طاهر قابيل
طاهر قابيل


يوميات الأخبار

رحلة إلى عمق التاريخ

طاهر قابيل

الإثنين، 02 نوفمبر 2020 - 07:15 م

شيدت قاهرة المعز اقتباسا من إحدى المدن الرومانية فى شمال أفريقيا حيث يوجد بها شارع رئيسى يقطعها من الشمال إلى الجنوب وينتهى بطرق المواصلات.

 يردد المصريون البسطاء دائما المثل القائل إن من «يبص لعيشة غيره تحرم عليه عيشته».. فكلما سافر أحدنا إلى الخارج لايرى فى البلد أوالمدينة أوالقرية التى زارها سوى الجمال والنظام والنظافة والتحضر ويصب اللعنات على حياته فى بلده التى يراها على عكس الحقيقة بائسة ومتخلفة.
 دائما جميلة
 الجمال والقبح والتحضر والتخلف موجود فى كل مكان يتوقف فقط على نظرتنا إليه.. ومصر من وجهة نظرى دائما جميلة.. فخطوات بسيطة على شاطئ «نهر النيل» الساحر تملأنى بالسعادة والراحة النفسية.. وإذا ذهبنا شرقا سنجد العظمة والجمال بين الجبال الملونة وفى دروب سيناء ونستمتع بمياه البحرالأحمر والسباحة والغوص بين شعابه المرجانية.. وإذا ارتحلنا للجنوب سنعيش فى جو من الأصالة والتاريخ بين آثارنا العريقة بالأقصر وأسوان وفى بلاد النوبة.. ولو نظرنا للغرب سنرى إبداع الخالق فى واحة سيوة ووسط الرمال البيضاء بالصحراء الغربية..وإذا ذهبنا شمالا سنجد شواطئ ممتدة على مياه البحرالمتوسط بكنوزه وأسراره.. ولن اكون متحيزا إذا قلت إن كل حبة رمل أوقطعة حجارة أوقطرة مياه بالبحرين الأحمر والأبيض وفى نهر النيل تحمل إلينا حكايات وحواديت عن بشرعاشوا وماتوا هنا أو هناك أوعلى الأقل مروا بأرضنا.
 أنا من عشاق قاهرتنا التاريخية.. وكنت أقف بالساعات أعلى كوبرى "قصر النيل" الذى تحرسه تماثيل 4أسود أشاهد نهرنا الخالد وهو يجرى من الجنوب إلى الشمال ليروى الأرض وينشر الخضرة والنماء وأرقب الصيادين البسطاء وهم يجاهدون للحصول على «شروة» سمك وأرى المراكب التى تحمل الشباب والشابات والأطفال والأسر وهم يلهون فى سعادة على صوت الموسيقى العذبة والأغانى.. وألمح اليخوت وناقلات البضائع وهى تمر فوق سطح النهر فى سعادة.. وكانت أفضل أوقاتى التى أقضيها وأنا طفل عندما أشاهد فتح كوبرى امبابة التاريخى لعبور المراكب الشراعية ورحلاتى شبه اليومية وأنا طالب بالجامعة عائدا إلى منزلى بالأوتوبيس النهرى.
 كنت أقضى ساعات طويلة أتجول فى شوارع ودروب وحارات الحسين والسيدة زينب وأجلس على مقاهى الجمالية والدرب الأحمر وأتنسم عبق التاريخ فى مبانى الأزهر واشترى الصناعات اليدوية من إبداعات الصناع المهرة فى «الخيامية».. وأقف مشدوها اسفل «باب زويلة» وفى «قلعة صلاح الدين».. فالقاهرة التاريخية هى أول مدينة إسلامية فى العالم يتم تسجيلها فى لائحة التراث العالمى بالأمم المتحدة وذلك فى عام 1979 لامتلاكها جواهر تاج المعمار الإسلامى الذى مازال ينبض ويتفاعل مع مخزوننا الثقافى والحضارى ويعبر عن قيمة وجود مجتمع ودولة مشرقة ذات تاريخ وتقاليد وعلم تتوارثه الأجيال فى عصور الظلام الأوروبية.. القاهرة الحالية بدون الامتداد العمرانى شمالا وجنوبا وشرقا وغربا تتألف من 4 مدن قديمة كانت كل واحدة منها عاصمة لمصر كنانة الله فى أرضه خلال حقبة من الزمن.
 هذا لا يعنى عدم وجود عواصم أخرى قبل ذلك.. فتاريخنا القديم به الكثير والكثير مثل «منف وطيبة وهليوبوليس» وغيرها لمن يقرأ ويعرف تاريخ أرضنا الطيبة بقلب سليم..فعندما جاء عمرو بن العاص إلى بلدنا عام 641 ميلادية بنى مدينة «الفسطاط».. وفى العصر العباسى أنشأ أبو عوف عبد الله بن زايد عام 751 مدينة «العسكر» والتى اختلفت رقعتها بعد ذلك بسنوات وسميت «القطائع» عام 870 فى عصر الطولونيين والإخشيديين.. وعندما قدم الفاطميون إليها من شمال أفريقيا عام 969 كان أول ما قام به «جوهر الصقلى» إقامة «قاهرة المعز».. ولما تولى السلطان «صلاح الدين الأيوبى» الحكم عام 1176 عمل على جمع العواصم الأربعة فى كيان واحد ليتخذه مكانا يتفق مع جلال إمبرطوريته وعظمة ملكه وتكون قادرة على رد هجوم الأعداء فأحاطها بسور عظيم هو «سور القاهرة» أتمه خلفاؤه.
 رقعة الشطرنج
 أوقفنى ابنى محمد وهو صغير أمام «حانوت» فى حى «الباطنية» ونحن فى طريقنا إلى «بيت العود» بجوار دار «الست وسيلة» لنشترى له لعبة الشطرنج التى مازالت رقعتها المحلاة بالصدف لدينا بعد أن فقدنا معظم قطعها المحفورة بالأيدى على نوع من الحجر لا أعرفه.. توقفت للحظات وانا أنظر إلى «بيت السحيمى» التاريخى ومآذن جامع الأزهر وأروقته التى كانت تعج بالدارسين من كل أنحاء العالم.. وأفكر فى أصل تسميتها بالقاهرة فقد تعددت الروايات وكان أشهرها أن «جوهر الصقلى» عندما شرع فى بنائها أمر بإحضار المنجمين وعرفهم أنه يريد إقامة مدينة للجند الفاطميين فوضعوا قوائم خشبية وأجراسا وأبلغوا العمال أن يرموا ما بأيديهم من الطين والحجارة إذا تحركت الأجراس.. وأن غرابا وقع على أحد الحبال فتحركت الأجراس وصاح المنجمون «القاهرة فى الطالع»..وقيل أيضا إن كوكب المريخ الملقب ب «قاهر الفلك» ظهر عند بنائها..ولكن أقرب الروايات إلى قلبى أن الخليفة «المعز لدين الله الفاطمى» أراد بالمدينة الجديدة أن تقهر أى مدينة فى الخلافة العباسية فأطلق عليها القاهرة.
 شيدت "قاهرة المعز" اقتباسا من إحدى المدن الرومانية فى شمال أفريقيا حيث وجود شارع رئيسى يقطعها من الشمال إلى الجنوب وينتهى بطرق المواصلات إلى الوجهين القبلى والبحرى.. وقام بتحصينها بسور من الطوب اللبن وفتح 8 أبواب فى أضلاعها الأربعة هى «النصر والفتوح والبرقية والقراطين وزويلة والفرج وسعادة والقنطرة».. وتم تشييد القصر الشرقى الكبير ليقيم فيه الخليفة عند وصوله وكان يمتد من «المشهد الحسينى» إلى «الجامع الأقمر» ويقال إن عدد حجراته بلغ 4 آلاف وأرضياته كانت مرصوفة بالفسيفساء وأسقفه مزخرفة وفى وسطه نافورات يجرى فيها الماء الصافى فى أنابيب من الذهب والفضة وبه أحواض وقنوات من الرخام وحدائق للطيور والحيوانات النادرة..وقد اندثر القصر وأقيمت على أنقاضه عمائر منها مدرسة الظاهر بيبرس وسبيل محمد على باشا.. وكان هناك بالقرب منه القصر الغربى الصغير والذى أقيمت على أنقاضه مجموعة قلاوون وجامع الظاهر برقوق.. ويقال إن أخشابه النادرة التى تصور الحياة الاجتماعية بالقاهرة معظمها موجود فى متحف الفن الإسلامى.. ويذكر المؤرخون أنه بلغ من غرام الفاطميين بجمع التحف أن الأميرات كن يتنافسن مع الأمراء حتى أن إحداهن تركت تحفا تقدر قيمتها بنحو مليون و700 ألف دينار..وأن أخرى كان لديها ما يقرب من 400 سيف محلى بالذهب والكنوز وإردب من الزمرد وجواهر وأقمشة وأباريق ومصنوعات من البلّور الصافى.. وبلغ البذخ فى العصر الفاطمى حدا فاق كل وصف وبلغت "القاهرة المعزية" فى نهاية 200عام هى عصر الفاطميين بأن تكون أكبر المدن التى بها منازل وأسواق وملاهٍ ومساجد وقصور.
 العاصمة الشامخة
 التجول فى القاهرة الشامخة لا يوصف فكل جزء بها سكب التاريخ عليه الكثير والكثير من عجائب التراث المعمارى.. والسير فى شوارعها وحاراتها ودروبها هو جولة عبر الزمان والمكان.. فمبانيها ليست مجرد أحجار فهى مرآة تعكس أزمنة مختلفة.. فعندما نعبر شارعى «الجمالية والمعز» نشعر وكأننا ذهبنا إلى عالم سحيق تتعانق فيه آثارنا العربية والإسلامية شامخة.. فبدخولنا قاهرة المعز من ناحية الشمال نقف أمام مشهدين مهيبين وهما بوابتا «الفتوح والنصر»..وكل بوابة منهما تؤدى إلى عالم فريد من القصص والحكايات تستحضرها الأذهان من خلال المنشآت المعمارية المتنائرة لعصور «فاطمية وأيوبية ومملوكية وعثمانية وحديثة».. فبوابة الفتوح تفتح بابها لعابرى الشارع مرورا بالنحاسين والصاغة حتى نصل لتقاطعه مع شارع الأزهر.. ثم نسير على امتداده إلى قلب الغورية حتى نصل إلى باب زويله.. أما بوابة النصر فتفتح الطريق للعابرين فى شارع الجمالية الذى ينتهى عند المشهد الحسينى.. ونتعرف خلال رحلتنا على أجمل وأعرق المبانى التاريخية التى لا تزال صامدة أمام ضربات الزمن وتعديات البشر فعمرها يتجاوز الألف عام من مساجد ومدارس وتكيات وقباب وأسبلة ووكالات تاريخية.. وبه مجموعة من الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية والمساجد التى تشكل مجمعا للأديان مثل ما تحكيه منطقة الفسطاط بمصر القديمة.
 المصريون يعشقون بلدهم والسواعد المصرية فى عصر الرئيس السيسى تعيد إلى القاهرة التاريخية رونقها وجمالها..فبعد التطوير الذى تشهده الطرق والمحاور حول هضبة الأهرامات والمتحف المصرى الجديد فقد احتفلنا السبت الماضى بافتتاح مشروعات قومية وتنموية فى أرض الفيروز و3متاحف تكلفتها 937 مليون جنيه.. وأبدع وزير السياحة والآثار عندما وصفه هذا اليوم بأنه يوم ثقافى وسياحى استثنائى.. فقد تم افتتاح متحف فى كفر الشيخ وآخر للمركبات الملكية بالقاهرة بالإضافة إلى متحف شرم الشيخ الذى يضم أكثر من 5 آلاف قطعة تظهر الحياة اليومية فى مصر.. أما متحف المركبات فى منطقة بولاق القريبة من نهر النيل فيتكون من 7 قاعات منها «الأنتيكخانة» وبها 6 عربات مميزة مهداة للأسرة العلوية وكانت تستخدم للتنزه بالقصور..تليها قاعة العرض المتغير والتى تعرض مجموعة من العربات التى لم تعرض من قبل.. وأخرى تعد محاكاة للشارع المصرى فى العصور الملكية وتليها قاعة المناسبات وتضم العربات التى استخدمت فى المناسبات الرسمية وأخيرا قاعة «الحصان» وبها لوحة زيتية لمحمد على باشا وهو يركب الحصان. ويعد متحف المركبات الملكية من أندر المتاحف بالعالم.. فالأراضى المصرية كلها متاحف للتاريخ والطبيعة وتطورالحياة البشرية وليس بعيدا عنا وادى الحيتان بالفيوم.. وأنا أصدق ما يقولونه من أن آدم وحواء عندما هبطا إلى الأرض كان أول مكان هبطا عليه هو الأرض التى نعيش عليها الآن.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة