عبدالله البقالى
عبدالله البقالى


حديث الأسبوع

الفقر ليس قدرا محتوما بل نتيجة لنظام اقتصادى ظالم

الأخبار

السبت، 05 ديسمبر 2020 - 07:38 م

الإحصائيات التى تداولتها بعض الأوساط البحثية والمالية، وفى مقدمتها البنك العالمى حول انتشار الفقر فى العالم، وتطور هذه الظاهرة الاجتماعية عبر حقب طويلة من الزمان تحتم التسلّح بالعقل النقدى فى التعامل معها.فلقد ذهبت طروحات منظرين متحمسين للنظام الاقتصادى العالمى حد الجزم بأن النظام الاقتصادى العالمى السائد خلال الخمسين سنة الماضية، ساهم بقوة كبيرة فى تراجع أعداد الفقراء فى العالم بأسره، ويؤكدون بأن هناك من يعتقد بأن ظاهرة الفقر تزداد فى التفشى بالعالم، وأن العولمة والرأسمالية مسؤولتان على ذلك، ويعتقدون بأن سيادة الاقتصاد الحر والتبادل الحر الذى ألغى الحدود والعراقيل الجبائية القطرية ساهم بشكل كبير فى تضييق مساحة الفقر وتقليص أعداد الفقراء فى العالم، وأن دفن النظام الشيوعى تحت التراب خصوصا بعد زوال الاتحاد السوفياتى وسقوط جدار برلين فسح المجال أمام المبادرة الفردية والاستثمار الخاص، ويستدلون فى هذا السياق بالتجربة الصينية التى انتقلت من دولة مغلقة سياسيا واقتصاديا إلى قوة اقتصادية عالمية رائدة بسبب اعتماد الاقتصاد الحر، وأن التحول العميق الذى عرفته الصين مكن من إنقاذ700 مليون شخص من تحت عتبة الفقر، ونفس الأمر حصل فى الهند وفى دول أمريكية لاتينية وأخرى إِفريقية التى تحسنت أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية بسبب اقتصاد السوق والمبادرة الفردية والاستثمار الخاص.

الإحصائيات التى تعتمدها هذه الأوساط تفيد أن عدد الفقراء كان فى حدود مليار شخص فى سنة 1820 فى مجموع السكان بالعالم يتجاوز نصف عدد السكان آنذاك تقريبا، واتجه مؤشر أعداد الفقراء فى العالم إلى الارتفاع إلى حدود منتصف عشرية سنوات السبعينيات من القرن الماضي، حيث وصل مجموع فقراء العالم آنذاك إلى مليارى شخص. ومنذ تلك الحقبة اتجه هذا المؤشر إلى الانخفاض ليعاود الارتفاع نسبيا فى نهاية التسعينيات من القرن الفائت، ويتجه بعد ذلك إلى الانخفاض لينزل فى سنة 2015 إلى 600 مليون فقير فى العالم فقط.

الحاجة ملحة إلى إعمال القراءة النقدية لنقل هذه الأطروحات التى تحاول تبرير الأوضاع السائدة وإكسابها المشروعية، ذلك أن هذه الإحصائيات وما رافقها من قراءات تلغى معطيات وحقائق تساعد على فهم ما جرى، ولايزال يجرى. فالأكيد أن حجم الثروة العالمية تتزايد في التضخم بشكل مذهل وغير مسبوق فى تاريخ البشرية جمعاء، وبالتالى فإن هذا الارتفاع نتج عنه نمو فى المداخيل الجماعية والفردية، إلا أن الإشكال المستعصى فى هذا الصدد أن توزيع نمو الثروة العالمية لم يكن عادلا بين الشعوب والأشخاص والدول، وأن فئة محظوظة من سكان العالم تتمركز أساسا فى الدول الاستعمارية استحوذت على الجزء الكبير من حجم الثروة العالمية، وتركت الفتات للغالبية من سكان العالم المستقرين أساسا فى الدول التى تعرضت للاستعمار، وبذلك فإن نمو حجم الثروة العالمية لم يعم العالم بالعدل والمساواة، وبالتالى فإن نمو حجم الثراء العالمى فرض مفهوما جديدا للفقر الذى أصبح أكثر شمولية يرتبط بالمدخول المالى وبالاستفادة من خدمات الصحة والتعليم والسكن والنقل، ومن تغذية لائقة ومناسبة.

إن العالم لا يزال غير متفق لحد الآن على المعايير الحديثة المحددة لمستويات الفقر والفقر المدقع، فإذا كان البعض يحدد الفقر المدقع فى مدخول يقل على دولار واحد للفرد يوميا، فإن قيمة هذا الدولار نفسه تختلف من دولة إلى أخرى ومن اقتصاد إلى آخر، لأن دولارا واحدا فى اليوم الواحد تتباين قيمته وقدرته فى السوق من بلد إلى آخر، وبالتالى من يكون مصنفا تحت خط الفقر فى وسط معين قد لا يكون كذلك فى وسط آخر. بيد أن فريقا آخر يحدد المدخول فى دولارين اثنين، وهكذا دواليك. وفى حقيقة الأمر فإن مدخولا ماليا فرديا بهذا الحجم يعتبر أكبر سبة فى حق نظام اقتصادى عالمى ظالم جدا يتيح الهيمنة للقوى الاقتصادية الكبرى، بينما تقتات شعوب كثيرة على بقايا فتات هذا النظام.

ثم إن التطور التكنولوجى الهائل والعميق الذى مثل ثورة فى تاريخ البشرية كان فى جزئه الغالب على حساب اليد العاملة غير المؤهلة، حيث ألغت ملايين مناصب الشغل التى كانت تمثل المدخول الرئيسى والوحيد والقارى لهؤلاء الملايين من الأشخاص الذين وجدوا أنفسهم عرضة للشارع بعد أن فقدوا مناصب شغلهم، وأصبحوا دون مصدر عيش.بيد أن هذا التطور مثل مصدرا آخر من مصادر مراكمة الثروة للأقوياء. كما أن هذا النمو المفترى عليه فيما يتعلق بتحسين مداخيل الأفراد لم يكن قارا ولا ثابتا فى الصمود أمام الهزات والأزمات الطارئة، بل إنه تميز بالهشاشة المفرطة، ولنا ما حدث فى أزمة جائحة كورونا خير دليل على ما نقول، حيث يفيد البنك العالمى فى آخر إحصائياته أن انتشار وباء كورونا دفع بأكثر من مائة مليون شخص إلى الفقر بسبب الأزمة الاقتصادية التى تسبب فيها هذا الوباء اللعين.

إن الفقر موجود، وأعداد الفقراء بالمفهوم الشامل الجديد للفقر فى تزايد مستمر، بيد أن النظام العالمى السائد يكرس تمييزا فظيعا بين سكان العالم فيما يتعلق بالاستفادة من حجم الثروة العالمية التى زاد وتظلم، ولكنه دخل جيوب وضخم من حساباتهم المصرفية، ويتعلق الأمر بالأقوياء من شركات عملاقة ومستثمرين ورجال أعمال يملك كل واحد منهم ما تملكه شعوب بأكملها.

لذلك فإن معالجة الفقر فى العالم تستوجب مقاربة جديدة تنتهى بنا إلى تحقيق عدالة منصفة فى استفادة جميع البشر من حجم الثروة المالية والاقتصادية العالمية، وما دون ذلك لا يعدو مجرد مهدئات للتخفيف من الأوجاع والآلام.

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة