صابر البندارى
صابر البندارى


البنداري «ريس» حفائر اكتشافات سقارة: أوافق على عرض جثمان جدي لو كان «مومياء»

حازم بدر

الأربعاء، 27 يناير 2021 - 11:48 م

بشموخ أبناء صعيد مصر وجلبابهم وعصاهم الشهيرة، يطل صابر البندارى، "ريس" حفائر المعهد الألمانى للآثار على متابعي صفحته بموقع "فيسبوك" فى صور ينشرها من حين لآخر، تزيدها خلفية الآثار التى تظهر بها جمالا وروعة.

قبل نحو شهرين لفتت صورته انتباهي، وشعرت حينها أن خلف هذا الرجل قصصا وحكايات لم ترو بعد، وهو ما تأكد لدىّ عندما قرأت على صفحته مسماه الوظيفي، كريس لحفائر المعهد الألمانى للآثار، وتأكد أكثر عندما أخذت غطسا عميقا فى صفحته، لأجد أنه منتدب من المعهد الألمانى للعمل كرئيس لعمال الحفائر الأثرية فى البعثة التى يقودها الدكتور زاهى حواس والدكتور عصام شهاب فى سقارة.

لم أتردد فى طلب الحوار معه عبر رسالة أرسلتها له على صفحته بموقع "فيسبوك"، ليعتذر الرجل بأدب جم وذوق رفيع عن تلبية طلب الحوار، حتى يتم الانتهاء من أحد الاكتشافات الأثرية التى يعمل عليها الآن مع البعثة، ومع الإعلان قبل أيام عن تلك الاكتشافات حددنا موعدا للحوار الذى اتفقنا على أنه سيكون محاولة لفهم أسرار المهنة، لكن مجريات الحوار قادتنا إلى الحديث عن العديد من القضايا التى تتعلق بالآثار، والتى كان للرجل رأى معتبر بها.

وإذا كان إعجابى بصورته كان الدافع لطلب إجراء الحوار، فإن إعجابى بعد التحاور معه أخذ شكلا مختلفا، فنحن أمام رجل يبهرك بحالة الرضا والقناعة التى تشعر بها نابعة من قلبه، لتنعكس على وجهه الذى تكسوه دوما ابتسامة صافية تلقائية غير مصطنعة، كما يبهرك بآرائه التى شكلتها خبرة 30 عاما تجعله يتحدث بشغف عن الآثار، وكأنها ابن من أبنائه.

تسخير‭ ‬الجن‭ ‬فى‭ ‬كشف‭ ‬الآثار‭ ‬‮«‬نصب».. ‬ومسلسل‭ ‬جبل‭ ‬الحلال‭ ‬‮ «كلام‭ ‬فاضى‮»‬

‮«‬اللعنة»‬‭ ‬خرافة‭.. ‬ وسحر‭ ‬الفراعنة‭ ‬مات‭ ‬بموت‭ ‬صاحبه

أقول‭ ‬لمن‭ ‬يستحل‭ ‬الاتجار‭ ‬بالآثار‭: ‬هل‭ ‬يجوز‭ ‬بيع‭ ‬الأهرام؟

العشق‭ ‬وقود‭ ‬مهنتنا‭ .. ‬وأتعامل‭ ‬بالفرشاة‭ ‬مع‭ ‬الأثر‭ ‬كما‭ ‬أتعامل‭ ‬بالموس‭ ‬مع‭ ‬ذقنى

سقارة‭ ‬لم‭ ‬تبح‭ ‬بكل‭ ‬أسرارها‭.. ‬ والمكتشف‭ ‬لا‭ ‬يزيد‭ ‬على ‭ ‬30‭ %‬

عملنا‭ ‬مكمل‭ ‬للأجهزة‭.. ‬ ووصية‭ ‬عمرها‭ ‬130‭ ‬عاماً‭ ‬جعلتنى ‬‮«‬حفارا‮»‬

أضفنا‭ ‬ملكة‭ ‬جديدة‭ ‬للتاريخ‭.. ‬ وبعض‭ ‬الفخار‭ ‬يفوق‭ ‬المومياوات‭ ‬قيمة

رأس‭ ‬مالنا‭ ‬تاريخنا ولا‭ ‬نضحى‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أجل ‮«‬مال‭ ‬حرام‮»‬

- بداية: ما علمته من صفحتك بالفيسبوك أنك تنتمى إلى مدينة "قفط" بمحافظة قنا، فهل مصادفة أن يكون أغلب العاملين بمهنة الحفائر الأثرية من تلك المدينة؟

تشعر بمشاعر الفخر واضحة على وجهه قبل أن يقول: قصة انتماء أغلب العاملين بالحفائر إلى قفط يرجع إلى 130 عاما، عندما عمل العالم الإنجليزى الشهير "فلندرز پترى" فى حفائره مع عمال وفنيين من مدينتنا، فلمس فيهم المهارة وسرعة البديهة والاستيعاب السريع، وفوق كل ذلك الأمانة، فأوصى بأن يتم الاستعانة بهم فى أى حفائر، ومن يومها عملت وعمل غيرى بناء على وصية پترى، وأصبح عمال وفنيو قفط متواجدين مع كل البعثات الأثرية، حتى أن 90 % من عمال الحفائر والفنيين فى كل البعثات العاملة بمصر الآن من الإسكندرية إلى أسوان ينتمون لمدينتنا.

البداية بالفأس و "المقطف"

- وماذا عن بدايتك فى هذه المهنة؟

يحافظ على مشاعر الفخر على وجهه قبل أن يقول: كانت بدايتى مع عمي، الذى كان ريس لعمال الحفائر، وبدأت المهنة كعامل يحمل التراب بـ (المقطف)، ثم تطورت إلى الإمساك بالفأس، وهذا عمل فى المناطق الأثرية يحتاج إلى مهارة، لأنك لا تعرف ما الذى يوجد أسفل المكان الذى تحفر فيه، ثم أصبحت أتعامل بالفرشاة و∪المسترين∪ مع الآثار بأنواعها المختلفة من طوب لبن إلى فخار، بل وحتى عظام مومياوات، وأنا الآن ريس لعمال الحفائر.

- ألم تؤثر الأجهزة الحديثة التى يستخدمها الأثريون على أهمية مهنتكم؟

يومئ بالرفض قبل أن يقول: عملنا مكمل للأجهزة، فلا يوجد ما يعوض العامل، لأن وظيفة جهاز المسح المستخدم، إنه يشير إلى جسم ما أسفل الأرض، وتكون وظيفة عمال وفنيى الحفائر الوصول تحت إشراف الأثريين إلى هذا الجسم، الذى يمكن أن يساعد فى معرفة الكثير من الأسرار.

- وكيف تتم عملية الحفر بعد أن أخبركم الجهاز بوجود جسم ما؟

يأخذ رشفة من كوب الشاى قبل أن يقول: بعد أن يوضح جهاز المسح وجود جسم ما، يأتى دور "المساح" وهو أثرى يقوم بتحويل المكان إلى مربعات، لأننا لن نقوم بحفر المساحة كلها فى وقت واحد، وكان هذا العمل يتم فى الماضى باستخدام "المتر"، وأصبح الآن يتم باستخدام أجهزة أيضا، ويأتى دور عمال الحفائر بعد ذلك فى استلام كل مربع ليتم حفره، وعندما يظهر لدينا بدايات جسم ما، نسير خلف امتداد المبنى حتى يظهر لنا بالكامل.

زوجة الملك "تتى"

- وعندما يظهر لكم المبنى الذى أظهره جهاز المسح، ما هو أكثر شىء يسعدكم عند رؤيته؟

تلمع عيناه وهو يقول بشغف بدا واضحا على لهجته المتحمسة: كل شيء مهم، لكن هناك من يركز فقط على المومياوات، مع أن هناك أشياء قد تكون أكثر قيمة، فالإنجاز الذى تحقق فى اكتشافات سقارة الأخيرة، لم يكن فى المومياوات وغيرها من القطع الأثرية، ولكن الإنجاز أننا عثرنا على كتابات تشير إلى اسم صاحب الهرم الذى اكتشفته بعثة الدكتور زاهى حواس قبل سنوات، حيث وجدنا ما يشير إلى أنه يخص الملكة (نيت)، والتى يتم الكشف عن اسمها لأول مرة، كإحدى زوجات الملك "تتي"، حيث كان الدفن يتم فى ذلك الوقت بالمنطقة المحيطة بهرمه فى منطقه سقارة.. أى أننا فى الاكتشافات الأخيرة أضفنا ملكة جديدة إلى التاريخ وهذا إنجاز علمى مهم.

- وماذا لو لم تجدوا كتابات فى المكان تشير إلى التاريخ؟

تستمر حالة الشغف واضحة على لهجته المتحمسة وهو يقول: من الأشياء المهمة فى التأريخ "الفخار" الذى قد يتوارى الاهتمام به أمام أشياء أخرى مثل العثور على مومياء، مع أن المتخصصين فى الفخار يمكن أن يعرفوا عند تحلية تاريخ المكان، لأن هناك اختلاف فى نوعية الطين المستخدم فى إعداده من عصر إلى الآخر، وبمعرفة هل تم إعداده من طمى النيل أم أنه قادم من خارج مصر، أم من طين الدلتا، يستطيع المتخصص تحديد الفترة الزمنية، كذلك من الأمور المفيدة فى تحديد الفترة الزمنية حجم الطوب اللبن المستخدم فى البناء، حيث يختلف حجمه من فترة زمنية لأخرى.

الحفائر غير الشرعية

- الحفائر التى تقود لهذه الاكتشافات تتم بواسطة متخصصين يملكون أجهزة حديثه وعمالا وفنيين مهرة مثلك، ولكننا نقرأ من حين لآخر عن حفائر يتم تنفيذها فى الصعيد خارج إطار القانون؟

 لم ينتظر استكمال السؤال وخرجت الكلمات من فمه كالطلقة، قائلا: دول ناس نصابين، بيقنعوا ضعاف النفوس بأنهم بيسخروا الجن للكشف عن الآثار، وده نصب، واللى بيصدقهم مجنون.

- ولكن هناك بعض الاكتشافات التى تحدث خارج الإطار القانونى والرسمي؟

 يومئ بالرفض قبل أن يقول: ممكن يحصل اكتشاف، ولكن بالصدفة البحتة، أما عن طريق المشايخ وتسخير الجن، فهذا اسمية "جرى وراء الأوهام".

- وماذا تقول فى أحداث مسلسل "جبل الحلال" للنجم الراحل محمود عبد العزيز، التى فضحت مثل هذا النشاط؟

يرد على الفور: كلام فاضى لا يمت للحقيقة بصلة.

- تريد إقناعى أنه لا توجد حفائر تتم خارج الإطار الرسمي...

يأخذ رشفة من كوب الشاى قبل أن يقول: فى ناس بتحفر، لكن بيتنصب عليهم، فالعلم الحديث هو أساس الاكتشافات.

- ولكنكم أهل قفط تملكون أساس هذا العلم بحكم العمل فى المجال منذ 130 عاما، فهل لا يوجد من بينكم ضعاف النفوس الذى يوظفون هذا العلم فى هذا النشاط غير الشرعي؟

كاد ينتفض من مكانه وهو يقول بحماس بدا واضحا على وجهه: استحالة يحدث ذلك، فهناك عهد قطعناه على أنفسنا بذلك، وتاريخنا الذى كتبناه فى العمل بالحفائر منذ 130 عاما، لا يمكن أن نمحوه من أجل مال حرام.

- عذرا.. أى مهنة بها الصالح والطالح، فلماذا تتحدث بهذه الثقة؟

لأن من عمل بهذا المجال يقدر قيمة الأثر جيدا، لكن ممكن ناس من غير العاملين بالمجال يشاركوا فى هذا النشاط، ولن يجدوا شيئا.

- إذا علمت أن أحد جيرانك يقوم بحفائر غير شرعية فى منزله.. ماذا تفعل؟

يرد على الفور: أبلغ عنه بدون تردد، رغم ما قد يسببه ذلك من مشاكل.

مال عام

- ألم تستقبل أنت شخصيا دعوة للمشاركة فى هذا النشاط غير الشرعي؟

يرد على الفور: استحالة حد يجرؤ يعرض على ذلك.

- ألم تحدثك نفسك يوما بأن قطعة أثرية واحدة يمكن أن تمنحك ثراء لا يوفره لك راتبك الضعيف؟

يضحك قبل أن يقول: ومن قال لك إن راتبى ضعيف، أنا راتبى كبير والحمد لله، فأنا أعمل فى الأساس بالمعهد الألماني، ومشاركتى فى حفائر سقارة حبا فى الدكتور زاهى حواس والدكتور عصام شهاب.

- سأفكر بمنطق ضعاف النفوس، وأقول لك: البحر يحب الزيادة يا ريس صابر..

يبتسم قبل أن يقول: إنت قلتها بنفسك ضعاف النفوس، أما أنا فقد نصحنى والدى نصيحة أضعها دوما أمام عيني، فقد قال لى يوما، إياك وأن تطعم أولادك من فلوس حرام، وإياك أن تخوض فى أعراض الناس، والحمد لله أن أسير على نصيحته.

- البعض قد يحلل هذا الأمر لنفسه، لاسيما إذا عثر بالصدفة على آثار أسفل منزله، فماذا تقول لهم؟

هذا حرام شرعا، لأنه مال عام.

- سيرد عليك ويقول : كيف يكون مال عام وقد عثرت عليه أسفل بيتي؟

أقول لهم: أنت تملك ما فوق الأرض، أما ما تحتها فهو ملك للدولة، فليس من المفترض أن تستفيد وحدك من بيع الأثر، بينما إذا وضع فى متحف سيعود نفعه على بلد بأكملها.. فأى قطعة أثرية عندى مهما كانت ضئيلة، فهى مثل الأهرامات أو المسلات الفرعونية بالأقصر، يعود نفعها على البلد ككل، فهل يجوز أن نضحى بذلك ونبيعها؟!

- أحد أصدقائى تلقى رسالة من شخص يسأله ان كان يعرف تاجر آثار يشترى قطعة أثرية بحوذته، فمن المؤكد بحكم عملك أنك استقبلت مثل هذه الرسائل.. أليس كذلك؟

يطلق ضحكة عالية قبل أن يقول: ياه.. كتير قوى ناس بتبعت تسألنى على الفيسبوك أنا لقيت أثر وعايز أعرف إن كان حقيقى ولا مش حقيقي، وهؤلاء ليس لهم عندى إلا الحظر، لأنهم لا يفهمون طبيعة مهنتي، فأنا وظيفتى استخراج الآثار وليس الإتجار فيها.

اكتشافات ما قبل الأجهزة

- قرأت حوارا لأحد العاملين بمهنة الحفائر الأثرية، يقول فيه إنه بخلاف الأجهزة العلمية، فإن لديه من الخبرة ما يجعله يعرف المكان الذى يوجد به الآثار استنادا إلى شكل التربة.. فإلى أى مدى يبدو هذا الكلام دقيقا؟

تظهر علامات الدهشة والتعجب على وجهه قبل أن يقول: كلام غير صحيح على الإطلاق، فكما قلت لك الأجهزة تبين أن هناك جسما فى باطن الأرض، ويقوم )المساح ( بتقسيم المكان لمربعات، ثم يأتى دور عمال الحفائر الأثرية.

- فى زمن العالم "فلندرز پترى" لم تكن هناك أجهزة.. فكيف كانت تتم الاكتشافات؟

خريطة مصر الأثرية معروفة، وكان يتم تقسيم المكان إلى مربعات ثم يتم الحفر، ولكن الأجهزة تساعد الآن فى تحديد الأماكن بشكل أكثر دقة، مما يساعد فى تقليل الجهد المبذول، وصولا للمبانى التى توجد تحت الأرض.

- عندما تصلون لمبنى تحت الأرض منذ آلاف السنين، ألا تشعرون بالخوف والرهبة عند دخوله؟

يبتسم ابتسامة ساخرة قبل أن يقول: أراك تريد الحديث عن خرافة لعنة الفراعنة، فهذا الأمر ليس له أى أساس من الصحة، فأنا أعمل بالمهنة منذ 33 عاما، ولم يصبنى مكروها والحمد لله، وأجدادى عملوا بها، وتوفوا وفاة طبيعية، وبعضهم عاش حتى 100 عام.. وبالمناسبة أيضا، لا يوجد خوف مما يسمى بـ "سحر الفراعنة"، وهذا ليس معناه إنكارا لمعرفة الفراعنة بالسحر، ولكن الحقيقة أنهم عرفوا السحر، ولكنه يموت بموت صاحبه.

خرافة اللعنة

- ولكن هناك أحداثا تم تسجيلها لأثريين توفوا بعد بعض الاكتشافات الأثرية؟

هذا ليس له علاقة بلعنة الفراعنة، ولكن له علاقة بتصرف سيئ من المشاركين فى الاكتشاف، فمن المفترض أن يتم تهوية المكان لفترة من الزمن قبل دخوله حتى نعطى فرصة لخروج الميكروبات التى تكون موجوده بالمكان.

- هل تسببت الميكروبات خلال عملك فى الحاق الأذى بأحد أقرانك أو أثريين من المشاركين بالبعثة؟

يخرج كمامة من جيبه قبل أن يقول وهو يشير إليها: قبل جائحة كورونا والكمامات ملازمة لنا فى الاكتشافات الأثرية، فبعد أن نترك المكان للتهوية، لا نتعامل معه إلا بعد فترة، ونحن نضع الكمامات، وإذا وجدنا رائحة ليست جيدة فى المكان بعد فترة من التهوية، نترك المكان مرة أخرى، لحين تصبح التهوية داخله جيدة، فأهم من الاكتشاف هو تأمين الناس، ولكن لا أخفيك سرا أن العشق قد يخلق عندنا رغبة فى الاندفاع.

- كلمة العشق تكشف إلى أى مدى تحب عملك؟

ترتسم على وجهه ابتسامة عريضة قبل أن يقول: طبعا، فالعشق فى مهنتنا هو الوقود الذى يجعلنا نتحمل صعوباتها، فأنت عندما تكتشف مثلا بئرا أثرية وترى داخلها سردابا، سيدفعك العشق إلى الرغبة فى معرفة نهاية هذا السرداب، وإذا وجدت فى نهايته غرفا، سيدفعك العشق إلى استعجال معرفة ما يوجد داخل الغرف.

ويضيف: انا أحيانا وأنا أعمل أحزن لانتهاء يوم العمل وأتمنى العمل 24 ساعة، لأن بداخلى أسئلة لم يتم الإجابة عليها، وأظل طوال الليل أفكر بما يمكن أن أجده فى نهاية سرداب أو داخل غرفة من الغرف.

- ألا توجد مخاوف من أن درجة العشق قد لا تجعلك تحسن تقدير المخاطر؟

يصمت لوهلة يأخذ خلالها رشفة أخرى من كوب الشاى قبل أن يستأنف حديثه قائلا: الاندفاع الذى قد يخلقه هذا العشق نلجمه بأمرين، وهما الحرص والصبر، فقد تعلمنا من الأجانب أن أرواح الناس أهم من أى اكتشاف، وهذا يجعلنى حريصا فى عملي، رغم العشق الذى أحدثك عنه، كما أنى تعلمت منهم الصبر أيضا، فيمكن أن يقودنى الحفر إلى جزء من تابوت، ويسألنى مدير البعثة عن مدى سلامته، ورغم معرفتى الإجابة بنسبة 99 %، أرد عليه: سنرفع التراب ونقوم بتنظيف التابوت ثم نجيب عليك، فالتريث وعدم التسرع مهم فى مهنتنا.

- وأنت تفتح تابوتا مثل هذا ووجدت مومياء بداخله، ألا يصيبك ذلك ببعض من الخوف؟

يضحك قبل أن يقول: أخاف !! لا طبعا، أنا كنت شاهدا على اكتشافات كثيرة لمومياوات وتماثيل وآخر هذه الاكتشافات كان فى سقارة، وبالعكس هذا وقت الفرحة، لا وقت الخوف، وإذا أنا خفت وغيرى خاف، مين هيكتشف تاريخ البلد.

فتوى المومياوات

- وما رأيك فى الفتاوى الدينية التى ظهرت مؤخرا لتحريم عرض المومياوات؟

يرد بحسم قائلا: أرى أن الدين لا يقف ضد العلم، والمومياوات علم كبير يفيد البشرية، فمن خلال الأبحاث عليها يعرف العلماء تاريخ الأمراض والغذاء السائد فى فترة ما.

- هذه الأبحاث يمكن أن تجرى فى المعامل، ولكن هذه الفتاوى تعترض على العرض فى الفاترينات؟

العرض فى الفاترينات هدفه تنشيط السياحة وجذب السائح، ولو فتحنا الباب لهذا التوجه، سيأتى من يقول إن الآثار تماثيل ويجب تدميرها، مع أن الفتح الإسلامى لمصر لم يدمر أى أثر، وما حدث من تدمير فى بعض الآثار كان عن طريق الرومان الذين كانوا يريدون إثبات أن حضارتهم أرقى من الحضارة المصرية.

- ولكن فى وقت الفتح الإسلامى لم تكن هناك مومياوات؟

تظهر مشاعر الحماس على وجهه قبل أن يقول: يا فندم ما يعرض هو أجسام محنطة، وليس عظاما بشرية، والهدف من العرض أن السائح يعرف براعة المصرى فى التحنيط.

- من يروج هذه الفتوى يقول: هل تقوم أمريكا مثلا بعرض جثمان مؤسسها فى فاترينة؟

يبتسم ساخرا قبل أن يقول: هيعرضوا إيه؟ شوية عظم !

- مروجو هذا الفتوى أيضا يتساءلون : هل يرضى من يشاهد هذه المومياوات أن يعرض جثمان جده بنفس الطريقة..فهل أنت توافق؟

يطلق ضحكة عالية قبل أن يقول: لو هيفيد البلد أنا موافق، بس هيعرضوا إيه.. هو مش مومياء، مش هيلاقوا غير شوية عظم.

- أفهم من ذلك، أنك تريد القول، إن هناك فرقا بين حرمانية عرض عظام بشرية وعرض مومياء؟

بالضبط، احنا فى شغلنا بنلاقى عظام، وبعد إجراء الدراسات عليها بنكرمها ونعيد دفنها، لكن دى مومياء أخفت مواد التحنيط ملامحها وشكل عظامها، فهى مثل الأثر وليست جثمانا بالمعنى التقليدى، وبعدين أنا نفسى أفهم ليه ظهرت الفتوى دى الآن.

- هذه فتوى متجددة ظهرت منذ أيام الرئيس الراحل أنور السادات ويتجدد الحديث عنها من حين لآخر..

 أعرف ذلك، وعشان كده بسأل ليه تجدد الحديث عنها الآن.

- تريد القول إنها بهدف التغطية على الاكتشافات الأخيرة بسقارة...

يومئ بالموافقة قبل أن يقول: نعم هو ده السبب.. التوقيت مهم جدا.

- بمناسبة هذه الاكتشافات الأخيرة، التى كانت على يد بعثة مصرية خاصة، كيف وجدت الفرق فى العمل بين المصريين والأجانب؟

تظهر مشاعر الفخر واضحة على وجهه وهو يقول بحماس: أهم ما يميز الأجانب الدقة، فهم يعطون كل شيء حقه، وقد وجدت فى هذه البعثة المصرية أنها لا تقل إطلاقا عن الأجانب.

الفرق بين شعورين

- وما الفرق بين شعورك عند اكتشاف آثار مع بعثة مصرية وشعورك عند الاكتشاف مع المعهد الألماني؟

ترتسم على وجهه ابتسامة الرضا، قبل أن يقول: طبعا أكون أكثر سعادة مع البعثة المصرية، فالمعهد الألمانى صحيح أنه بيتى الذى أعمل فيه منذ 33 سنة، ولكن الإنسان ممكن يغير بيته، ولكن مش ممكن يغير أمه التى هى مصر، عشان كدة فرحت أكثر مع البعثة المصرية، وشعرت أننا لا نقل عن الأجانب فى شيء.

- وهل ستستمر فى العمل مع هذه البعثة المصرية؟

يومئ بالموافقة قبل أن يقول: نعم مستمرون فى العمل بسقارة، فهذه المنطقة هى مستقبل الآثار المصرية، ولم تبح بعد بكل أسرارها، والمكتشف من آثارها لا يزيد على 30 %.

- لو لم تعمل فى الحفائر الأثرية، ماذا كنت تود أن تعمل؟

أنا حاصل على دبلوم تجارة، ولكن بعد تخرجى عملت مع عمى فى الحفائر واستوعبت هذا العمل سريعا، ولا أتصور نفسى أعمل فى عمل غيره، لذلك لم أفكر فى هذا السؤال.

- من الواضح أنك تحب هذا العمل كثيرا؟

كلمة حب قليلة.. أنا أعشق هذا العمل.

- هل أحد أسباب هذا العشق أن راتب المعهد الألمانى كبير كما قلت لى فى البداية؟

يضحك قائلا: الفلوس مش كل حاجة.

- فى هذا الزمن ندر من يقول هذا الكلام ؟

انا هسألك سؤال لو الوالد ترك لك قطعة أرض، هل تبيعها؟

- نعم أبيعها، إذا كنت بحاجة إلى المال، ولم أجد أمامى غيرها.

 احنا عندنا فى الصعيد الإجابة مختلفة، ما ينفعش أبيع الأرض.

- وما علاقة ذلك بسؤالي؟

يومئ بيده طالبا منى الانتظار، قبل أن يقول: أجدادى تركوا لى هذه المهنة، التى جعلت مصر كلها تفخر بأبناء قفط، فهل أتركها وأعمل فى عمل آخر، فهذا كمن يبيع أرضا تركها له أجداده.

- المثال الذى طرحته أكثر من رائع..

يبتسم قائلا: أنا والله مش باقول كلام مبالغة، بس الحقيقة إن من يعمل بهذه المهنة لا يتركها،وسأعطيك مثالا عمليا على كلامي، فالدكتور عصام شهاب مدير البعثة، عرضت عليه أكثر من مرة مناصب إدارية، ولكن الرجل عشق العمل بيده، فأصبح حفارا أثريا لا يشق له غبار.

مخاطر المهنة

- كل مهنة لها مخاطر، فهل مخاطر المهنة لا تذيب هذا العشق أو تقلل منه؟

طبعا لا أنكر أن مهنتنا لها مخاطر، ولكن عشق المهنة كافى لأن يجعلنا نتقبل هذه المخاطر ونعايش معها.

- مخاطر مثل ماذا ؟

ممكن مثلا ننزل بئر أثرى ويكون هناك كسور فى الجبل الموجود بداخله هذا البئر، أو يكون سقف غرفة دفن به كسور.

- وهل هذه المشاكل يكون لها حلول؟

 طبعا لها حلول، ولكن وأنت تقوم بعمل هذه الحلول، كأن تستخدم أعمدة خشبية لتأمين سقف الغرفة خشية الانهيار، قد تحدث لك مشكلة، وهو ما حدث معى فى مقبرة من الأسرة الثانية أثناء عملى مع المعهد الألماني، حيث سقط حجر كبير بجوار قدمي، وكاد قلبى ينخلع وقتها من المفاجأة.

درس الصبر

- وما هو أكثر شيء تعلمته من المهنة؟

 الصبر، فالعمل بالحفائر الأثرية يحتاج إلى صبر وأنت تعطى لكل شيء حقه، فمثلا لو أمامى قطعة أثرية أتعامل معها، يجب أن يكون ذلك برفق وبدون استعجال، وهناك درس مهم فى هذا الإطار تعلمته من عمي.

- وما هو هذا الدرس؟

 يمرر إصبعه على ذقنه، وكأنه يحلقها، وهو يقول: عمى قال لى وأنت تحلق ذقنك هل تمرر الموس على جلدك بعنف أم برفق، فأجبته برفق، فقال لي: وكذلك الأثر وأنت تستخدم معه الفرشاة أو )المسطرين( يجب أن تتعامل معه برفق وكأنه جلد ذقنك.

- أعلم أنكم تقضون وقتا طويلا خارج المنزل قد يصل لشهور، فكيف يتقبل أبناؤك هذا الأمر؟

 يفتح صفحته على موقع فيسبوك قبل أن يقول: فخورون طبعا، انظر كيف يفتخر ابنى بلقاء تليفزيونى أجريته مؤخرا، افتخار ابنى بى لا تعادله سعادة.

- ولا سعادة المكسب المادى..

يبتسم قبل أن يقول: الحمد لله أنا قنوع جدا.. وأعيش فى بلدى قفط داخل بيت من الطوب اللبن مساحته صالة وغرفتين ومطبخ وحمام، وسعيد جدا بذلك.

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة