأجنبي. وفى يوم افتتاح شركة المحلة بالتحديد جاء الملك فؤاد ليفتتح الشركة، ووقف طلعت حرب يشرح لجلالته، قال إن عدد المصانع ثلاثة عشر مصنعاً. وإنه لايريد حماية لمصنوعاته جمركياً، لأن الذى سيحمى هذه المصنوعات هو جودتها وسعرها. وتحدث عن المدينة السكنية التى أنشأها لعماله، وعن المسرح، والنادى، اللذين أنشأهما ليمارس فيهما العمال النشاط الثقافى والرياضي. وبعد أن استمع صاحب الجلالة لحديث طلعت بك قال له: مبروك ياباشا. وكان طلعت حتى هذه اللحظة يحمل لقب بك فقط. وهكذا كافأ الملك فؤاد بالباشاوية الرجل الذى أنشأ لمصر واحداً من أعظم مشروعاتها، وخطا بها نحو التحرر الاقتصادى.


مزيداً من التكريم


اعترفت ثورة يوليو بدور طلعت حرب العظيم فأقامت له تمثالاً، عام 1964، بواحد من أشهر ميادينها، قام بصنعه المثال الكبير فتحى محمود، ثم قام الرئيس السادات بتكريمه فمنح اسمه قلادة النيل العظمي. وقد كتبت عنه مسلسلاً تلفزيونياً كان من المفروض أن تنتجه شركة صوت القاهرة لكن ظروف الإنتاج الحالية فيما يبدو لا تسمح بإنتاج سير العظماء.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة