فصول محو الأمية
فصول محو الأمية


السيدات.. الأكثر خروجا من ظلام الجهل إلى النور

آخر ساعة

الخميس، 07 يناير 2021 - 03:57 م

ندى البدوى

لم يفُت الأوان على اعتناق النور والانعتاق من الظلام، رحلةُ محفوفةٌ بالأمل تقطعها مئات الآلاف من السيدات اللواتى حُرمن منذ نعومة أظفارهن من إكمال التعليم فى المدارس، وها هن يخرجن من ضيق الجهل إلى براح العلم.
الإصرار على التحرّر من الأميّة جعل المرأة المصرية حاضرةً بقوة داخل الفصول التى تنتشر كنقاطٍ مُضيئة فى ربوع مصر بمدنها وقراها ونجوعها، والتى تُقدم برامجها التعليمية هيئة تعليم الكِبار التابعة لوزارة التربية والتعليم بالتعاون مع مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني، وذلك فى إطار الخطة التى تنتهجها الدولة لإتاحة التعليم للكبار والقضاء على الأمية. بينما عايشت "آخرساعة" يوميات السيدات فى فصول محو الأمية.

بفضل تضافر جهود الحكومة والمجتمع المدنى فى ملف الأميّة، تضاعف عدد فصول تعليم الكِبار المجانية لتصل إلى أكثر من 32 ألف فصل على مستوى الجمهورية، حيث تُعقد هذه الفصول فى أماكن متعددة لتيسير وصول المُستهدفين إليها، منها المدارس ذات الفترات المسائية ومراكز الشباب والمساجد والكنائس فضلاً عن الجمعيات الخيرية، وهناك ما يزيد على 800 ألف دارس مُقيّد بقاعدة بيانات هيئة تعليم الكِبار، غالبيتهم من السيدات فى المراحل العمرية المختلفة.
نبدأ جولتنا من أحد فصول محو الأمية فى قرية المنوات التابعة لمركز أبو النمرس بمحافظة الجيزة، الذى تعقده منظمة الروتارى تحت إشراف هيئة تعليم الكِبار. داخل حجرة تابعة لأحد مساجد القرية تُطالعنا وجوه الحاضرات اللواتى جئن إلى هنا ليستدركن ما فاتهن خلال سنواتٍ طوال، حيث تتراوح أعداد الدارسات فى الفصول ما بين 15 و20 سيدة.
"الزواج المُبكر خطر".. تتحوّل الأصوات التى تُردّد هذه العبارة بحرارة إلى ما يُشبه الهِتاف، بعدما خطّتها المُدرّسة على السبورة عنواناً للدرس، مُختبرةً قدرتهنّ على قراءة الجُمل المكتوبة، ولم يأتِ اختيار موضوع الدرس مُصادفةً، لكنه يعبِّر عن معاناة كثير ممن حُرمن التعليم فى سنوات الطفولة.
قبل أن تُتِم شيماء رمضان عامها الثالث عشر أجبرها أهلها على الزواج من ابن عمها، ليُخمَد آنذاك حلمها باستكمال التعليم بعد خروجها من المدرسة، إلا أن الحُلم ظل يراودها عقب انفصالها عن زوجها بعد سنوات طوال لسوء معاملته وتعنيفه لها.
"جيت هنا لأتعلم القراءة والكتابة وحياة أولادى تبقى أحسن".. هكذا تُقاتل شيماء لتستعيد حقها المسلوب، وتحفظ حق أبنائها الثلاثة فى التعليم، إذ تراه أساسياً فى الانخراط فى المجتمع والحصول على حياةٍ كريمة.
تُمسك سُعاد أبوسريع القلم وتكتب اسمها بخطٍ واضح، مثلما تحفر التجاعيد خطوطها على ظهر يديها، تضحك ببراءة طفلة فى الخامسة وهى تقول: "شفتوا بعرف أكتب اسمى حلو إزاي؟".
لم تحظَ السيدة التى تبلغ من العمر 63 عاماً بفرصةٍ للتعليم فى طفولتها، تحكى أنها كلما تقدمت فى العمر كانت تشعر أنها لا يُمكن أن تتعلم أبداً، حتى شجعتها جارتها على المجيء إلى هنا.. وتضيف: "دائماً أستمع للقرآن الكريم وأحفظ العديد من السوّر، لكنى كلما أمسكتُ بالمصحف تمنيت أن أقرأه".. تُخبرنا سعاد أن هذه الأمنية هى آخر ما تريد تحقيقه قبل أن تُغادر هذا العالم.
نُكمل جولتنا إلى الفيوم، المحافظة التى تتجاوز نسبة الأمية بها 36%، نظراً للحالة الاقتصادية والمعيشية لكثير من سُكانها.
صخبٌ مفعم بالحياة يملأ "جمعية النهضة الإسلامية" الواقعة بمركز الفيوم، والتى تضم 11 فصلاً لمحو الأمية تدرس بها أكثر من مئة سيدة، منهن من تأتى بأطفالها محمّلة بهموم الحياة وأعبائها لتجد فى الفصول ملاذًا يؤنسها بالعلمِ والصحبة، وهى الفصول التى تُعقد ضمن مبادرة "حياة كريمة" بالتعاون مع وزارة التضامن الاجتماعي.
بين صفوف الدارِسات تجلس صفاء عبدالقادر بتأهبٍ وتركيز، شعورها بالخجل من أبنائها والتقصير فى حقهم دفعها للالتحاق بفصل محو الأمية..
"مش عارفة أذاكر لهم ولا أحل معاهم الواجب، ماكنتش بعرف أفك الخط".
تُتابع: "ابنتى الكبرى فى الصف الخامس الابتدائي، هى من تُساعدنى الآن فى حل الواجبات التى تطلبها المُدرّسة هنا، فقد كنت أتهجّأ الكلمات بأحرف مُتقطعة حتى تعلمت القراءة خلال شهرين، كذلك الحساب والقسمة وجدول الضرب، وأنتظر تجاوز الامتحان وأحلم بإكمال تعليمى مع أبنائى حتى المرحلة الثانوية".
بجوارها تحتضن حنان محمد ابنتها ذات العام، وتقول إن لا أحد يجلس بصغيرتها فى البيت لذا تحضرها معها إلى الفصل.
لم تحضر حنان فى صفٍ دراسى كهذا منذ تركت المدرسة فى أوائل المرحلة الابتدائية، كونها واحدة ضمن سبعة إخوة لم تسمح الظروف الاقتصادية بإتمامهم لمراحل التعليم. تكمل: "نأتى لتلقى الدروس يومين فى الأسبوع، أشعر بسعادة لوجودى هنا، ففى كل درسٍ نتعلم شيئاً جديداً، غير أن الصُحبة تجعلنى أشعر بالونس وبأننى لست وحيدة".
لا تعتبر أُمنية جمال عملها مُعلمة بفصول محو الأمية عملاً تقليدياً، إذ ترى فى التجربة ما يستحق بذل كل الجهد لمساعدة السيدات على تخطى عقبة الجهل: "بدأنا الفصل منذ شهرين فقط إلا أننى ارتبطت كثيراً بالمجموعة المُقيّدة لديّ، فالتدريس والتعامل داخل الفصول له طبيعة خاصة ويحتاج إلى الكثير من الصبر، ومن المهم أن يدرك المُعلم طبيعة المتلقين لديه، وأن استجاباتهم بالطبع متفاوتة تبعاً لمرحلتهم العمرية ولقدراتهم الذهنية والتحصيلية، حيث نبدأ معهم بأحد المناهج المُصممة لمحو الأمية من الصفر، حتى نصل بهم إلى إجادة القراءة والكتابة والعمليات الحسابية الرئيسية".
تضيف: نبدأ بتعليم أحرف الأبجدية مُنفردة ثم بحركات التشكيل لننتقل إلى الكلمات وصولاً إلى الجُمل، ويعتمد ذلك على تكرار المعلومة مهما كانت بسيطة والتدريب عليها حتى ترسخ فى أذهانهن، ورغم أن قابلية الكِبار للتعليم والتلقى والتفاعل تختلف بالطبع عن النشء الصغير، فإن الكثير من الحاضرات لديهن استعداد كبير للتعلم، وأجد أنهن يحرزن تقدماً ملحوظاً ويتغلبن على مشكلة النسيان وضعف الاستيعاب، فبعض البرامج تستغرق ثلاثة أشهر وأخرى ستة أشهر تنتهى بالامتحان الذى تجريه هيئة تعليم الكبار، حيث تحصل الدارسة فى حال اجتيازها له على شهادة محو الأمية، التى تؤهلها لإكمال المراحل التعليمية إذا رغبت.
وتوضح آية محمود أن عملية التقييم لا تتحدد فقط بالامتحان الذى تخضع له الدارسات، لكننا نجرى تقييماً ومتابعة مستمرة لمستواهن، خاصة فى دروس الإملاء والحساب الذى يتضمن عمليات الضرب والقسمة، ومن خلال الواجبات المنزلية التى أكلفهن بها، فلا أنتقل من نقطةٍ إلى أخرى قبل أن أتأكد من استيعاب الجميع لأجزاء المقرر البسيط الذى نقدمه، خلال الحصة التى تُحدد مدتها بثلاث ساعات، حيث تُعقد الفصول يومين فى الأسبوع. أشعر بالفخر وأنا ألمس فرحة كل سيدة تتمكن من القراءة والكتابة، هذا الإنجاز ينعكس بشكل إيجابى عليهن، فكثير من السيدات يعانين من ضغوط معيشية ومجتمعية كبيرة، وفرصة وجودهن هنا تزيد من ثقتهن بأنفسهن، وبأنهن قادرات على مواجهة الصعاب وتحملها.

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة