فكتور لوداتو
فكتور لوداتو


معضلة الأم

أخبار الأدب

الثلاثاء، 17 نوفمبر 2020 - 07:07 م

فكتور لوداتو كاتب مسرحى وشاعر وروائى أميركى، نالت روايته «ماتيلدا سافيتش» نجاحاً ملفتاً وحازت جائزة Pen usa وترجمت إلى ١٣ لغة.
هنا نقدم ترجمة لقصته «معضلة الأم» التي تمثل أسلوبه وعالمه السردى.

فكتور لوداتو / ترجمة: عادل ضرغام

 كان لقائى الأول بجانا منذ اثنتى عشرة سنة، فى معرض فنى تكريمى إحيائى للفنان الشهير باليستونى بنيويورك. وقفنا بجوار بعضنا البعض، محدقين فى لوحة القرع على سرير من الأوراق المالية من فئة المائة دولار، وهى لوحة من أكثر لوحات الفنان شهرة. قلت لها: لقد أكلت هذا القرع. أومأت إليّ بأدب، وقالت: وأنا أيضا آكله. فقلت لها: لا، أنا أقصد القرع الموجود فى اللوحة. ابتعدت عنى قليلا عند سماعها ذلك، ورفعت طوق معطفها المخملى الأخضر، كما لو أنى أنفخ الهواء البارد على عنقها.

 لكننى لم أرتدع. كنت فى حالة مزاجية بسبب شمبانيا رخيصة شربتها قبل المجىء للمتحف. بالإضافة إلى أنى أرتدى ثوبا مخمليا أخضر، ولدى إحساس عجيب بأن ثيابنا المخملية مرتبطان ومتصلان، كما لو أن القماش المكون لكليهما قطع من الحيوان نفسه.

أخبرتها أنى كنت فى مرسم باليستونى حين رسم هذه اللوحة. فعلاً! تمتمتْ بشكل تقريرى أكثر من كونه استفهامًا. شكوكها فى محلها، ولها ما يبررها، باليستونى كان منعزلا. إذ إنه قلما تم تسليط الضوء على أصدقائه ومحبيه، وانطبق الأمر ذاته على أسرته أيضا. قال فى إحدى المرات خلال مقابلة صحفية نادرة له:( أنا وحيد. دائما وحيد).

 لقد سمعت الحوار كله كلمة كلمة، لأن الصحفى جاء إلى المنزل وأنا فى غرفة النوم. أجلسنى باليستوني-بيتر- مع تعليمات صارمة ألا أخرج حتى نهاية المقابلة، وذهاب الصحفى، وأخبرنى بأنه لا يجب أن أكون موجودة. لم أفتح فمى بأى شىء عن هذا الجزء من حياتى حتى هذه اللحظة مع جانا فى المتحف. حوالى أربعين سنة من الصمت.

أخبرتها(عشت معه). ضيقت عينيها وسألتنى: هل عشت بالمزرعة؟ وهى تقاوم شكها المرهق. يبدو هذه المرة شكها أكثر منطقية، ففى الغرفة السابقة من المعرض التى كانت خاصة بمنزله الشهير فى أريزونا، حيث عاش وعمل، لم أكن فى أى صورة منها بالطبع. ولم يذكر اسمى فى أى من النصوص الإعلامية المكتوبة باللون الأبيض على الجدران الزرقاء الداكنة.

 لم أهتم إن صدقت الفتاة أو لم تفعل. متعة العودة بالذاكرة كانت من دواعى سرورى، ولم يكن لديّ ارتباطات أو جدول أعمال. نظرت إليها مباشرةً.(كنت فى الاستوديو مسترخية على سريرى نهارا أقرأ كتابا لميشنر على ما أذكر، وقال بيتر فجأة(ماريون)، هو دائما ينادينى باسمى لسبب ما، أعتقد أنها انتهت، ما رأيك؟ وحينما أومأت برأسى إلى اللوحة، قلت نعم، وهو ما يفعله أى شخص، قال: هيا لنأكل أنا جائع، لم يكن يريد رأيىّ حقا.

 لم أكن قد قمت بالتسوق، ويجب عليّ التفكير بسرعة. يمكن أن يصبح بيتر لئيما جدا، إذا لم أحصل على الطعام عندما يحتاجه. سأقوم بطهى هذا القرع، ورد عليّ هذا القرع الذى رسمته للتو؟ هذا القرع؟. كان دراميا للغاية، وكرر سؤاله، فلم يكن هناك أى قرع آخر فى الغرفة، وقلت نعم يا بيتر سأحشو هذا القرع، وسنتناوله على العشاء. لقد انتهت اللوحة، أليس كذلك؟ ولا حاجة لك لمزيد من القرع. بدا مرعوبا فجأة، ووقف أمام الخضار، وكأنه طفل مهدد بالخطر. غالبا يصبح على هذا النحو بعد انتهاء عمله فى كل لوحة، ويصبح ضعيفا وهشا إلى حد بعيد.

 حظيت باهتمام جانا بالكامل فى ذلك الوقت فمنذ اثنتى عشرة عاما، كانت مجرد فتاة بلغت الثلاثين بالكاد، ومن المحبذ أن تنظر إليها وهى محدقة إلىّ بحاجبيها العريضين الواضحين من الخوف. بالكاد استطعت التوقف عندما بدأت الحديث إليها، فالماضى يندفع مثل شلال حديث الولادة.
 (هناك باليستونى يقف بينى وبين القرع.

فى محاولة للتخفيف عنه، أخبرته أن اللوحة رائعة. أثنيت على الخط الأصفر المائل فى الزاوية اليمنى. الملاحظة المثالية السحرية(الزيتون فى المارينتى) أعتقد أننى قلت. ووافق بسرعة. وهكذا سمح لى بأخذ القرع الذى قمت بحشوه بجبن بيكورينو، وفتات الخبز، والأنشوجة). ابتعدت جانا، ونظرت إلى اللوحة، وإلى القرع الذى تدعى المرأة التى تقف بجانبها أنها قسمتها إلى قسمين، وحشيته بأشياء مثل الخبز والجبن.

 اللوحة- على ما أتذكر- كانت مضاءة تماما، القرع، وأوراق الأموال النقدية، والطاولة التى وضعت عليها هذه الأشياء، وبدت كأنها حقيقية بشكل مستحيل، كما يجب على تذكار حى، إذا أراد أن يكون قويا. قلت: (لذلك هناك طبخت تحفة باليستوني)، وبعد أن اعترفت بذلك شعرت بالخجل، من تفاهة الحاشية التاريخية، وكنت على وشك الابتعاد حين سألت الفتاة: هل كانا جيدا؟ وأجبت: (القرع؟ كل شىء كان جيدا)، لم أكن يوما طاهية ممتازة، ومن المؤكد أن الطعام لم يكن جديرا بالذكر مثل هذه اللوحة. نظرت جانا إلى النص الموجود على الحائط(مجموعة خاصة) وقالت: أفترض أنها لك.

وقلت وأنا أضحك:( أوه، لا، أنا لا أملك أى عمل من أعمال بيتر)، وبدا أن ضحكى سيستمر لبرهة. ولكنها سألت أخيرا: هل أحرق كل هذه الأوراق المالية فئة المائة دولار باللوحة؟ وأجبت: نعم لقد فعل ذلك حقا، وساعدته على القيام بذلك، فقد كان ثريا ثراء فاحشا بما فيه الكفاية، ولكنه لا يهتم بالأموال، يهتم فقط بالرسم. وسألت جانا: ماذا عن العنوان، معضلة الأم، لم أفهم ذلك مطلقا.


 وهذه كانت- كما يقولون- السجادة التى سحبت من تحتى، لأننى نسيت أن بيتر قد أطلق عليها هذا الاسم. ولكننى تغلبت فجأة واستجمعت قدرتى على الكلام، حين قالت الفتاة: إذا كنت هناك حقيقة حين رسمها، يمكنك أن تجيبى لى، هل من المنطقى أن يمثل القرع الخصوبة أو شيئا شبيهاً بذلك؟ فكرت يا لها من عاهرة صغيرة ذات فضول، ولكنى أدركت أن ردة الفعل هذه غير مناسبة، آخذة بعين الاعتبار أننى من أغريت الفتاة بهذا الفضول.
 قلت: (ومن يهتم؟)، وبحثت عن قلم فى حقيبتى. كنت أنوى شطب العنوان على الحائط، ولكن يديّ كانتا ترتجفان، وشعرت بشىء من انعدام الوزن، كما لو أن ما قاله بيتر لى حقيقة فعلا(أنت غير موجودة).

 قالت الفتاة:(هل أنت بخير؟). لم أستطع الرد، شعرت بنفسى وأنا ألقى نفسى أرضًا، وتبين لى أن هذا تقييم دقيق، لأننى فى تلك اللحظة امرأة تبلغ من العمر ثلاثة وستين عاما، جالسة على أرضية متحف المتروبوليتان للفنون. سرعان ما ظهر الحارس قائلا:(أمي؟ أمي؟ هل أنت مريضة؟ أشرت إليه بيدى غاضبة ليذهب بعيدا. قال:(أمى من فضلك انهضي). لهجته وطريقته لم تكن عطوفة، وحين لمس ذراعى شعرت بخشونته، وطلبت منه أن يرفع يده عنى، وعندها طالبه أحدهم أن يتركنى.

 قالت جانا:(هيا). وبينما كانت تمسك ذراعى، ولمسنى رداؤها المخملى، قاومت بأقصى ما أستطيع حتى لا أبكى. ووقفت مطيعة وتبعتها خارج الغرفة.
>>> بعد عودتى إلى الفندق الذى أقيم فيه، وبعد أن أركبتنى جانا سيارة تاكسى تشم فيها رائحة حساء الدجاج بشكل غامض، لم أستطع النوم، فقد أيقظنى ضوء ساطع من الشارع، ومزقنى إربا.

 معضلة الأم؟

 لم تكن هناك معضلة، فالتخلص من الطفل كان قرار بيتر، أغلقت ستائرى المعتمة الثقيلة، وأخذت قرص دوائى. قضيت يوما آخر فى مدينة نيويورك. كنت أريد أن أرى بعض اللوحات التى نبضت فيها الحياة حولى عندما كنت فى العشرينيات والثلاثينيات. عشت مع باليستونى ما يقرب من ثمانية عشرة عاما، وهى الفترة التى تعتبر الأعظم فى حياته، وظللت معه حتى وفاته فى الواحدة والسبعين من عمره.

 عندما قابلت جانا فى المتحف ألمحت إلى أن بيتر كان لئيما، وذلك ما كان عليه فعلًا. ولكن كل ما فكرت فيه خلال ليلتى المؤرقة تلك الخالية من النوم المريح فى الفندق هو ضعفى، لأننى سمحت لنفسى أن أعامل بهذه الطريقة. لم أعش طفولة سعيدة، ولكن لا داعى للقلق، فلن أقضى آخر رمق فى أنفاسى لأروى تلك القصة. فقد أذكر طفولتى، لأقول أن التعاسة والطريق إلى تلك التعاسة قادانى إلى محطة الحافلات فى تكسون بأريزونا بمنتصف السبعينيات. جريحة لكن دون ندوب ظاهرة. جميلة جدا فى الواقع إذا كنت سأصدق أن هناك صورا قليلة لا تزال باقية.

 يقف رجل خارج محطة الحافلات، ذو شعر داكن، ووسيم بلا مبالاة، يرتدى بدلة مجعدة، ويأكل أثناء المشى قطعة حلوى، سألته عن الطريق المؤدى إلى بيت الشباب. فالعنوان الذى أعطاه لى صبى فى مكسيكو الجديدة، كتب باللون الأزرق على ذراعى. أمسك الرجل الوسيم معصمى لفترة طويلة، وظل يقرأ العنوان فى فترة أطول من الفترة التى يجب أن تستغرقها القراءة. تتبعت أصابعه الحروف والأرقام بطريقة مفعمة بأكثر من الغزل.

 قال:(من الصعب وصف الاتجاه، سأقودك إلى هناك)، لهجته كانت أجمل شىء سمعته على الاطلاق. ومع ذلك لم نتحدث فى السيارة. وأمام النزل انسحب إلى الرصيف، ونظرنا إلى المبنى المطلى بلون قوس قزح، وشاهدنا الجوارب القذرة المعلقة على عتبات النوافذ، وقطة كبيرة تجلس القرفصاء بشكل غافل على الشرفة. وقال:(فى هذا المكان ستجربين البراغيث، من الأفضل لك أن تبقى معي)، لا أعتقد أنى كنت خائفة، أو ربما كنت خائفة، وفكرت فى ذلك، حسنا إذا قتلنى، ماذا سيحدث؟ لم أكن مفتونة بالحياة، فقد كنت فتاة حزينة من مدينة صغيرة بولاية يوتا، حيث الرمل هو اللون الزاهى والمسيطر، وتخرج الصخور منه مثل الأسنان المتحللة.

 بعد قيادة السيارة لفترة عبر الحقول المملوءة بالصبار الجاف، ومتاهة من التلال المتلألئة توقفنا أمام بوابة معدنية ضخمة، بدت وكأنها مصنوعة من الرماح. فكرت فى البداية أن هذا الرجل ذا اللكنة الجميلة خدعنى، وأنه شبيه بالإنسان صائد الكلاب، وسيقودنى إلى سجن ما أو إلى مؤسسة عقلية. يدرك بالتأكيد ما أستحق. ضغط على زر، وفتحت البوابة، قبل أن أطلب منه أن يعيدنى مرة أخرى إلى محطة الحافلات، وأشار بالدخول، وشاهدت المنزل الأبيض المغطى بغطاء متشابك من أشجار الخشب الكبيرة. (ستبقين فى غرفة النوم الخلفية، ولكن يجب عليك أن تقومى بتنظيفها)، قال ذلك محدقًا بى بثبات دون أن ترمش عيناه، وأضاف:(هل أنت على استعداد للتنظيف؟)، كنت فى حيرة من أن أرد بأى شىء، لكن قلت نعم.

>>> تسألنى جانا وهى فى المطبخ:(هل أنت بخير؟)، وأجيب بالإيجاب، وأطلب منها ألا تتسرع، فقد كانت تصنع الشاى الخاص المخلوط بثمار التوت. تجاوزت جانا الأربعين، وأنا فى الخامسة والسبعين. هى لغز بالنسبة إلى، لماذا ظهرت هذه الفتاة فى حياتى. ولكن الغموض الأكبر على الرغم من ذلك يتمثل فى السبب الذى جعلها لا تزال هنا. فعلى مدى السنوات العشر الماضية جاءت جانا لرؤيتى مرارًا فى أريزونا، ويبدو أن هذه الزيارة هى الأخيرة. أنا مريضة جدا، وليس لى شأن هنا أو هناك،  وأدرك جيدا أن الموضوع الوحيد المهم بالنسبة إلى أى شخص يرتبط بالفترة التى قضيتها مع باليستونى، وهذا كل ما تهتم به جانا فى الأساس. 

 فى الليلة التى استعدت فيها هذه الأحداث، بالتأكيد نمت أخيرا، وقريبا من الظهيرة استيقظت على الضوء الأحمر لهاتف الفندق، وصول رسالة تقول(مرحبا، أنا جانا بيرلمان، لقد التقينا أمس فى المتحف، أردت فقط الاطمئنان عليك، هل أنت بخير؟. إذا كنت تريدين أن نلتقى لاحتساء القهوة، سأكون خالية من المواعيد بعد الرابعة. وتركت رقم هاتفها، وهاتفتها، وعندما قاربت الشمس على المغيب التقينا فى مقهى صغير ليس بعيدا عن الفندق، وكانت ترتدى معطفها المخملى الأخضر مرة أخرى، ولكن شعرها فوضوى، ولاحظت بقايا الألوان على يديها. 

 سألتها:( هل أنت رسامة؟)، وأجابت: (أنا أرسم، لقد قمت ببيع بعض لوحات قليلة فقط). بعد سكون مشترك، وتبادل لأحاديث صغيرة، وصلت إلى الموضوع المتوقع الذى تشككت أنها تتوجه إليه من البداية. قالت:(إذن كيف كانت الحياة معه؟ سمعت أنه كان يحتفظ ببندقية عند الباب الأمامى فى حال حاول أى شخص الدخول إلى مسكنه). وأجبت:( نعم، ولديه مقلاع أيضا، وكان خبيرا جدا فى استخدامهما). ثم سألتْ:(هل كنت حبيبة؟ أم مجرد صديقة؟).

  ندمت مباشرة للموافقة على مقابلة تلك الفتاة، ماذا أفعل، هل أتحدث مع أى غريب عنى عن هذه الموضوعات؟ بالإضافة إلى أننى قدمت بعض الوعود لبيتر- حتى لو كانت يداه على عنقى. وهو يقول ماريون يجب أن تبقى فمك اللعين مغلقا، هل تريدين أن يأتوا إلى المنزل ويأكلونا؟. لا يمكن الجدال حول جنون العظمة لديه. وبمرور الوقت بدا الأمر أقلّ ظهورا، وأقل شبها بالبارا نويا، وأشبه بفهم ثاقب للعالم. لقد أراد الناس أن يأكلوك، وربما هذه الفتاة لم تكن استثناء.

 وأجبت:(علاقتى بباليستونى علاقة خاصة جدا)، عبست جانا، وقالت:(أوه، لقد اعتقدت أنك بدوت متشوقة جدا للحديث عنه الليلة الماضية)، وأجبت:( أننى تكلمت عن دوره، وذكرت أثر الشمبانيا، أنا آسفة). نظرت جانا إلى أسفل وإلى يديها بآثار الألوان عليهما، ثم نظرت إليّ بشكل ما، وقالت( ولكننى أعنى، إذا كنت عشت معه، ورأيت ماذا يعمل، وأبصرت كل شىء، فهذا شىء مهم حقيقة، فأنت مثل جزء من السجل التاريخى).
 رددت عليها بأنها بالغت فى الرفع من شأنى، وسألت:(هل عشت معه لفترة؟)، وأجبت:(ثمانية عشر  عاما. وقالت:(أوه، يا إلهي). أخبرتها أننى كنت مديرة منزل فقط، وتخيلت أن هذا يمكن أن يقلل من حماس الفتاة.

 قالت:(لا يهم ماذا كنت عليه ماريون. ما أعنيه أنه نموذج مهم، وفنان له قيمته فى الفن الأمريكى، وهناك القليل من المعلومات المتداولة حول حياته. وأنت قد عايشته وهو يرسم ويخطط كل ذلك) بدت غاضبة إلى حد ما منى، وأضافت:( ما أعنيه أنك راقبته وهو يضع اللون الأصفر المذهل فى قمة لوحة معضلة الأم، وهو أمر رائع وغير متوقع. لقد قال لى أستاذ ذات مرة إنها باعتقاده أهم ضربة فرشاة فى الثمانينيات.

 (هل هذا صحيح؟) كنت أسمع صوت بيتر. وهو يردد أغبياء، كلهم أغبياء فعلا، ورددت (إن القرع والأموال النقدية هما أجمل أجزاء اللوحة)، وردت:(إنهما رائعان، ولكن اللون الأصفر إلى ماذا يشير بحق الجحيم؟)
(لهذا أنت معجبة بعمله؟)، ورددت:(إطلاقا، ما أريد قوله إننى نفسى لست واقعية، وأنا لاأهتم عادة بمثل هذا النوع من الأعمال. ولكن واقعية باليستونى غريبة جدا، ومفعمة بالحيوية. تبدو جزئيات الحياة الساكنة تحدق فيك تقريبا، كما لو كانت تحاول قول شىء ما.)

-تذكر الموت
-عفوا

-باللاتينية (تذكر أنك ستموت)

- أوه، صحيح، تلك اللوحات الملأى بالجماجم والساعة الرملية والأشياء هل كانت تشير إلى ما تقوله؟
-بيتر لديهم فهم عميق للموت، وهذا الفهم حاضر دائما.
كنت أتحدث كثيرا، مالت الفتاة مقتربة منى، بما يكفى حتى شممت رائحة زيت التربنتين الذى يستخدم فى الرسم، وقالت:(يا إلهى، سيكون من الرائع إذا استطعت أن أقوم بإجراء مقابلة أو حوار معك. أعرف أحد المحررين فى منتدى الفن، وإذا وافقت على ذلك، فلن يتعين علينا الحديث عن التفاصيل الشخصية، وإنما عن عمل باليستونى، وعن مشاهدتك..)

 يجب أن أوقفك هنا يا عزيزتى. فأنا كما قلت بالفعل لست على استعداد للحديث عن هذه التفاصيل أكثر من ذلك. حتى لو أردت فأوكد لك أنه ليس لدى شىء مثير لإضافته، فكل شىء موجود فى اللوحات. وما لا يفهمه الناس يجب أن يظل لغزا، هذا ما كان يريده باليستونى.

بالفعل كان هناك جزء منى، يتوق لإخبار هذه الفتاة بكل شىء، فاعلمها أنه فى بعض الأحيان، وفى وقت متأخر من الليل تشاجرنا أنا وبيتر، والسبب فى ذلك إننى كنت أضيف خدوشا سرية وجزئيات صغيرة من الطلاء إلى كل اللوحات التى يعمل عليها. وفى الحقيقة بقى الكثير من هذه العلامات، فقد رأيتها فى الليلة السابقة فى المتحف. مزق الجبن وجودى.

 (لهذا دعينا نحترم رغبات باليستونى، هلّا فعلنا؟ لا مقابلات صحفية، أومأت الفتاة مشيرة إلى التسليم بهزيمتها، ولكنها بعد أن أكلت بقايا الكعكة الأخيرة، رفعت عينيها، واندفعت بجسدها باتجاهى قائلة:(قلت إنه كان لئيما بالنسبة إليك ؟). يا لها من طفلة مخادعة، تتظاهر بالتعاطف، بينما تحفر بمخلبيها، تريد أن تحفر داخلى مثل محارة أو صدفة.

 قلت:(لقد كان فنانا، يمكن أن يكون وقحا، ملحاحا، وحتى قاسيا. أفترض أنك تتفهمين هذا النوع من الشخصيات. لا إحساس بالحدود الفاصلة). صدودى أصاب خديّ الفتاة بالاحمرار. أخذنا بعض الرشفات غير المريحة من قهوتنا، وبعدها قطبت وجهها قائلة:(لا أقصد التربص بك، ولكنى فقط متحمسة لأشياء معينة). ورددت عليها:(مهنتك تتطلب ذلك على ما أعتقد).

 قصدت من ملاحظتى أن أشعرها بالراحة، ولكننى شاهدت الحزن يملأ وجهها بالتدريج وببطء، لمس شفاهها فى البداية، ثم تحرك إلى عينيها. فقلت لها:(ما الأمر يا عزيزتي؟)، هزت رأسها وتنهدت وقالت:(ربما أنا يائسة فقط، فكونك فنانا شىء صعب حقا، وعندما قلت أنك تعرفين باليستونى، شعرت أن ذلك علامة أو شىء ما. لا يجب أن استسلم).

-(لا ، لا يجب أن تشعرى بذلك)، تجاهلتْ كلامى، ولكن الحزن عالق بها.

-(هناك دائما يأس، وبالنسبة لى لا ينفصل عن الأمل). مسحت وجهها مثل طفل نائم عمره خمس سنوات، وقالت:(هل تريدين كعكة أخرى؟). أجبتها:(الأولى كانت كبيرة جدا)، وابتسمت ورفعت معطفى للرحيل. قالت:(اسمعى، لدى لقاء صغير الليلة بشقتى، ولا أعرف ربما تريدين الحضور؟)

-أوه، سأغادر مبكرا غدا.

- هناك المزيد من الأسباب للاستمتاع بليلتك الأخيرة، وأعدك أننى لن أسأل المزيد من الأسئلة عن باليستونى. فقط تعالى للسهر معى ومع أصدقائي).

وسألت:(فنانون). أجابت:(أنا الفنانة الوحيدة فى المجموعة. معظمهم يتجهون إلى المناحى الفكرية. وماتيو صديقى نحات. وفى الواقع هو يرغب بالفعل فى الحصول على زمالة مركز باليستونى، هل لديك أى تأثير على ذلك؟)
أجبت:( لا أنا آسفة، لا صلاحية لدى بذلك). نظرت إلى يديها الملطختين بالألوان، الأصفر المحروق، والوردى الشاحب، وخطوط اللون الأزرق البرويسى، وقالت:( أى وقت تريدين أن تبدأ سهرتك؟).

>>> الأزرق البروسى هذا اللون هو أول يوم لى فى المزرعة 

 الرجل الذى أقلنى إلى هناك قادنى إلى الرواق دون كلمة واحدة بالكاد، أرنى المكانس والمسحات، ثم الخزانة التى تضم البياضات المطوية بشكل كارثى. مسكنى فى نهاية القاعة، باب بنى صغير، بمقبض بغير مكانه، شككت أنه يمكن أن يستخدم فى إغلاق الباب. هذا كل ما فى الأمر، وبينما كان يتحرك بعيدا لاحظت انحراف عموده الفقرى، من خلال الطريقة التى انحنى بها جسمه، فقد انحنى بالكامل جهة اليسار قليلا، كما لو كان يتفادى رصاصة. وعلى الرغم من دقات قلبى المتسارعة، لكثرة التفكير فيما أدخلت نفسى فيه، كان هناك ارتياح بسبب صمت الرجل، راحة من أن تسمع، هل هربت؟ هل أنت فى مشكلة؟ هل يؤذيك أحد؟.

 ومن المريح أيضا إصدار مثل هذه الأوامر المباشرة، ستنامين هنا، سوف تنظفين الأرضية. ربما كانت المرة الأولى فى حياتى التى يتم فيها توضيح قواعد الارتباط بوضوح.

 حصلت على الحق فى العمل، وفى التنظيف والمسح، حتى أصبحت هذه غرفة النوم القذرة رائعة. فتاة بلا مأوى فلم يكن لديّ ترف الشعور بالذل. الحمام الصغير يحتوى على بانيو قدم، ونافذة بلا ستارة، تواجه واحدة من الأشجار القوية. وغسلت نفسى ببعض قطع الصابون القديمة الجافة المتشققة الشبيهة بقطع العاج الصلبة. تنبهت أن الرجل لم يسألنى حتى عن اسمى، وافترضت أن عدم سؤاله نعمة وفضل.

 جلست بعد الاستحمام على السرير مدة ساعة على الأقل فى انتظار عودة هذا الشخص العجيب للظهور، وعندما لم يظهر غامرت بالنزول إلى الردهة. المنزل ضخم، توقفت أمام كل غرفة مغلقة واستمعت. وراء باب منها اعتقدت أن هناك كلبا يخدش نفسه، صوت منخفض جاف، بالتأكيد ليس إنسانا.

 مرحبا؟ ولكن ليست هناك إجابة، عندما فتحت الغرفة وجدت الرجل واقفا أمام المسند. الصوت الذى سمعته كان صوت الفرشاة، وقلت بشكل مشوش: (أوه، أنا آسفة). لم يلتفت ولم يشعر بحضورى بأى حال من الأحوال. عدت إلى الردهة، ولكنى أبقيت الباب مواربا حتى استمر فى رؤيته وهو يضع بعدوانية بقع الألوان على القماش، أستطيع أن أشمها من هنا، رائحة النشادر واللوز، وأدركت أننى اتضور جوعًا فى تلك اللحظة.

 كان الرجل يرسم ما يشبه الأنقاض، كومة صغيرة من الطوب، ربما تشبه قطعا من مبنى مهدّم. الطوب على الرغم من كونه مقطعا وممزقا، إلا أن لونه الأزرق أجمل وأعمق. لا أعرف شيئا عن الفن، وأتذكر تفكيرى أو تساؤلى لحظتها لماذا يرسم الأنقاض على الرغم من أنه يبدو من الواضح أن بإمكانه طلاء المبنى؟ والتى يمكن أن تكون بناء على لون الأنقاض قصرا أو معبدا.

 قلت ما هذا؟ حين استدار إليّ، رأيت الأصباغ على وجهه، ورأيتها بشكل هزلى على طرف أنفه. ثم أبصرت أن هناك شيئا مكتوبا على ساعده. وكنت قد غسلت فى الحمام عنوان نزل الشباب من على جسدى. وتولد لديّ انطباع عجيب وغريب، أن العنوان ظهر مرة أخرى على ذراع الرجل. لقد أبصرنى وأنا أنظر إليه، وسحب كميه الملفوفين. قال:(تعالى، سنأكل الآن خبزا وجبنا وهناك النبيذ، هل يمكنك القيادة؟)، أومأت برأسى، وتابعته إلى المطبخ. تناولنا المناديل فى صمت. كنت أنظر بين الحين والآخر إلى الألوان على أنفه، وأخيرا قلت:(هل يمكنني)رافعة المنديل، جفل، لكنه سمح بذلك. عندما رفعت المنديل، وأريته الدهان، قال:(أزرق بروسى. السيانيد).

 بعد حفلة التكريم، رجعت إلى توكسون مع لوحة كبيرة مؤلفة بالكامل من البقع البنفسجية، مثل مرض تحت المجهر، لقد كانت إحدى لوحات جانا. حينما قلت مبدية إعجابى بها، وأنى أحببتها أثناء السهرة فى بيتها، قامت على الفور بإنزالها من على الحائط، ووقعت على ظهر اللوحة. إلى السيدة فى ثوبها الأخضر المخملى. قلت لها:( دعينى أدفع مقابل اللوحة)، وبدأت الحركة للوصول إلى حقيبتى، ولكنها لم تسمح لى بذلك.

 لم أذهب إلى أى حفلة من زمن بعيد، ولم أكن متأكدة من طبيعة تصرفى فى تلك اللحظة. صديقات الفتاة كنّ رائعات على الرغم من كونهن يشربن الكحول، ويفكرن بشكل مفرط، وشعرهن أكثر روعة. حافظت جانا على كلمتها، ولم تذكر باليستونى، باستثناء أننا التقينا فى معرض خاص به. استمعت إلى الشباب يصرخون ببعضهم البعض، ويعلو صوتهم فوق صوت الموسيقى. فى أحيان كثيرة تبتسم جانا فى وجهى، وتقدم لى الحمص، ورقائق البسكويت، وأثناء محادثة خاصة بغرفة نومها ننظر إلى بعض اللوحات، ذكرت لى أن والديها قد توفيا، أومأت برأسى، فمن الواضح أن هناك مأساة، فقد كانت أصغر من أن يكون لديها والدان متوفيان، وأخبرتها بأنها محظوظة، لأن لديها موهبة.

 على باب شقتها وقفنا طويلا نتحدث قبل أن نقول وداعا، بسبب شعورنا بالارتباك، وبدا لنا أن هذا الارتباك ينبع من شعور بالألفة غير متناسب مع تجربتنا معا. لقد شعرت بهذا مرة واحدة مع بيتر.

 تبادلنا أرقام الهواتف، وقبلتها على خديها. وفى اليوم التالى فى منزلى الريفى الصحراوى بدأت أفكر وأتساءل أين أنا؟ أزعجنى الحديث عن الماضى، وبدأت أتساءل عن ملامح الحاضر، وعن هذه الحياة البسيطة الكئيبة التى صنعتها لنفسى بعد وفاة بيتر. فى شقة جانا الكثير من اللوحات الفنية، وأقنعة، وأشياء مجنونة طائشة، لدرجة أننى شعرت بالإحباط لرؤية جدران منزلى الخالية والفقيرة، حيث الأشياء المعلقة بعض مخالب بائسة، عثرت عليها فى نزهاتى، ومرآة صغيرة دائرية ملطخة ببعض الأوساخ. لعدة أيام كنت أعيش فى تردد، أتجول بين الغرف بحجة عدم وجود هدف أو وجهة، على الرغم من أننى كنت أعرف بالضبط المكان الذى أريد الذهاب إليه. وفى صباح يوم من الأيام ركبت أخيرا السيارة مع رياح ترابية تهب كأشباح الغمام، وتوجهت إلى المزرعة، لم أذهب إلى هناك منذ عقود، على الرغم من أننى على معرفة بما حدث للمكان، فالمزرعة مملوكة الآن للدولة، وتديرها الجامعة. كانت إلى حد ما متحفا، وملاذا جزئيا للفنانين الشباب. وبيتر كان يكره ذلك، ولكن الخطأ الوحيد لديه عدم وجود إرادة. تذكرت تلك الأسابيع الغريبة بعد وفاته، ومواجهة الشروط القانونية التى أتجنبها، ولا أفهمها، وليس لديّ ألفة تجاهها، وأتهرب منها. بصمت تراجعت عن حياتنا، ولم أتقدم بأى مطالبات أو دعاوٍ. وغادرت ومعى فقط الأموال التى كانت مع بيتر بالمنزل، وتبينت فيما بعد أنها قليلة إلى حد ما.

 الطريق إلى المزرعة لم يعد مملوءا بالأوساخ كما كان مملوءا قبل ذلك، وسهل ذلك من حركة السيارة فى المسير، فالرصيف معد جيدا، وأوجد إحساسا بعدم الواقعية. وضعت علامة إرشادية أهلا بكم فى مركز بيتر باليستونى. وكانت غير مناسبة تماما، فالنص المزخرف مثل دعوة زفاف. البوابة الإلكترونية مفتوحة، وأوقفت سيارتى بمكان واسع حيث يوجد بستان من أشجار باركنسونيا. طلاء المنزل حديث، ولا يزال لونه الأبيض زاهيا. فقدت الأشجار الضخمة التى تم تقليمها بشكل مفرط سحرها المميز. بنيت بعض الملحقات الخارجية الجديدة، افترضت أنها أستوديهات وأماكن للرسم.

 تابعت أخبار المكان لسنوات عبر الانترنت، وشاهدت عينات من عمل الفنانين المختلفين، عدد قليل منهم من الرسامين. ويبدو أن معظمهم يصنعون أفلاما لا معنى لها، أو يصنعون أشياء من مواد غير معهودة، مثل أعمدة الخيام أو الأشرطة اللاصقة.

 عندما وصلت إلى المدخل الرئيسى رأيت شباك التذاكر. لقد كان شيئا سرياليا أن أدفع تسع دولارات وخمسين سنتا لأدخل المكان الذى كان بيتى لمدة ثمانية عشرة عاما، سلمنى شاب أنيق ذو شعر كثيف تصريحا، وأوضح أنه يمكننى التجول بحرية داخل المركز، ولكن استديوهات وأماكن المنتسبين والضيوف محظورة، وأضاف:(علينا أن نحترم خصوصية الفنانين).

 رددت:(بالطبع). وقال:(يمكنك رؤية عمل كلارا لافين إحدى الزميلات الموجودات معنا. لديها معرض فى صالة العرض الرئيسة. رسومات رائعة حقيقة، بالرغم من كونها غير مناسبة للأطفال). نظرت إلى جانبى متسائلة عما إذا كان شبحى قد أصبح مرئيا فجأة، وقلت له:(أنا وحيدة مفردي).
 لم يكن هناك الكثير من الزوار فى ذلك اليوم، وعلى الرغم من صمتهم المطبق أو بسببه كان لديّ رغبة فى الصراخ والتعدى عليهم. بندقية بيتر التى كان يحتفظ بها عند الباب الأمامى لا تزال موجودة، وعلى الرغم من أنها الآن محفوظة فى صندوق زجاجى. تحركت يداى على الإطار الخارجى للصندوق، تاركة بصمات الأصابع.

 عند الدخول إلى عمق المنزل، وجدت كل شىء على حاله لم يتغير كثيرا، الأثاث والتجهيزات. الساعة العتيقة التى تجرح بيتر كل ليلة ما زالت دقاتها تتساقط على الرف. الكرسى الهزاز الذى كنت أحب الجلوس عليه عندما كنت حاملا لا يزال بجوار النافذة مواجها التل الصغير من جبل واسون. فى صالة المعرض الرئيسة استوديو باليستونى السابق، وقفت فترة وجيزة أمام أعمال كلارا لافين. لقد صورت نفسها عارية مع وجود أشواك الصبار عالقة بلحمها، من المفترض أن تكون الوضعيات جنسية، ولكنها بدت أقرب إلى تمارين الجمباز، مثل صور ساكنة للتمارين الرياضية. وظهرت السيدة لافين، وكأنها تستطيع أن تتحمل خسارة بضعة أرطال من وزنها. ووصلت من خلال نظرة مقتضبة للتعريف أو البيان إلى الجفاف الروحى للمرأة، والجروح الدائمة لتسلط الذكور. أوه اعتقدتْ مؤملة أن يضحك الموتى.

 بينما كنت أسير فى الرواق الطويل الذى يؤدى إلى غرفتى القديمة، بدأ قلبى يتحرك بداخلى، بدأ نبضه يتعالى بسبب جرأة العودة. وعند فتح بابى البنى الصغير توقعت أن أرى سريرى المغطى بالمفارش، وربما النعال الوردية بجانبه. ولكن يبدو أن الغرفة تستخدم الآن للتخزين، هناك صناديق من الورق المقوى، وأكوام من الكتالوجات، وتشابك محبط من أسلاك التوصيل التى لا تعمل. الشىء الوحيد الموجود من أيامى فى هذه الغرفة هو منفضة سجائر صغيرة من العقيق، كان بيتر يستخدمها عندما يجىء إلى غرفتى.

عشت فى المزرعة لمدة شهر تقريبا، قبل أن يقرر مضيفى أنه يمكننى القيام بأكثر من مجرد التنظيف. فى تلك الليلة الأولى خلع ملابسه ببطء، وحين رفع ثوب نومى، فعل ذلك مثل طبيب مقبل على إجراء فحص. لم أكن عذراء.

سألنى متأخرا:(هل أنت راغبة؟) أخذا فى الاعتبار إنه وضع نفسه قبل السؤال بالفعل فوقى. وعلى الرغم من أنه نظر إلى عينيّ مباشرة، إلا أنه كان يستخدمهما كنافذتين فقط للتحديق فى شىء آخر، شىء ما أبعد من رأسى، حتى أبعد من السرير، شىء ما فى عمق الأرض ربما. كنت خائفة جدا من التحرك.

تعوّد أن يزورنى كثيرا بعد ذلك، والشكل كما هو نفسه. خلال تلك اللقاءات أدركت أن الكتابة على ساعده فى الحقيقة كتلة من الندوب، شبكة معقدة من النتوءات التى تبدو شبه فنية أو على الأقل مقصودة. وعندما أتيحت لى الشجاعة لسؤاله عنها، وضع أصابعه على شفاهى ضاغطا. كانت إشارة حنونة فى الغالب. ولكن حين تشجعت مرة ثانية بسبب الظلام المطبق وسألت، وضع يده كلها على فمى، قائلا:(أنت لا تسألينى عن شىء).

كان يقول فى بعض الأحيان، حين يأتى إلى غرفتى:(أنت لا أحد، أنت لست زوجتي). اعتقدت فى بعض اللحظات أنها لعبة من نوع ما، نزوة أو خيانة زوجية، ممارسة الجنس مع مديرة المنزل. ولكن سرعان ما أدركت أن الخيانة كانت حقيقية. رأيت الصور التى كان يخفيها فى الدرج. رأيت المرأة والطفل، وفهمت كما يفهم المرء مثل هذه الأشياء دون أن تقال، أن المرأة والطفل ماتا. ذكر المكان مرة واحدة، فوسولى.

فى لحظاتنا الحميمية العنيفة، يقول أحيانا أشياء لم أستطع أن أفهمها، غالبا بلغات أخرى. فى بعض الأحيان لهجته إيطالية، كما كانت عندما التقيت به أول مرة، ولكن فى بعض الأحيان فرنسية، وفى أحيان أخرى ألمانية. جواز سفره مزور، ولم يكن اسمه باليستونى. أنت لا تعرف هذا الرجل، ولن تعرفه أبدا، بغض النظر عن عدد المرات التى تمشى فيها إلى منزله.

>>>تأتى جانا ومعها الشاى، وتضع الصينية بجانبى. لقد تعودت أن تضع القدر الجيد من زهور الخزامى. فى البداية لم تقل أى واحدة منا أى شىء، تقوم بتعديل الوسائد، وتساعدنى على الجلوس. الستائر مفتوحة، وأشعة ضوء الصحراء ناتئة مثل بعض الأماكن السماوية، لقد عرفت هذه الفتاة منذ عشرات السنين، وقد مرت بسرعة كبيرة. عندما تصب الشاى فى النهاية، يصبح الأمر أكثر عصبية، ورائحته حقيرة. التوت وبذور الأعشاب، لقد وجدت جانا الوصفة على الانترنت. مشروب ساحر يتكفل بإيقاف قلبى، يوجد فى الصينية-أيضا- طبق البسكويت الخاص بطلاب المدارس المفضل لديّ.

 قلت :(حسنا أليس ذلك مجرد تلخيص للحياة؟)
 ما هذا؟

 كعكة بسمّي

ولكن جانا لم تضحك، وقالت:(ليس عليك أن تقومى بذلك). ولكنى سأفعل، أنا متعبة، والألم شديد. وتذكرت بالإضافة إلى ذلك كيف كان الأمر مع بيتر الذى قاتل ضد الآلهة حتى أنفاسه الأخيرة. لن أفعل ذلك لنفسى أو لجانا.

قلت لها:(اجلسى معي)، فقد كان لديّ الكثير لأخبرها به. وهى تمسك بيديّ لم أشك فى صدقها، على الرغم من أننى لا أتوهم صدقها وإخلاصها طوال هذه السنوات، دون هذا الرجل الذى مات من فترة طويلة، الرجل الذى لم تقابله. وطبقا لجانا لقد مررت بالعبقرية، ولمست التاريخ. واعتقدت لفترة طويلة أن جانا تظن أن هناك بعض الأثر على جسدى. شىء ما ممكن أن ينتقل إليها. ويكشف عن أنها طموحة للغاية.

ولكن ربما أكون على خطأ. وربما أدرك فى النهاية أنها هنا من أجلى. بعد أن تقابلنا فى نيويورك، كان لديّ شك فى أننى سأراها مرة أخرى، وعلى الرغم من أننا تبادلنا أرقام الهواتف، فقد بدا الأمر أنه بمجرد عودتى وبعد عدة أشهر من الوصول إلى توكسن لن نستخدم هذه الأرقام. ولكنها اتصلت بى فى الشتاء التالى.

 قالت:(ماريون، خمنى ماذا حدث؟)
 رددت:(تزوجت)
 قالت:(لا، أفضل من ذلك، حصلت على زمالة مركز باليستونى، وسوف أكون موجودة هناك لمدة ثلاثة أشهر، يمكننا الخروج والتسكع معا). لقد بدت فى حماسها، وكأنها بعمر فتاة فى السادسة عشرة. وحين سألتها عن النحات، ووجوده معها. قالت:(من؟). أجبتها:(ماتيو صديقك). قالت:(لست معه نهائيا، فأنا مشغولة بالرسم عن القيام بأى علاقة).

أردت أن أقول لها (كونى حذرة). ولكن بدلا من ذلك قدمت لها تلك الكذبة التى أوجدتها المناسبة فى بيتها(حسنا لوحاتك ممتازة يا عزيزتي). لقد كنت مخمورة حين قلت إننى أحببت القطعة ذات الخطوط الأرجوانية. واستحضرت ملاحظة ذهنية أن أخرج تلك القطعة من خزانة ملابسى قبل وصولها.

كان حضورها فى الصيف التالى. تم إعطاؤها واحدة من أكبر غرف الرسم، نوافذها الشمالية فى مواجهة منزل المزرعة. كانت سعيدة مبتهجة، وتقول:(لا أستطيع أن أصدق أننى أعمل وأنا أطل على هذا المنظر). المثير للدهشة بالنسبة الى الجلوس أمام طاولة المطبخ الصغيرة، ورؤية منزلى القديم عن بعد، يضاء ضوء الشرفة فى الليل كما لو كان باليستونى لا يزال هناك. فى وقت مبكر كان هناك استقبال وترحيب بالقادمين الجدد، ودعتنى جانا بوصفى ضيفة لها.

فى مساء كئيب من مساءات يوليو، تجوّل عشرون شخصا تقريبا فى المكان بابتسامات قاسية، وبأيديهم كؤوس البلاستيك. ظللت أنتظر بيتر وهو يندفع من المنزل ببندقيته كما فعل ذات مرة عندما ضلت عائلة من المتنزهين فى الوصول إلى منزلهم. فبعد طلقة تحذيرية. سمعت صوت طائر الشحرور، وعندما نظرت من النافذة، رأيت المتنزهين، ووجوههم مملوءة بالغبار، واثنان منهم من الأطفال.

تجولت أنا وجانا بالقرب من الأشجار الكبيرة الضخمة التى خنقتها الأضواء الخرافية. توقفت هناك محدقة إلى الأرض، وشعرت بالمرض. سألتنى جانا:(إلى أى شىء تنظرين؟). ولكن قبل أن أجيبها، سحبتنى من يدى، وأخبرتنى أنها تريد أن تعرفنى على مدير المركز، قائلة:(يجب أن يعرف من أنت). ذكرتها بأننى لم أكن أحدا مهما. حين اقتربنا من الرجل، قصير من أصل لاتينى، يرتدى نظارة غريبة، أمسك بيديّ، وقال(أفترض أنك والدة الفنانة؟). وأجبت:(صديقة فقط). دفعتنى جانا هامسة:(قولى له). ورد الرجل:(تقول لى ماذا؟).

قلت للرجل مبتسمة:(كم هو جميل ذلك المكان)، وموبخة جانا بعينيّ.

قال الرجل:(حسنا إذا كنتما تريدان القيام بجولة فى المنزل الرئيسى، فسأقوم بواحدة فى غضون خمسة عشرة دقيقة، وسأريكما بعض الغرف المحظورة على الجمهور).

رددت:(سيكون شيئا رائعا). وبعد رحيله بعيدا، هزت جانا رأسها نحوى، وقالت:(أنت متواضعة للغاية ماريون، يجب أن تكونى الشخص الذى يقودنا أثناء التجوال). وقلت:(لا أعتقد أن أى شخص سيهتم بكيفية طى الملابس الداخلية لباليستوني). وردت جانا ضاحكة:(هل حقا طويت ملابسه الداخلية. أوه يا إلهى ما الذى لم تخبرينى به).

شعرت بالغضب فجأة، فهل تعتقد أن ذلك مزحة، فقد أخبرتها أن حياتى ليست للتسلية والربح. وبينما كنت أتجه إلى موقف السيارات، سارت خلفى. وقالت:(أين أنت ذاهبة؟ ماريون! ماريون!) تمسك بثوبي(هل ستعودين غدا؟ رجاء أريد أن أطلعك على ما أشتغل عليه). وحين التفت إليها وجدت دموعا فى عينيها. وقلت:( أوه، بحق السماء، أنت امرأة ناضجة)، ولكنها لم تكن كذلك، كانت فقط فنانة.
>>>
سخيف، أغلبهم سخفاء، ومراوغون، وقبل كل شىء أنانيون. تذكرت كلمات بيتر عندما أخبرته أننى حامل. (ليس فى منزلي). وقلت له:(لكننى عشت هنا أيضا). فى هذه المرحلة كنت قد أمضيت ما يقرب من سبع سنوات، واعتبر نفسى أكثر من مديرة منزل. همس بيتر:(اهتمى به)، ويقصد فى الحقيقة أن أتخلص منه.

عندما رفضت عاقبنى، بدأ يأكل بمفرده فى الشرفة. وتوقف عن المجىء إلى غرفتى ليلا. وأثناء عمله بالنهار يغلق باب مرسمه. واعتقدت أنه يأمل فى أن أجمع كل ملابسى وأمتعتى وأغادر. وعلى الرغم من برودة تعامله ظللت موجودة معه. فأنا فى نهاية العشرينيات من عمرى، وقد تعودت على حياتى الغريبة مع بيتر، وأعتقد أنى كنت أحبه. لقد تجاهلته عندما ذكرنى بأنه يجب التخلص من الطفل فى نهاية المطاف، وأن علينا أن نتخلى عنه. متمتمًا للأسرة المناسبة وكأننا لن نصل إليها.

لم يلن إلا بعد مرور سبعة أشهر. فبعد ظهر يوم من الأيام وبينما كنت أعتنى بالحديقة ترنحت وسقطت بين نبات الكرنب. وهم بيتر سريعا لمساعدتى، واعتقدت أن القبلة العفيفة التى منحنى إياها على كتفى اعتذار، بالإضافة إلى أنها تمثل وعدا.

فى اليوم التالى لم يغلق باب مرسمه، وفى الشهرين الأخيرين من حملى، غالبا ما أكون موجودة هناك على الفراش أشاهده وهو يرسم. وفى الحقيقة هذا هو المكان الذى كنت فيه عندما ولدت. وبيتر من قام بتلقى الطفل بيديه المغسولتين من زيت التربنتين. وظللت أردد شكرا لك، شكرا لك. غير مدركة أو فاهمة لما سوف يحدث.

لفترة طويلة توقفت عن التفكير فى الطفل، وظل ذلك مستمرا حتى رأيت اللوحة فى نيويورك، وأعادتنى بجلدها الأرجوانى، والمصباح الأسود المجعد. وهناك أيضا بالإضافة إلى ذلك جانا. وأنا لا أكذب، فكثيرا ما كنت أتخيلها على أنها ملكى. لعبة اثنتى عشرة عاما من ماذا لو.

عندما أقامت جانا بالمركز فى وقت مبكر من صداقتنا، كنت أزورها كل يوم تقريبا. انجذبت إلى المكان مثل ظل لقبر. بعد مغادرتى المفاجئة ليلة الاستقبال. رجعنا بسرعة إلى بعضنا، فلم يكن بداخلى شىء لمعاقبة فضولها أو شغفها. فى بعض الأحيان فى المطبخ الصغير للمرسم، كثيرا ما كنت أجهز العشاء، ونبقى مستيقظتين حتى وقت متأخر نتجاذب الحديث. وعلى الرغم من تحفظى لم تتوقف أسئلتها، وغلبتنى، وبدأت أتحدث أكثر عن باليستونى.

أعطيتها نصف الحقيقة فقط، أعطيتها ما تريد. قصص الرجل العظيم أمام حامل الرسم، وموسيقى الفرشاة، وتحطيم اللوحات الزجاجية فى حالات الإحباط، والجزئيات الإشكالية التى لا يمكن حلها، إلا بطرف الإصبع. قلت:(انظرى باهتمام) فى المرة القادمة حين تكونين قريبة من أى لوحة، ستجدى آثار أصابعه فى كل مكان.

لم أذكر أنى الموجودة هناك. لم أذكر زيارات باليستونى لغرفة نومى. لم أذكر فوسولى التى كنت أفهمها بشكل غامض على أنها نوع من معسكرات السجن، على الرغم من أنه لم يتضح لى إذا كان بيتر سجينا أم حارسا. عائلته المرأة والطفل ومن خلال الصور عاشا هناك أيضا، أو احتجزا هناك، ولكن وحده بيتر من نجا. أما بالنسبة الى الندوب على ذراعه، فأنا لم أعلم هل هى نتيجة فعل آخرين أم نتيجة فعله، فى كلتا الحالين هناك استدعاء للأشياء نفسها: العنف والتعذيب. ربما بسبب الخوف أو بسبب الامتنان لعدم سؤاله عن عائلتى، فلم أضغط عليه للحصول على إجابات. ولكن خلال هذيانه الطارئ الذى يحدث أثناء ممارسة الجنس، وأحيانا بعد مروره بكابوس، أغمض عينيّ ببساطة، قطعة قماش يمكن أن يلطخها بألفاظه النابية.
جاء بيتر إلى أمريكا بعد فوضى الحرب. لم يستغرق الأمر كثيرا حتى أدركت أن الرجل العظيم كان مريضا، أو مختلا بطريقة ما، حتى أن اللطف أو الطيبة يمكن أن تؤلمه . فى المرة الأولى التى قبلته فيها، صفع وجهى. لكن لماذا أقول للفتاة شيئا من هذا، سألت نفسى أثناء إقامتها بالمركز. لقد جاءت لترسم، وشعرت أن وظيفتى الأساسية أن أمنحها الإلهام.

سألتنى:(ما نوع الفرشاة المفضلة لديه؟)، وأجبت:(السمور الروسى، إذا استطاع الحصول عليه، وفى بعض الأحيان شعر الخنزير، فلم يكن يستطيع تحمل المواد التركيبية). وردت جانا:(وأنا أكرهها أيضا).

فى هذه المرحلة لم تعد ترسم الخطوط الملتوية. فى المرسم الصغير المواجه لمنزل باليستونى، تحركت تجريداتها نحو الواقعية، رسومات زيتية ضخمة من المعدن المسحوق والزجاج المكسور. لقد كانت جيدة بطريقة فوضوية وحصرية، المعدن الملتوى مخدوش بمقاييس محددة من لوحة ألوان الرسام. الزجاج أكثر دقة مثل الجواهر والدموع. اللوحات مرعبة إلى حد ما. بدأت أتساءل عما إذا كان والداها توفيا فى حادث سيارة. ولكنى لم أسألها.

>>>لم يحدث ذلك إلا بعد بضع سنوات، عندما ذهبت لرؤية معرضها الفردى بنيويورك، لقد حدث تغيير فى قلبى. فقد أثبتت الفتاة نفسها بوصفها فنانة ذكية وواثقة. كنت فخورة بها للغاية، ولم يعد ممكنا أن أطعمها وفق نظام غذائى من الحكايات الملهمة والمداهنة، ولا حتى على أطراف قصتها. فقد كانت جانا متألقة بنجاحها، وأمضينا أمسياتنا فى المطاعم المتلألئة، نحتفل سعيدتين، وبما أن السعادة تؤدى إلى عدم الاحتراز، فيداهمنا الماضى، فذكرت والدتها، ووالدها.

عندما واجهت صعوبة فى الإفضاء بالمزيد، سألت أسئلتها التى كان يجب أن أسألها قبل ذلك بسنوات. وعلى الرغم من أن قصتها ليست مختلفة تماما عما تخيلته، فإن روايتها للأحداث هى الأهم. فقد وصلنا أخيرا إلى الصدق. وبينما كانت تضع مأساة طفولتها أمامى كنت أدرك أننى يجب أن أقدم شيئا مقابل ذلك.

طلبنا زجاجة ويسكى ثانية، وبعد أن صبّ النادل فى كؤوسنا، حدقت بمفرش المائدة الأبيض، وحكيت لجانا عن سنواتى الأولى فى المزرعة. حكيت عن الباب البنى الصغير الذى لا يغلق. وعن يد بيتر على فمى. وكنت على وشك إخبارها عن الطفل، عندما قاطعتنى بسؤالها:-
-إذن فقد دخل إلى غرفتك بهذه الطريقة؟ كم كان عمرك، يقترب من العشرين؟
-اثنتان وعشرون على ما أعتقد.
- وكان هو فى الخمسين.
- كان وسيما للغاية على الرغم من ذلك.

قطبت وجهها ببطء، ودفعت طبق الحلوى. أدركت أننى أخطأت. فقد كانت امرأة من عصر مختلف. واحدة من اللواتى ينظرن إلى ضعفى بشكل فيه ازدراء مقابل قوة باليستونى. لا أحد يستطيع مناقشة هذا الموضوع بشكل دقيق. شعرت أننى محاصرة وخائفة بشكل غريب. وعندما كنت أتحدث أدرك أن قوة ابتسامتى لا تترك رجلا...
 تركت الرجل ماذا؟ يغتصبني؟ لا، ماريون، لا أفعل ذلك قط.
 لا تكونى دراماتيكية لم يغتصبنى. مالت برأسها، كما لو كانت تنتظرنى لأقوم بعمل أفضل.
 قلت أخيرا لم يكن لديّ مكان آخر للذهاب إليه.
 فى البداية نعم، ولكن هل استمر ذلك لمدة ثمانية عشرة عاما.
 إنه باليستونى، لو أنت فى مكانى ستبقين أيضا.
 قالت وهى مستاءة لا لن أفعل.
تصلبت الفتاة فجأة، على الرغم من أنها تواجه مشاكل فى التنفس.
 قلت لها لم يكن الأمر مروعا دائما، فأحيانا يبدو لطيفا.
 ردت (يا إلهى ماريون)، وأغلقت عينيها، وهزت رأسها، قائلة (لطالما فكرت فيك، بوصفك ملهمة له)
 لا، لم أكن كذلك.
حينما حاولت أن أبين لها أن بيتر عانى الكثير فى حياته، حدقت جانا فى وجهى، وقالت(وما شأن هذا الأمر، معاناته ليست عذرا). تساءلت إن كان ذلك صحيحا. دائما كنت أخبر نفسى أن المعاناة هى عذره الوحيد.
 قالت:( وماذا عنك؟ لماذا سمحت له أن يفعل ذلك؟).
لطالما سألت نفسى هذا السؤال، لكن قدومه من فم الفتاة جعل الإحساس بالعار مضاعفا. وبعد ذلك فاجأتنى بقولها:(يجب أن يحرقوا لوحاته).
 قلت لا تكونى سخيفة، أنت تحبين لوحاته.
 أنا فقط أقول يجب أن يحاسب.
 لقد رحل منذ فترة طويلة، ولماذا نعاقب لوحاته.
ما لم تفهمه أن اللوحات لم تكن انتصاره، كانت ذنوبه وحزنه.
 أنت لم تفهمى القصة كاملة، آخر عشر سنوات معه....
 قالت:(توقفي)، ولامست يديّ، وأضافت:(إنه أمر مروع أن أسمعك تدافعين عنه)
كنا آخر زبائن المطعم، وهناك ثلاثة نوادل من المطعم يرتدون الأسود متكئون على الحائط مثل القضاة.
سألتها:(ألا يوجد شىء اسمه الغفران).
 قالت بحزن:(هذا لم يعد مفيدا).
مالت إليّ، وقبلت خديّ، كما يقبل أحد الأشخاص بريئا.

>>> أنا لست امرأة ذكية أو ماهرة، وأظن أننى صنعت فوضى كبيرة من الأشياء.
بيتر كان يقول دائما إن اللوحة يجب أن يكون لها مركز، مكان للعين لتهبط إليه وترسو. القلب كما يطلق عليه، لأنه هو الذى يجعل اللوحة بشرية. يجعلها صالحة للسكن، حتى لوحة الفوضى يجب أن تصنع سريرا.

 أردت أن أخبركم عن طيبة جانا، وليس عن قسوة باليستونى. ولكن بعد تأجيل قصتى لفترة طويلة، أريد أن أقول الكثير فى وقت واحد. لأننى أريد الآن أن أخبركم عن لطف باليستونى أيضا. هناك أيضا قسوتى الخاصة فى التعامل معه. أشعر بالارتباك غير قادرة على العثور على أسلوب. الغطرسة تشعرنى أننى أستطيع. أنا لست فنانة.

 عندما كان بيتر مريضا قال شيئا لم أفهمه فى حينه، ولكنى فهمته تماما الآن. (الموت يزخرف العقل). بالفعل أشعر أن المرآة يمكن أن تتحطم إلى ألف قطعة، وكل قطعة تعكس شيئا مختلفا، أو ربما الشىء نفسه بزوايا مختلفة، أستطيع أن أرى كل جانب من جوانب ذلك اليوم المروع.

 يحمل بيتر الطفل، ذلك المخلوق الصغير، أزرق زرقة غريبة، لكنه مغطى بلون أحمر. لسبب ما لم يضعها بين ذراعيّ. يلفها بمنشفة قذرة، ويتحرك نحو الباب، إنها تبكى على الرغم من أن الصوت غريب، تقريبا مثل صوت الهدير. كنت أضعف من أن أستطيع الوقوف، ولكنى حاولت. السرير لزج، ومغطى بنفس الصبغة الحمراء التى على جلد الطفل الذى تتدلى أطرافه مثل الزهور التى تحتاج للماء. ثم أدركت أنى ارتكبت خطأ. إن بيتر هو الذى يبكى، الطفل صامت، غير واقعى، دمية.

 أردت أن أقول له (ماذا فعلت؟)، لكن لم يخرج صوتى. سقطت فى حفرة مظلمة، وعندما زحفت للخارج مرة أخرى، اختلف الضوء، إنه الصباح جاء. شخص ما نظف جسدى، وغير الشراشف والملايات، وبيتر يجلس أمام حامله يرسم. عندما استدار ناحيتى لم أفهم وجهه. جاء إلى السرير انحنى بجانبه، أمسك يديّ وقبلها. أخافنى لطفه. سألته أين هى.

 - تحت الشجرة قال مرتجفا، أسفل نافذتك.
أسمعه يهمس (طائر)، ثم أدرك أنه قال(دفن)، أستطيع الآن أن أبصر الأوساخ على قميصه، والعرق على وجهه. عندما ضربته لم يتحرك، وصرخت قائلة:(لماذا لم تدعنى ألمسها). أمسك ذراعيّ وقال:(يجب ألا تلمسى الموتى)، سقطت دموعه أمام عينيّ، وقال(إن لمست الموتى، لن تنسيهم أبدا).

>>> ساعدتنى جانا فى رفع الكوب، وأسلمتنى حبة أخرى. طعم الشاى كان مروعا مثل شىء متعفن على الشاطئ. وبالرغم من أننا فى الصحراء، فهناك تراب على كوميديون السرير، وأوساخ تحت أظافرى، رأسى يتمايل ناحية الضوء المتاح من النافذة حتى أشرب. أريد أن أبقى هناك فى هذا الضباب المتلألئ الذى بدا لى دائما يجسد روح هذا المشهد القاتم. لقد أحب بيتر ذلك الضوء أيضا، وحاول أن يرسمه. وأعتقد أنه كان إلهه الوحيد.
 بعد موت الطفل تركنى أنام فى المرسم. نستلقى متجاورين على السرير الصغير، ونحدق فى السقف المطلى بالقصدير. ظللنا نعيش فى صمت لأسابيع، كما كنا نفعل حين جئت للمنزل لأول مرة.

 لم يستطع بيتر الرسم لمدة تقترب من تسعة أشهر، وحين عاد للرسم مرة أخرى، عاد فى فصل الخريف مع قرع من حديقتنا. وفى وقت تال وضع بعض المخملى الأخضر تحت الخضروات، ولكنه قرر أنه كثير جدا، وأكثر كلفة. وفى مساء ما أمسك ببعض النقود التى كان يحتفظ بها من السلة، وبدأ فى إحراقها.

وقال:(ساعديني)
 انضممت إليه، فى ذاكرتى هذا هو زفافنا، يقوم كل واحد منا بإشعال الورقة المالية فئة المائة دولار، ثم ننفخ اللهب، قمنا بذلك لأكثر من ساعة، وحرقنا أكثر مما كان ضروريا للتكوين، ركعنا بجانب بعضنا البعض، متجهمين، بدا أننا نقول الشىء نفسه، دون أن نقوله. لا شىء يهم.

 أعتقد أنه الحزن الذى لازمنا أخيرا

 ولكن بعد بضعة أيام حين وضع بيتر هذا الخط الأصفر الأخير، عبر الجزء العلوى من اللوحة، أصدر صوتا، كان تقريبا جنسيا. كنت أدرك حينها أن له معشوقا آخر، هذا الطلاء بالنسبة اليه كان لحما، الأصباغ الممزوجة بالزيت، هذه العملية الغامضة، لتأسيس وتزجيج طبقة فوق طبقة، هى التى استطاع من خلالها جلب الحياة إلى الأشياء الميتة.

 بالطبع هو لم يرسم البشر، فقط يرسم الخضروات، والطوب والأحجار. مشاهدته أثناء العمل تجعلنى أشعر فى بعض الأحيان بالغضب. فقد بدا قادرا على إيقاف الزمن من أجل نفسه. بإمكانه أن يرسم طوال اليوم دون توقف، ليصنع همهماته الصغيرة. ويدفن عواطفه ويشوهها. كنت غيورة. لم تكن مشاعرى مشتتة بسبب تنظيف المرحاض، أو النافذة. ولكن لفترة طويلة بعد الطفل كنت حادة، وعرضة للغضب. وذات ليلة دمرت اثنتين من لوحاته بواسطة سكين التقشير.

 لكننى لم أستطع إيقافه، فالسنوات القليلة التالية كانت أكثر غزارة. فكل بضعة أسابيع تذهب الشاحنات بلوحاته إلى معرضه بنيويورك. لا يحضر الافتتاح بالطبع. وفى مناسبة نادرة، عندما يأتى زائر إلى المزرعة، لم يعد يطلب منى الذهاب إلى غرفتى. كان بيتر لا يزال يأتى إلى هناك ليلا، ليس كما كان من قبل. ويستخدم الواقى الذكرى. وفى كل مرة يمزق فيها واحدا يسحق قلبى. فكرت فى بعض الأيام فى المغادرة والرحيل، ولكن كيف يمكننى ذلك بعد دفن الفتاة فى الفناء؟

 حين رسم باليستونى هذه الكومة من العصى. كنت متأكدة أنك تعرفينه، القماش الضخم المسمى صندوق حفظ الموتى، هى تلك العصى من الشجر الضخم خارج نافذتى. لم تقطع، لكنها سقطت من عاصفة. جمعتها ذات صباح ثم وضعتها بجوار حامل بيتر. لم يعد ترتيبها، بل رسمها كما هى، ولهذا السبب أنا ممتنة، لم أكن أطلب الكثير مطلقا.

 يمكننى سماع الفتاة، وهى تحك القلم الرصاص داخل دفتر الملاحظات، أنا لا أحب ذلك. لقد طلبت منها عدم الكتابة عنى. قلت لها:(ماذا تفعلين؟) لسانى يبدو ثقيلا، وحلقى متورم. قالت:(أنا أرسمك)، وقلبت الصفحة لتواجهنى بها.

 قلت مدعية محاولة أن ابتسم:(من هذه المرأة الفظيعة فى رسم جانا؟)، لا توجد امتيازات للغرور أو الجمال. أنا أبدو فى الحقيقة مثل الموت. أخبرها عن أمنيتى أن تعود إلى الرسم مرة أخرى. توقفت قبل بضع سنوات مدعية أن لديها أعمالا مهمة تقوم بها. فى هذه الأيام هى غاطسة فى مشاكل وقضايا. تقول إنها تقاتل فى حرب. أعتقد أن قصتى مفيدة اليها ومع ذلك أود أن أضع الأشياء بشكل مباشر. قبل أن ينهينى هذا الشاى. أشرت إليها أن تقترب.

أقول لها:( هل تعلمين عندما رسم باليستونى لأول مرة هذا القرع)
قالت بشكل مفاجئ:(لا أريد التحدث عنه)
أذهلنى غضبها، ولكن يمكننى أن أرى أنها تبكى أيضًا.
تقول:(هذا هو عصرنا) محاولة إخفاء رسمها.
أدرك أنها تقصدنا أنا وهى، ولكننى سمعتها تستخدم هذه العبارة من قبل فيما يتعلق بالنساء بشكل عام. (عصرنا). ولهذا أبقيت فمى مغلقا. لأسباب عديدة، أهمها خوفى على هذه الفتاة، لماذا أخبرها بأشياء تجعلها تشعر بالشفقة عليّ فقط؟ لقد كان ألطف بكثير من أبى. لم أتوقع أفضل من ذلك أبدا. كيف يمكننى إخبارها بما أؤمن به حقا. هذا الحب يسوى الأمور دائما.
 من المدهش أن هذه الفتاة تبكى على البقايا القديمة مثلى. ربتّ على يدها، غير قادرة على الكلام. ماذا يمكننى أن أعطيها؟ تساءلت وتعجبت. ما الذى يمكننى أن أودعه وأتركه إليها من نصيحة؟ لو طلبت منها أن تكون أكثر ليونة، فسوف أفشل. ربما يجب أن أخبرها بما تريد كل ابنة أن تسمعه:(أنت تدهشيني)
 عندما تنحنى لتمسك بى، أدرك أنها تتمنى أن تحملنى إلى مستقبلها. قالت:(أوه، ماريون). لكن لا. ذهبت ماريون. لقد أصبحت –كما تقول الفتاة – تاريخا.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة