جبران خليل جبران
جبران خليل جبران


عندما كتب جبران خليل جبران عن «القشور واللباب»

الأخبار

الأربعاء، 03 فبراير 2021 - 10:34 م

بقلم: جبران خليل جبران

مَا صعدتُ عقبة حرجة إِلا بلغتُ سهلًا أخضر، وما أضعتُ صديقًا فى ضباب السماء إلا وجدتُه فى جلاء الفجر، وكم مرة سترتُ ألمى وحرقتى برداء التجلد متوهمًا أن فى ذلك الأجر والصلاح، ولكننى لما خلعت الرداء رأيت الأمل قد تحول إلى بهجة والحرقة قد انقلبتْ بردًا وسلامًا، وكم سرت ورفيقى فى عالم الظهور فقلتُ فى نفسي: ما أحمقَه وما أبلَدَه، غير أننى لم أبلغ عالَم السر حتى وجدتُنى الجائر الظالم وألفيته الحكيم الظريف.

أنا وأنتم أيها الناس مأخوذون بما بان من حالنا، متعامون عما خفِى من حقيقتنا. فإن عَثَر أحدُنا قلنا: هو الساقِطُ، وإن تَمَاهَلَ قُلنا: هو الخَائِر التلِف، وإن تَلَعْثَمَ قلنا: هو الأخرس، وإن تَأَوَّهَ قلنا: تلك حَشَرجَةُ النَّزعِ فهو مائِتٌ، أنا وأنتم مشغوفون بقشور "أنا" وسطحيَّات "أنتم"؛ لذلك لا نُبصرُ ما أَسَرَّهُ الروحُ إلى "أنا" وما أخفاهُ الروح فى "أنتم"، وماذا عسى نفعل ونحن بما يساورنا من الغرور غافلون عما فينا من الحق؟ أقول لكم ولنفسى: إن ما نراه بأعيننا ليس بأكثر من غمامة تحجب عنا ما يجب أن نشاهده ببصائرنا. وما نسمعه بآذاننا ليس إلا طنطنة تشوش ما يجب أن نستوعبه بقلوبنا، فإن رأينا شرطيًّا يقود رجلًا إلى السجن علينا ألَّا نجزم فى أيهما المجرم. وإن رأينا رجلًا مُضرَّجًا بدمه وآخر مخضوب اليدين فمن الحَصافة ألا نُحتِّم فى أيهما القاتل وأيهما القتيل.

وإن سمعنا رجلًا يُنشد وآخر يندُب فلنصبر ريثما نَتَثَبَّت أيهما الطروب، يا أخى لا تستدل على حقيقة امرئ بما بان منه، ولا تتخذ قول امرئ عنوانًا لطويته، فرُب من تستجهله لِثِقَلٍ فى لسانه وركاكة فى لَهْجَتِهِ، كان وجدانُه منهجًا للفِطَنِ وقلبه مهبطًا للوحى. ورُبَّ من تحتقره لدمامةٍ فى وجهه وخساسة فى عَيْشِهِ، كان فى الأرض هبةً من هبات السماء.

قد تزورُ قصرًا وكوخًا فى يوم واحد، فتخرج من الأول مُتَهَيِّبًا ومن الثانى مشفقًا؛ ولكن، لو استطعت تمزيق ما تحوكه حواسك من الظواهر لَتَقَلَّصَ تَهَيُّبُكَ وَهَبَطَ إِلَى مُسْتَوَى الأسف، وانبدلت شفقتك وتصاعدت إلى مرتبة الإجلال، وقد تلتقى بين صباحك ومسائك رجلين فيخاطبُك الأول وفى صوته أهازيج العاصفة، أما الثانى فيحدثك متخوفًا وجلًا بصوت مرتعش، فتعزو الشجاعة إلى الأول، والوهن إلى الثانى، ولو رَأَيْتَهُمَا وقد دَعَتْهُمَا الأيام إلى الاستشهاد فى سبيل مبدأ لعلمتَ أن الوقاحة المبهرجة ليست ببسالة والخجل الصامت ليس بجبانة، وقد تنظر من نافذةِ منزلك فترى راهبةً تسير يمينًا ومومسًا تسير شمالًا، فتقول: ما أنبل هذه وما أقبح تلك! ولو أغمضتَ عينيك لسمعت صوتًا هامسًا: هذه تنشُدُنى بالصلاة وتلك ترجونى بالألم، وفى روح كل منهما مظلَّة لروحى، وقد تطوف فى الأرض باحثًا عما تدعوه حضارة وارتقاءً، فتدخل مدينة شاهقة القصورِ رحبة الشوارع، والقوم فيها يتسارعون هنا وهناك، فذا يخترق الأرض، وذاك يُحلِّق فى الفضاء، وبعد أيام يبلغ بك المسير إلى مدينة أخرى حقيرةِ المنازل ضيقة الأزقة إذا أمطرتها السماء تحولت إلى جزر من الأوحال، وإن شخصت بها الشمس انقلبت غيمة من الغبار، أما سُكانها فما بَرِحوا بين الفِطرَةِ والبساطة كَوَتَرٍ مُسْتَرْخٍ بين طرفى القوس، يسيرون متباطئين ويعملون متماهِلين، فترحَل عن بلدهم ماقتًا مشمئزًّا قائلًا فى سرك: إنما الفرق بين ما شَهدته فى تلك المدينة وما رأيته فى هذه لَهُوَ كالفرقِ بَينَ الحياة والاحتضار، فهناك القوة بمدها وهنا الضعف بجزره.

هناك الجِد ربيع وصيف وهنا الخمول خريف وشتاء، هناك شباب يرقص فى بستان وهنا الوَهَنُ شيخوخةٌ مُسْتَلْقِيَةٌ على الرماد، ولواستطعتَ النظرَ بنور الله إلى المدينتين لرأيتهما شجرتين متجانستين فى حديقة واحدة، وقد يمتد بك التَّبَصُّرُ فى حقيقتهما فترى أن ما توهمته رقيًّا فى إحداهما لم يكن سوى فقاقيع لمَّاعة زائلةٍ، وما حسبتَهُ خمولًا فى الأخرى كان جوهرًا خفيًّا ثابتًا، وليست الحياة بسطوعها بل بخفاياها، ولا المرئيَّات بقشورها بل بلبابها، ولا الناس بوجوههم بل بقلوبهم، ولا الدين بما تظهره الطقوس، بل بما يختبئ فى النفوس، ولا الفنُّ بما تسمعه من نبرات، بل بتلك المسافات الصامتة المرتعشة التى تجيء بين النبرات والخفضات فى الأغنية، وبما يتسرَّب إليك بواسطة القصيدة مما بقى ساكتًا هادئًا مستوحشًا فى روح الشاعر، وبما تُوحيه إليك الصورة فترى وأنت محدق إليها ما هو أبعد وأجمل منها، فلا تحسبنى جاهلًا قبل أن تفحص ذاتى الخفية، ولا تتوهمنى عبقريًّا قبل أن تجردنى من ذاتى المُقْتَبَسَة، ولا تَدْعُنِى محبًّا حتى يتجلى لك حبى بكل ما فيه من النور والنار، ولا تَعدَّنى خَليًّا حتى تلمُسَ جراحِى الدامية.

من كتاب «البائع والطرائف»

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة