سعيد الخولى
سعيد الخولى


يوميات الأخبار

٢٠٢٠ وما أدراك ما هى!

سعيد الخولي

الأحد، 16 أغسطس 2020 - 06:44 م

وأسوأ صورة فى الريف ولدى الفقراء حين تستبد بهم الرغبة فى معاكسة ظروفهم ومجاراة الآخرين فى الترف والكماليات غير الضرورية والرغبة فى توفير ما لا قبل لإمكانياتهم به..

كانت بعيدة بعيدة أظن وقتها أن بينى وبينها مسيرة عمر طويل، استطلته حتى خلته قرنا من الزمان. كان ذلك وأنا فى معية الصبا ثم شرخ الشباب ثم ابتداء الرجولة بالالتحاق بالعمل وتكوين عش الزوجية. ومن هنا كانت الحكاية.
اليوم السابع من الشهر الثامن من العام الخامس والثمانين بعد الألف. يوم التحاقى بأخبار اليوم بعقد مؤقت مقداره خمسة وخمسون جنيها، دفعت من أول مكافأة قبضتها عشرة جنيهات غرامة سير فى شارع ٢٦ يوليو للعبور من غير المكان المحدد لعبور المشاة، أيام حملة نظام قادها اللواء أحمد رشدى رحمه الله، الذى كان من الطبيعى أن يذهب ضحية انتفاضة مرسومة من قوات الأمن المركزى إثر تهديده تحت قبة مجلس الشعب بتطهير مصر من تجار المخدرات، ولعله يومها ألمح إلى أن بين أعضاء المجلس من يستحقون التطهير، وكان ما كان فى فبراير ١٩٨٦ ونزول قوات الجيش، وراح الرجل النظيف وعاش بعدها تحلف الناس بنزاهته وجدية محاربته للفساد.
نعم بدأت الحكاية يوم التحقت بأخبار اليوم بتلك المكافأة المعقولة فى وقتها، فحتى حين تم تعيينى بعدها بشهور لم يبتعد راتبى كثيرا عن مبلغ المكافأة إذ كان أول راتب تقاضيته صافيا أربعة وستين جنيها.. بدأت الحكاية يومها فقد تحدد يومها نوعية العمل الذى سأقضى به بقية العمر، والذى سعيت له منذ التحقت بجماعة الصحافة بالكلية فى العام١٩٨١، وما أزال أتذكر دخولى الأول لأخبار اليوم للقاء صاحبها وصاحب المدرسة الصحفية المصرية الخالصة مصطفى أمين، وما بين ذلك المشهد والتحاقى بالدار خمس سنوات جرت مياه كثيرة كلها محاولات يحدوها الأمل إلى أن دقت بالفعل ساعة العمل.
خمسة وثلاثون عاما من ذلك المشهد إلى يومنا هذا، وما أبعد الشقة بين المشهدين؛ الأول بداية وحماس واستشراف الآتى من الأحداث والنجاح واستعجال نيل الفرصة، والثانى حاليا هو عد تنازلى لأيام تبقت على سن المعاش فى ظروف ملبدة تهاجم المهنة وتهدد وجودها الورقى فى عالم التكنولوجيا والوسائط والمواقع التى تنشر الخبر والحدث وقت حدوثه، بل أحيانا قبل وقوعه بلحظات، وتلك من عجائب زمننا.
٢٠٢٠ وما أدراك ما هى، هى سنة كنت أنتظر حلولها بطول أمل فى أنها بعيدة بعيدة، وما ذلك إلا لأنها سنة بلوغى سن الإحالة على المعاش، ومن سبقونى يعلمون كيف تنظر الدولة لمن أحيلوا ماديا وتكريميا وإعانة على ظروف العيش وهى تزداد صعوبة على من يبلغ تلك السن.
والحقيقة أن الأقدار والطبيعة والصراعات الدولية والنوازل كلها مجتمعة أصرت على الاحتفال والاحتفاء بمواليد عام١٩٦٠ احتفالا لم تنطفئ له نيران بدلا من الشموع، ولم يخمد لها أوار منذ أعلنت الساعة الثانية عشرة صباح أول يناير٢٠٢٠. وعلى جرس ونغم ذلك الرقم السحرى للعام كانت نواقيس الخطر جاهزة بالكورونا وما فعلته بالعالم كبيره قبل صغيره ومازالت تعربد فى القوة الأعظم تريها قدر حضارتها وقوتها الهائلة أمام فيروس لا يرى واحده بأعظم مجاهر وميكروسكوبات العالم.
ياااه كل هذا يا عشرين عشرين، ألهذه الدرجة تصرين على أن تكون ستينية كل الستينيين فيك بهذا الصخب والرعب والهول للعالم كله؟
هم إذا مرصودون ومقصودون بهذا الاحتفاء الصاخب، لكن ما ذنب بقية الأعمار غير الستينية لتعيش هذا الصخب الكونى الممتد؟ وهل يا ترى يأخذ عصاه ويرحل بعدما يكمل كل ستينى ستينيته المميزة المتفردة فى رقمها وعامها وأحداثه؟ وهل يصالحهم هدوء واستقرار ومعاش ناعم يهدئ من روعهم وروع الآخرين من عشرين عشرين؟
سيبقى الأمل كبيرا فى غد أكثر إشراقا ونعومة عيش طمعا فى لطف الله بنا وبأهل المعمورة جميعهم.
عصر الهندسة الوراثية
على «ماسبيرو زمان» شاهدت حلقة من برنامج «العلم والإيمان» للراحل د. مصطفى محمود رحمه الله عن حكاية الهندسة الوراثية ترجع إلى أول التسعينيات من القرن الماضى، وكان الخلاف مازال محتدما ما بين مؤيد ومعارض. المؤيد يرى فيه حلا سحريا لتغذية الفقراء ـ مع انحسار مساحات الأرض الزراعية بسبب التصحر ـ عن طريق تهجين سلالات جديدة غزيرة الإنتاج كبيرة الحجم من المحاصيل الغذائية بانتخاب الجينات المميزة من نفس المحصول المنتج فى عدة أماكن وبيئات زراعية لتخرج سلالة منتخبة تجمع بين الغزارة والحجم والمذاق. أما المعارضون فكان اعتراضهم نابعا من أن ذلك من باب التدخل فى خلق الله وأنه يفتح بابا لن يغلق فى طموح أو طمع البشر فيما لا يجوز التمادى فيه.
أما المعارضة الأخرى للأمر وقتها فاتخذت منحنى آخر استشرافا لأنه سيزيد العالم الفقير المتخلف فقرا وتخلفا وسيزيد العالم الغنى المتقدم غنى وتقدما. وبدأت أمريكا ضربة البداية فى محصول غير غذائى كان لدولة أفريقية تميز عالمى يعطيها الصدارة فيه ضد أمريكا ذاتها، ومن خلال الهندسة الوراثية استخلصت أمريكا الجينات المميزة من المحصول الأفريقى وطعّمته فى محصولها لتسرق الصدارة العالمية من الدولة المسكينة التى خذلها تأخرها العلمى وسرقت أمريكا بقليل من المساعدات الملوثة رأس مال تلك الدولة ولم تعطها سر الخلطة الجينية بالطبع. ولعل ذلك هو ما جرى للقطن المصرى طويل التيلة الذى انتقلت صدارته المصرية الخالصة عالميا إلى أمريكا وإسرائيل. وسمعته على لسان أكثر من خبير زراعى بمركز البحوث الزراعية ذكروا لى منتصف تسعينيات القرن الماضى فى مؤتمر زراعى بالعريش ـ فى تصريحات لم تكن بالطبع للنشر ـ أن المنح الأمريكية للبحوث الزراعية كانت تأتى لبحث معين لا يكاد يصل لمرحلة النتائج حتى يأتى أمر فوقى بوقفه وبدء آخر فى موضوع جديد، ويفاجأ الخبراء بتطبيق بحثهم غير المكتمل فى أمريكا وإسرائيل. وبهذه الطريقة ذهب القطن المصرى بصدارته إلى هناك وجاءت بذورالمحاصيل المريضة المسرطنة عن طريق الهندسة الوراثية إلى هنا ضمن حرب بيولوجية على الإنسان وعلى الأرض الزراعية المصرية.
البطيخ لا يكاد يختفى من الأسواق فإذا هفت إليه النفس كان نصيب البطن مغصا وقيئا، والخوخ تعددت أشكاله وأحجامه ومذاقاته فإذا استجبت لهفوة شوق له كان الإسهال عقابا فوريا والبرتقال تقارب بعض أصنافه حجم البطيخ البلدى زمان والواحدة منه كفيلة بعمل انتفاخ فضلا عن بلاوى المعدة العديدة.. هذا عن فاكهة الفقراء التى لعبت الهندسة الوراثية لعبتها فى تغيير خلق الله، أما عن نفس الأصناف من فاكهة الفقراء فهناك الغالى اللى ثمنه فيه عديم الأضرار المسمى «أورجانيك» محتفظا بطبيعيته وأمانه ورونقه الذى خلقه الله عليه، لكن ممنوع على الفقراء الذين لا يمتلكون إلا ثمن ما يسكن الآلام والأمراض فى أجسامهم، والذى تدفع الدولة فى النهاية ثمنه مليارات لا تعد لعلاج الأمراض التى تنجم عن الهرمنة والهندسة الوراثية الشرهة.
النفاق الاجتماعى
فى مجتمع ترتفع نسبة أميته بما لا يتفق واسم مصر الكبير تنتشر الأمراض الاجتماعية انتشار النار فى الهشيم، وتتوالى موجات الجرى وراء ما لا يدرك وترك ما لا يترك.
الأسباب عديدة والأمراض لا تتوقف عن الانتشار تحت ستار التقليد الأعمى والإحساس بالدونية إزاء ما يفعله الغير سواء كان ثمن التقليد موجودا أو حتى غير موجود، ويقع بعدها الكثيرون فى مطب أزمة تهدد كيان أسرهم كله، والسبب أنه أراد أن يقلد ما يفرضه عليه تطلعه شبه المستحيل لما يسود المجتمع من نفاق اجتماعى لا يمتلك ثمنه، أو ما تطارده به الدراما التليفزيونية من عالم مخملى كل شيء فيه جميل، المسكن والملبس والمأكل والترفيه ولا مشكلة فيه سوى قصة حب فاشلة تؤرق أصحابها وتطارد المشاهدين طوال شهر أو يزيد. وما تحمله له الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعى من شطحات وخيالات عالم النخبة المالية والمجتمعية.
وأخطر أنواع النفاق الاجتماعى وأسوأ صوره فى الريف ولدى الفقراء حين تستبد بهم الرغبة فى معاكسة ظروفهم ومجاراة الآخرين فى الترف والكماليات غير الضرورية والرغبة فى توفير ما لا قبل لإمكانياتهم به..
والجرى وراء ما لا يمكن إدراكه وترك ما هو متاح فعلا، ويتجسد فيما طرأ من تغييرات غير عادية على الزواج ومتطلباته وجهاز العروس ومواصفات مسكن الزوجية، والغريب أن أهل المدن باتوا أكثر واقعية وانتقل المرض بشراسة إلى الريف فى طبقاته المختلفة، وإذا كان من يمتلك إمكانيات هذه البهرجة غير ذى لوم إلا فى التصريح بها ومباهاة الآخرين بما يمتلكه ويفعله، فاللوم كل اللوم على من لا يمتلك الثمن ويجرى وراء الوسواس بأن ابنته أو ابنه ليسا أقل من ابن فلان أو ابنة علان؛ وما أتعس حظ من يكون وسواسه ممن يفترض فيها أن ترده إلى رشده وتقول له لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لكن الغالبية للأسف يرفعون شعار: إحنا مش أقل فلان وعلان.
وتقع الفأس فى الرأس وينفلت الزمام وتتكاثر الديون وتمضى العروس لبيت زوجها وتترك الحسرة وذل الدين لأهلها، وينطبق على الجميع حينها مثل شعبى شهير يقول: «لا بنت عاقلة ولا أم بتردها» أو العكس فى رواية أخرى! وللأسف من يفقدون العقل ساعتها هم الأهل ليفقد بعضهم بعدها حريته أيضا تحت وطأة الديون والشيكات التى تطاردهم بالحبس، وكثيرون من الغارمين والغارمات هم من تلك الفئة التى تترك التعقل وتجرى وراء التقليد المدمر.
هذه النماذج ليست من وحى الخيال بل هى واقع يلمسه الكثيرون وأعلم بعض حالات منها، وأغرب ما شاهدته فى مواكب التفاخر بجهاز العروس مثلا توكتوك محمل على عربة خاصة به من والد العروس للعريس بسلامته! ناهيك عن ثلاجة وديب فريزر أفقى ورأسى وشاشتى عرض 55 بوصة وغسالتى فول أتوماتيك ونيش للعرض بأطقمه التى لا تمتد لها يد العروس فهناك الأطقم المشتراة للاستهلاك، ناهيك عن حجرة نوم أطفال وسجاجيد وستائر تأكل عشرات الآلاف من الجنيهات. ناهيك عن قاعة الأفراح بكذا ألف جنيه أخرى.. وهلم جرّا.
الأغرب بعد كل هذا أننا نختلق ما يخنقنا ونحكم الخناق حول أنفسنا ثم نقول أدركونا، وما أشبهنا ببيت الشعر الشهير المنسوب للإمام الشافعى:
نعيب زماننا والعيب فينا.. وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب... ولو نطق الزمان لنا هجانا.

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة