سلمى قاسم جودة
سلمى قاسم جودة


لحظة وعى

ترويض الغريزة

بوابة أخبار اليوم

الأحد، 31 يناير 2021 - 05:34 م

سلمي قاسم جودة: تكتب

هى تعمر وتدمر.. تحيى وتميت.. تهلك وتنجى.. إنها الآمرة الناهية.. الفادحة، الفاضحة.. هى الغريزة.. الخبيئة المتجذرة فى مكونات كل الكائنات إذا لم يروضها الإنسان ويهذبها كان تابعها أفدح الآفات، غياب الوعى، الأنانية، الإنكار وتلاشى المنطق والنضج المنشود ليغرق الناس فى الطفولة المزمنة ومن ثم تغيب فضيلة تحمل المسئولية وإدراك العواقب والتوابع لكل فعل؛ لتتجلى البصيرة التى تنير الوجود وتفسح الطريق أمام كل آخر، فهيمنة الغريزة تفضى إلى الأذى على المستوى العام والخاص، فعلى سبيل المثال الانفجار السكانى لدينا يلتهم الأخضر واليابس لينهش كل المحاولات للنمو والازدهار، كل عام يأتى بشعب جديد، عدم الالتزام بالوقاية من الوباء، فى الحياة الخاصة هناك مايسمى بالكائن المسمم أو "Toxic" وأكرر ماسطره نجيب محفوظ فى "عبث الأقدار" "إذا لم تتغذ الروح بالحكمة هوت إلى حضيض الحيوانية".

الغريزة الجامحة، المعربدة تتحول فى لحظة إلى نوع من الهاجس المُلح، الأوحد أو ما يعرف "بالمونومانيا"، أصاب مثلا "الأب جوريو" لبلزاك فسكنت الرجل عاطفة عاتية منزوعة المنطق والوعى تجاه بناته فوهبهن كل ثروته فكان أن تلقى الجحود المميت، وها هو العظيم د.يوسف إدريس يخلد بعبقرية مأساة التكاثر المتعملق المصرية فى بداياته الإبداعية من خلال قصة "أرخص ليالي" وبالرغم أننا هنا فى خمسينيات القرن المنصرم إلا أن بصيرته الفذة ووعيه كمفكر وأديب يستبق الأحداث بحذر ويحمل النبوءة فى طيات كلماته الغائرة فكتب: "ويرتعش عبدالكريم بالحنق وهو يبصق على البلد الخائب الذى أصبح كله صغارا فى صغار، ويتساءل ويهتز عن معمل التفريخ الذى يأتى منه من هم أكثر من شعر رأسه.. ويزدرد غيظه وهو يطمئن نفسه أن الغد كفيل بهم، وأن الجوع لامحالة قاتلهم∪، "وأخيرا أغلق الباب بالضبة وراءه وتخطى أولاده وهو يزحف فى الظلام حيث يتناثرون ومصمص شفتيه وهو يئن منهم ومن الظلام ويعتب بينه وبين نفسه عن الذى رزقه بستة بطون تأكل الطوب"، "وبعد شهور وسنوات كان عبدالكريم لايزال يتعثر فى جيش النمل من الصغار الذين فى طريقه وكان لايزال يتساءل.. عن الفتحة التى فى الأرض أو السماء والتى منها يجيئون؟" أما نجيب محفوظ فسطر فى أفراح القبة، "ماذا سيفعل كل هؤلاء الصبية، انتظر حتى تشهد هذه البيوت القديمة وهى تنفجر، التاريخ يحزن لتحوله إلى قمامة"، تلك هى الصرخات والاستغاثات الأدبية فى مواجهة البركان البشرى المفضى إلى تآكل الجهود المضنية للدولة للارتقاء بكل أوجه الحياة لتذكرنى بأسطورة سيزيف وهو يدحرج الصخرة بلا جدوي، فالنظرة قصيرة المدى إلى الجحيم مفضية، وفى كلمات الله سبحانه وتعالى المال جاء قبل البنون لتحقيق حياة لائقة وكريمة قبل كل شيء، فالوعى يقتضى التمهيد قبل أى فعل وهناك تقصير من الجميع إزاء تلك الأزمة الخطيرة، وبالرغم من الفضائل الشاهقة التى يتحلى بها الشعب المصرى إلا أن الرضوخ للغريزة فى الكثير من مناحى الوجود يظل عائقا وجب تحطيمه.

لوحة "حياة شعبية" لحامد ندا

أما المحنة الكونية التى نتعرض لها بفعل الوباء الغامض والذى استعجم حتى على أعتى علماء العالم يجسد ماقاله لى د.أحمد عكاشة طبيب النفس الأشهر الذى حاورته عشرات المرات أن كل شعوب العالم تتشارك فى ذات الإحصائية ٦٠٪ من كل شعب متوسطو الذكاء و٢٠٪ الحد الأدنى من الذكاء و٢٠٪ من الأذكياء و١٪ من العباقرة وهنا يتجلى أن من يلتزم بقواعد الوقاية من الوباء هم الأذكياء، من يتمتعون أيضا بالإحساس بالآخر والمسئولية والبعد عن الإنكار المغيب للوعى والناضح بالجهالة والأنانية فتحطيم الذات وإلحاق الأذى بكل آخر قريبا كان أو بعيدا ومن ثم ستجد هذا السلوك القاتل فى كل شعوب الأرض وأتعجب دوما من شخص يضع الكمامة حول رقبته كأنها عقد أو سلسلة للتزين.. ومن ثم فقدت خصائصها، أو يضع الكمامة ولكن عندما يبدأ فى الحديث وينطلق الرذاذ المميت من كل الفتحات يخلعها وعندما تحاول التدخل وإنقاذ ما يمكن إنقاذه يجيب المواطن.. "خليها على الله" وبكل تأكيد ويقين كله على الله.. كل نفس وشهيق وزفير ولكن الله أمرنا بأن نقوم بالواجب وأن نتوكل لا نتواكل بكل الترهل الخطر وأدهش من هذا القصور الحاد فى المنطق فالمال لا يأتى بدون عمل والتفوق لا يكون بدون اجتهاد وإتقان "اشمعنا"، الوباء لا يحتاج لجهد وإرادة فى الحذر وهل الكمامة أصعب من أنبوبة الأكسجين والمرض؟.

وهناك مقولة لا أخرج من البيت ولكن الفيروس يأتى إذا لم نلتزم بالحذر..

سوف يداهمك حكى نجيب محفوظ فى حكاية عاشور الناجى والحرافيش..

فها هو ذات السلوك المحمل بالإظلام، بالتجهيل أثناء وباء الكوليرا وكيف أن البشر لا يتغيرون وكلمة السر البليغة الاستسلام للغريزة.. وأذكر مقولة كوزيما ڤاجنر "كل ما يؤلم يفيد" سطرت الأديبة الإيطالية إلينا فيرانتي: "وبالتالى فإن النفس الغاضبة والنفس الغريزية على حد سواء تنتهزان الفرصة للتغلب على النفس العاقلة"..

وهنا استدعى الحالة "ترامب" فكل شيء بدأ عندما اجتاح الوباء الولايات غير المتحدة واجتاح ترامب هاجس الإنكار، إنكار العلم والواقع، فالرغبة العاتية فى عدم فقدان ما أنجزه فى مجال الاقتصاد حضته على الاختباء فى المحارة المظلمة الحبلى بالرغبة والغريزة الماضية نحو هاوية السقوط، فهو يريد، يرغب ويقارن عدد الأصوات التى حصدها بكل الانتخابات التى حدثت فى الماضى لا ما حدث فى مواجهة خصمه على أرض الواقع الحاضر، المضارع، فلا شيء يهم سوى ما تأمر به غريزة البقاء ومن ثم وقعت الواقعة وكانت خطيئة التحريض على اقتحام الكونجرس بفعل هيمنة الغريزة والرغبة وتابعهما الانسلاخ الخطر عن الحقيقة، وهنا أرجع إلى كلمات فوشيه الوزير الداهية عن بونابرت.. "إنها أكثر من جريمة إنها غلطة".. أحب كلمات نجيب محفوظ فى "الفجر الكاذب" "الغد يعلمه الله ويصنعه الإنسان"..

برع زولا فى تجسيد تغول سلطان الغريزة لدى بعض البشر فكانت رائعته "تيريز راكان" التى اقتبسها صلاح أبوسيف فكان فيلم "المجرم" حيث الشهوة القابعة فى مملكة الجنس تفضى إلى الخيانة والقتل وكانت الغريزة القاتمة فى "الوحش الآدمي" وعالم السكك الحديدية العامر بالنار والدخان، بالظل والنور ورغبة قتل النساء لدى چاك لانتييه وتلك الأيروتيكية الهائمة فى أغوار الرواية، وتبزغ عبقرية ستيفنسون فى "د. چيكل ومستر هايد" وهذا الصراع الأزلى بين الخير والشر، الجريمة والفضيلة، أما صابر الرحيمى البطل الضد فى "الطريق"∪ لمحفوظ فالغريزة الفائرة أهلكته.. أيضا "حياة باي" لـ"يان مارتيل" الحائزة على بوكر ٢٠٠٢ تدور حول الصراع الأزلى بين غريزة البقاء والروحانيات. إذا استحوذت الغريزة على إنسان ما يتحول إلى محاكاة لقطار ممعدن يمضى فى اتجاه واحد يدهس من يعترضه وقد يتحطم هو أيضا.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة